26 - 04 - 2024

شاهد على العصر (25) هكذا تحولت إلى خائن وعدو للكنيسة!

شاهد على العصر (25) هكذا تحولت إلى خائن وعدو للكنيسة!

لظروف كثيرة، ولكوني عضوا بمجلس الشعب، تأصلت علاقتي بالبابا شنودة وأصبحت من المقربين من شخصيته حتى وأدركت كثيرا من مفاتيح هذه الشخصية العملاقة . 

مهما كانت قدرة الشخصية وثقافتها ومكانتها، تظل النفس البشرية ضعيفة خاصة عندما تتبوأ موقعا مهما مثل موقع بابا الكنيسة المصرية هذا الموقع ذات القداسة ( لدى تابعيه) يجعلهم يجاملون حتى تتحول المجاملة إلى تقديس للشخص ذلك التقديس الذى يتعدى الاحترام والتقدير، مما يؤثر بلاشك على نفسية صاحب الموقع، لأنه أولا وأخيرا بشر (كلنا فى الموازين إلى فوق)، مما يصيب الذات بإحساس التمايز، الشيء الذى يجعله يقتنع تمام الاقتناع بصحة موقفه دون النظر أو الاستفادة من الآراء الأخرى، مع العلم أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية لاتؤمن بعصمة البابا، كما أنها كنيسة مجمعية أي أن إدارة الكنيسة تتم من خلال قرارات المجمع (مجموع أساقفة الكنيسة) وليس برأي البابا منفردا.

شخصية البابا شنودة ، كانت غير عادية، تختلف عن شخصية سابقه البابا كيرلس السادس الذى كان يطلق عليه رجل الصلاة، لأنه كان يدير الكنيسة بمنطق روحى صرف ولاعلاقة له بالإدارة ولا التدخل فى القضايا السياسية، عملا بقول الإنجيل (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، إضافة إلى الظروف السياسية التى شهدها الوطن فى وجود البابا شنودة.

 كل هذه الظروف وذلك  التكوين جعل النقاش مع البابا فى أي قضية لايثمر غير ما يؤمن ولا يجعله يغير مايقول. أدركت أن ما وصل إليه البابا وما ارتضاه وأرضاه، ألا يكون ممثلا دينيا للمسيحيين المصريين فحسب ولكن أن يكون ممثلا سياسيا أيضا لهم . الأهم هو أن غالبية الأقباط ولظروف كثيرة أيضا، تحدثنا عنها ومنها الموروث التاريخى الطائفى إضافة إلى العمليات الارهابية التى تمت ضدهم فى ظل أسلمة الشارع المصرى تأثرا بسيطرة التيار الأصولي الاسلامى على الشارع، جعلهم يستمرئون أن يكون البابا ممثلهم السياسى وأن تكون الكنيسة بديلا للدولة، فهذا المناخ وما رافقه ممارسات وموروث، جذَّر وكرَّس عملية الهجرة الى الكنيسة مما يجعل الحديث عما هو غير ذلك ليس خروجا على النص فحسب، بل يدخل فى نطاق الاساءة الى المقدس ذاته، فالتراث التاريخى طالما ارتبط بالكنيسة يصبح مقدسا، ناهيك عن موقع بابا الكنيسة الذي أخذ شكل المقدس أيضا. 

ولذا وعندما أدركت أن تدخل البابا سياسيا فى أي قضية تخص المواطنين المسيحيين يحولها من قضية سياسية، تخص مواطنين مصريين  فى إطار علاقتهم السياسية بالدولة، إلى قضية تخص طائفة الاقباط ، استحضارا للنظام العثمانى الطائفى والذى كان لايعطى الطوائف الدينية اى حقوق سياسية قبل أن نعرف مصطلح المواطنة الدستورية، وهذا يعنى اختصار كل المصريين المسيحيين فى شخصية البابا وحسب رؤيته الخاصة، حسبما أوضحنا سابقا، بل تحويل الكنيسة إلى دولة بديلة اسميا وخياليا، لأن الوضع وبكل المقاييس يدحض هذا الخيال المريض وغير الواقعى والذى لايحل مشاكل ولا يعطى حقوقا. وإضافة إلى إسقاط حقوق المواطنة للأقباط، حيث استحسنت النظم السياسية هذا الاختزال. كما أن هناك فرق بين أن تكون هناك قضية او مشكلة تناقش على أرضية المواطنة فتمثل اهتماما لكل المصريين - الذى يتشاركون القضية - وأن تتحول لقضية تخص طائفة فتسقط اهتمام الرأى العام بها،  بل إن الطرح الطائفى يزيد التعنت ويتم أخذ موقف مناقض للحل ، وفى لحظة تاريخية وجدنا أن الصراع قد أخذ شكلا ثنائيا تلخص فى شخصية البابا شنودة وسلوكياته وقراراته كطرف، فى مقابل الجماعات الإسلامية واتباعها وبالطبع كانت النتيجة هى رد الفعل ضد الأقباط عمليا وضد البابا شنودة نظريا وقولا. 

لذلك أصدرت كتابى (من يمثل الاقباط الدولة ام البابا؟) أناقش فيه الدور السياسى الذى فرض على البابا، والذى استحسنه بعدما توافق مع تكوينه الشخصى والسياسي، وان هذا الدور يجب أن يغيب ويظل الدور الدينى للبابا والدور الوطنى للكنيسة. فالكنيسة المصرية صناعة مصرية خالصة مع الأزهر الشريف، حيث يمثلان المكون الاهم فى تشكيل الهوية الوطنية، كما أن الكنيسة طوال تاريخها تقوم بدور وطنى فى مواجهة كل صنوف وأشكال الاستعمار الذي وطئت أقدامه أرض الوطن العزيز. وطوال الوقت كانت الكنيسة ترفض أى تدخل خارجى بحجة حماية الاقباط، وهنا أذكر بأننا توافقنا بل أيدنا دعوت البابا شنودة إلى عدم زيارة القدس إلا بعد تحريرها من الاستعمار الصهيونى وعودة الحقوق الفلسطينية إلى أصحابها. وهذا يعنى أن دور الكنيسة الوطنى غير دورها السياسي، لم ولن أتطرق إلى أي قضايا دينية أو عقائدية أو طقسية فهذا مجال ديني وكنسي لاعلاقة لى به، وإيماني يتطلب الخضوع للكنيسة والبابا كأب روحى لي، أكن له كل التقدير والاحترام فى الإطار الكنسى والروحي والديني، أما ما يخص القضايا السياسية فكل واحد له رؤيته السياسية، خاصة أن البابا ليس ملعبه السياسة ولايجب أن تكون، فموقعه الكنسى ومكانته الدينية تجعله ينأى بنفسه عنها ، حيث السياسة عملية خلافية فى الرأى والموقف والتعبير عنها لايتوافق ولا يناسب جلال منصبه، أي أن تدخل صاحب الموقع الدينى فى السياسة يسئ اليه ويضر بمكانته. وهذا يعنى أننى اختلفت مع البابا شنودة فى إطار ملعبى السياسى وليس فى إطار موقعه الدينى المقدر والمحترم . 

ولكن (وأه من لكن هذه) بعد صدور الكتاب فتحت علئ أبواب جهنم وتحولت إلى عدو للمسيحيين وللكنيسة وللبابا شنودة، بل أصبحت مهرطقا وتجاوز الأمر كل منطق فأصبحت الخائن وغير المسيحى والذى باع نفسه للشيطان.

وزاد الأمر سوءا، موقفى الذى تصديت فيه لأقباط المهجر والذين كانوا يدعون الدفاع عن الأقباط عبر طلب التدخل الأمريكى لحمايتهم، وتم ضم موقفى من معارضة تدخل البابا فى الشأن السياسى إلى موقفى الرافض لسلوكيات أقباط المهجر الذين يغازلون عواطف أقباط الداخل ويخيلون لهم أنهم زعماء التحرر القبطى، مما زاد الامور التهابا وتوترا.

 تحملت من الشتائم والإهانات أنا وأولادى وزوجتى حتى أنهم كانوا يتصلون على التليفون الارضى من أمريكا وكندا وأوروبا وكل دول العالم بعد الثالثة فجرا، لكى يكيلوا لي الشتائم ولزوجتى التى كانت تصر أن ترد على التليفون بنفسها لأنها تعلم ماستسمع من إهانات واساءات لا علاقة لها بأى اخلاق مسيحية أو دينية، والأدهى أنهم يتحدثون من موقع المدافع عن المسيحية والكنيسة فى مواجهة من يهينها، حتى وصلت الأمور إلى التدخل فى زواج بناتى واولادى فكانوا يمنعون من يتقدم إلى الزواج منهم على اعتبار أننى لست مسيحيا واننى احارب الكنيسة وانافق المسلمين والدولة لأهداف ذاتية ولمصلحة خاصة. 

وفى إحدى القنوات التلفزيونية تمت دعوتى ومعى قس يقول أنه يخرج الشياطين، وكنا نناقش موضوع تصوير الشخصيات الدينية التى تجوز فى المسيحية ويتم التحفظ عليها فى الإطار الإسلامي، كنت أناقش الموضوع على أرضية فنية أكثر منها على أرضية دينية وأثناء الكلام ورد على لسانى تعبير المؤسسات الدينية، هنا احتد القس قائلا: يعنى ايه مؤسسات دينية؟ قلت المؤسسات الدينية تعنى الكنيسة والأزهر. قال كيف تتجرأ وتقول إن الكنيسة مؤسسة دينية؟ قلت يا "أبونا" هذا التعبير تعبير سياسى. قال وأنا مالى ومال السياسة، لا تتحدث أمامى فى السياسة. قلت: يا أبونا أنا سياسى وتعبيراتى سياسية، قال بهياج وعلى الهواء مباشرة: أنت ضد الكنيسة وضد المسيحيبن وأنت موش مسيحى! قلت يا أبونا لا يصح الكلام بهذه الطريقة، فأنت كاهن ولايصح أن تقول لأحد أنك لست مسيحيا وعلى الهواء. أصر قائلا: أيوه انت مش مسيحى!.

هنا فقط قلت: أنا مسيحى أكثر منك وانت تتعيش من المسيحية بصفتك كاهنا، والكاهن الذى يتجرأ ويصف آخر بأنه غير مسيحى فهذه وصاية على الإيمان وعودة إلى صكوك الغفران. هنا قام وانسحب من البرنامج ثم عاد، وبعد البرنامج قال لي: أنا خائف على آخرتك، قلت له: وهل هذه طريقة الخوف على آخرة الآخرين؟

 الأهم أن هذا القس أخذ  شريط الفيديو من القناة، واقتطع عبارتى التى قلت له فيها: أنت مش مسيحى وتتعيش من المسيحية، وقام بإذاعة هذا المقطع فى الكنيسة المعلقة لمصر القديمة حتى يثير الأقباط ضدي، وهذه هى الأخلاق المسيحية والقيم الانسانية. ومع هذا تحملت ماتحملت، واعتبرت ذلك ضريبة الموقف وثمن القناعة بالمبدأ، والأهم هو ما حدث بعد البابا شنودة وما يحدث الآن بعد عدم تدخل البابا تواضروس فى الشأن السياسى على غرار ماكان يحدث من البابا شنودة، خاصة بعد فض جانب كبير من أسباب هجرة الأقباط إلى الكنيسة والنزول والمشاركة ولأول مرة فى تاريخ الأقباط فى انتفاضة 30 يونيو 2013، هنا ظهرت والحمد لله إيجابيات عدم تدخل الكنيسة فى السياسة، حيث حدثت كثير من المواقف التى تقترب من تحقيق المواطنة لكل المصريين بلا تمييز ضد أحد، خاصة أن البابا والكنيسة يتداولون الآن نفس الأفكار التى دفعنا ومازلنا ندفع ثمنها فى سبيل وحدة كل المصريين وعلى أرضية المواطنة لهم جميعا. فأين كان أقباط المهجر، وأين كانت أمريكا عندما تم الاعتداء على الأقباط والكنائس بعد فض رابعة. كانت الدولة والمصريون المسلمون يحمون المصريين المسيحيين. 

فالكنيسة لها دورها الدينى والوطنى والدولة لها دورها السياسى الذى يشمل كل المصريين دون تفرقة.
-------------------------------
بقلم: جمال أسعد عبد الملاك *
* سياسي وبرلماني مصري سابق

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان