27 - 04 - 2024

دراما السودان

دراما السودان

بعد مرور عامين على نشوب ثورة السودان الأخيرة فى 19 ديسمبر 2018 ، فلا صوت يعلو على صوت أزمات الاقتصاد الخانقة فى الخرطوم ، وهو ما يدفع الحكم الانتقالى القائم إلى نشر انطباع بأنه حقق إنجازا مدويا ، حين أصدرت حكومة واشنطن قرارها قبل أيام ، ورفعت اسم السودان رسميا من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب ، وهو ما قد يسمح بإعادة دمج السودان فى النظام المالى العالمى ، وجذب تحويلات ملايين السودانيين بالخارج إلى البنوك ، وجلب الاستثمارات الأجنبية ، وتحسين الوضع البالغ التدهور ، إضافة لبعض المعونات الأمريكية العينية والمالية ، ربما كمكافأة على اتفاق تطبيع عقد أخيرا بين السودان وكيان الاحتلال الإسرائيلى .

وربما انطوت أفراح الحكام السودانيين ، سواء فى المجلس السيادى برئاسة الجنرال عبد الفتاح البرهان ، أو فى الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك ، ربما انطوت على مبالغات فى تقدير وزن وأثر القرار الأمريكى ، فإدارة ترامب التى صنعت صفقة المقايضة ، ذاهبة مع الريح فى 20 يناير المقبل ، موعد تنصيب الرئيس الأمريكى الجديد جو بايدن ، ولا تزال المعلقات باقيات فى علاقة الخرطوم بواشنطن ، حتى فى المسألة المتصلة بتداعيات وادعاءات الإرهاب ، فلم تعط الحصانة كاملة بعد لإدارة السودان الجديدة من الملاحقات ، ولا تزال دعاوى قضائية أمريكية منظورة ضد السودان ، برغم دفعه لتعويضات بلغت 335 مليون دولار ، يعتبرها المدعون الأمريكيون غير كافية ، مقابل إنهاء اتهام السودان بالتورط فى تفجيرات إرهابية بأفريقيا عام 1998 ، بل جرت إضافة قضايا جزافية غير مسبوقة ، تتهم السودان أمام المحاكم الأمريكية بالتورط فى تفجيرات 11 سبتمبر عام 2001 ، وتطالبه بدفع 4 مليارات دولار تعويضات للأسر الأمريكية المتضررة ، استنادا إلى " تشريع جاستا" الأمريكى ، الذى يتيح فرصا قضائية لاتهام السودان إلى جوار السعودية وإيران .

وبافتراض إمكانية التوصل لحلول وسطى ، من نوع اقتراح ترامب الذاهبة أيامه ، خفض مبالغ التعويضات المطلوبة من السودان إلى 800 مليون دولار ، وهو ما لا يستطيع السودان توفيره بسهولة ، فوق كونه استمرارا لمسلسل الابتزاز الأمريكى ، يتواضع بمنسوب أحلام حكام السودان الحاليين ، الذين يريدون فتح الباب لإعفاء السودان كليا أو جزئيا من ديونه الخارجية البالغة 60 مليار دولار ، هى بعض تركة ثلاثين سنة من حكم المخلوع عمر البشير ، أورثت السودان انفصالا لجنوبه ، وفقدانا لنحو ثلاثة أرباع حقوله البترولية ، وخسارة لعوائدها بالعملة الصعبة ، وانهيارا فى قيمة الجنيه السودانى ، الذى تدنى إلى أكثر من 260 جنيها مقابل الدولار الواحد ، مع شلل شبه كامل فى نظام الخدمات الأساسية ، وعجز متفاقم عن توفير الاحتياجات اليومية الضرورية كالخبز والوقود ، وارتفاع  فلكى فى الأسعار ، وصل بمعدلات التضخم إلى ما يزيد سنويا على 250% .

وقد يؤدى قرار رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب إلى انفراج محدود ، لا يخفى الطابع الابتزازى للقرار الأمريكى ، وكونه مصمما لتحقيق أهداف أخرى ، تريد جر السودان إلى دائرة النفوذ الإسرائيلى المتسع بالمنطقة ، فاتفاق التطبيع يبدو عاما وأوليا إلى الآن ، فلم يتم تبادل علاقات دبلوماسية كاملة بين الخرطوم وتل أبيب إلى اليوم ، ولا يزال الاتفاق نفسه بانتظار اختبار جدى ، حين يجرى عرضه على "مجلس التشريع الانتقالى"  ، الذى جرى الاتفاق على تكوينه فى الوثيقة الدستورية الحاكمة ، وكان مقررا تشكيله قبل نهاية عام 2019 ، ومن 300 عضوا ، تحوز "قوى الحرية والتغيير" ـ قائدة الثورة ـ على أكثر من ثلثيه ، ويحرم من عضويته حزب البشير المخلوع ، وحلفاء البشير من "الكيزان" بحسب التعبير السودانى الدارج ، فى إشارة إلى جماعة الإخوان وأخواتها ، وهو تصور لم يتم تنفيذه بعد ، فمحاكمات البشير لم تنته ، ولا يزال الخلاف ظاهرا حول تسليمه لمحكمة الجنايات الدولية ، وهو ما يصر عليه قادة الحركات المسلحة الخمس ، الذين وقعوا اتفاق سلام "جوبا" مع حكام الخرطوم ، ناهيك عن حركتى "عبد العزيز الحلو" و"عبد الواحد نور" وغيرهم ، الذين لم ينضموا بعد إلى اتفاق السلام ، ولا يكتفون بإجراءات توزيع السلطة والثروة المتوافق عليها ، وكل هؤلاء يريدون طبعا مشاركة بنصيب الربع على الأقل فى المجلس التشريعى الانتقالى ، إضافة لمطالب المشاركة بنسبة أكبر فى الحكومة ، وهو ما دفع البرهان إلى تشكيل ما أسماه "مجلس شركاء المرحلة الانتقالية" ، الذى يضم ممثلين للحركات المسلحة الشريكة فى اتفاق السلام ، فيما بدا أن حكومة حمدوك تعارضه ، بدعوى عدم النص عليه فى الوثيقة الدستورية ، وسط خلافات متصاعدة بين أطراف جبهة "قوى الحرية والتغيير" ، وانسلاخ بعضها ، مع انشطارات وانشقاقات متوالية فى "تجمع المهنيين" ، دينامو الحركة الأساسى فى شهور الثورة ، وكلها عقبات تعطل عملية تشكيل مجلس التشريع ، فى مرحلة الانتقال الممتدة حسب الوثيقة الدستورية إلى نهايات عام 2022 ، المقرر أن تجرى عندها انتخابات عامة ، تقود كما هو مفترض إلى "دولة برلمانية تعددية لا مركزية" بحسب نص وثيقة الاتفاق بين العسكريين والمدنيين شركاء الثورة الأخيرة .

وبالطبع ، فلا أحد يجادل فى الحيوية السياسية الهائلة للشعب السودانى ، وقد تعددت ثوراته منذ استقلال السودان أول يناير 1956 ، واستطاع خلع ثلاث نظم حكم عسكرية قمعية ، بثورات 1964 و1985 و2019 ، لكن فترات الحكم المدنى بعد الثورات كانت قصيرة العمر ، سنتان قبل انقلاب إبراهيم عبود ، وخمس سنوات بين حكمى الجنرالين عبود و جعفرالنميرى ، وأربع سنوات بالكاد قبل حكم الجنرال البشير ، مدعوما بإخوان حسن الترابى ، بينما كانت أغلب سنوات السودان المستقل الخمس والستين تحت حكم الجنرالات ، مع عدم وجود فوارق ايجاب ظاهرة لصالح نظام بعينه ، ومع آلام لم تتوقف طوال الوقت فى حروب أهلية شرسة ، بلغت ذروة اتساعها وضراوتها  فى سنوات البشير الثلاثين ، وراح ضحيتها الملايين قتلا وتشريدا ، فيما بدا كوباء متصل مهلك ، قد ينتهى بالشروع فى اتفاقات سلام أخيرة ، لم تكتمل بعد ، ومن دون الوصول لجواب نهائى عن صيغة الحكم الأمثل للسودان ، البلد فائض الغنى بموارده الطبيعية ، وفائض البؤس بأقداره السياسية ، فما من بلد فى المنطقة ، أغنى بموارده من السودان ، الذى كان الأكبر مساحة عربيا وأفريقيا ، قبل ضياع ربعه بانفصال الجنوب ، ثم صار فى المركز الثالث من حيث المساحة ، بعد الجزائر والكونغو الديمقراطية أفريقيا ، وبعد الجزائر والسعودية عربيا ، وصارت مساحته أكثر من مليون و 800 ألف كيلومتر مربع ، وبعدد سكان معقول يجاوزالثلاثة والأربعين مليونا ، لديهم موارد مياه النيل والأمطار الموسمية الكثيفة ، ومخزون وافر من البترول والذهب والمعادن النفيسة ، وإطلالة كبرى على البحر الأحمر ، وجوار ممتد لسبع دول ، وكل ذلك وغيره ، جعل السودان مطمعا لآخرين ، شاركوا بنشاط  فى إشعال حروبه الداخلية المدمرة ، ومن وراء دعاوى التناقض بين عناصر "العروبة"  و" الزنوجة" ، برغم أن أغلب أهل السودان يدينون بالإسلام ، وبين الإسلام والتعريب صلات "عروة وثقى" ، عملت أطراف خارجية على تفكيكها ، وساعدتها أطراف داخلية ، أثقلت التسامح والتنوع السودانى بتشدد طبعات وخطابات وتفاسير صحراوية وسياسية للإسلام ، جرى التخفف منها جزئيا بعد الثورة الأخيرة ، لكن مشهد الختام لم يستقر بعد ، برغم التوافق المتعثر على حكم انتقالى عسكرى ومدنى معا ، ربما من غير ضمان لدوام الانسجام ، ولا وصوله المأمون إلى غايته ، فقد تكون "اللامركزية" المتوافق عليها من الحلول المناسبة لحكم السودان ، لكن التخوف يظل قائما من المصائر "الفيدرالية" الواردة ، وتجاربها المؤلمة عربيا وأفريقيا ، فقد كانت أسهل وصفة لإضعاف وإفناء الدول ، وعلى نحو ما جرى للعراق ، وما جرى ويجرى فى أثيوبيا المجاورة للسودان ، والمرشحة لنهايات التفكيك اليوغسلافى ، وما لم تتوازن أى "فيدرالية" قامت أو تقوم فى السودان ، مع سلطة اتحادية مركزية قوية جامعة ، قد يكفلها النظام الرئاسى أكثر من البرلمانى ، ما لم يكن التوازن الدقيق ممكنا ، سواء بحكم مدنى أو عسكرى أو مختلط ، مع تفضيل الحكم الديمقراطى طبعا ، ما لم يحدث التوازن المحكم ، فربما يعود السودان إلى مرابع التيه والعجز من جديد ، وتكرار الخيبات التى لا تنتهى ، والفشل المزمن فى تنمية البلد فائق الثراء بموارده الأولية ، فليست القصة فى إعادة دمج السودان بالنظام المالى الدولى ، ولا فى معونات تأتى وتتبخر ، ولا فى صلاح وأمان نسبى بالتعددية الضامنة للتنوع ، بل أصل القصة فى توفير حكم قوى وديمقراطى معا ، يبلور شخصية وطنية أكثر تجانسا ، ويقود عملية تنمية زراعية وصناعية كبرى ، تنهى دراما البؤس والعوز متكرر الحلقات ، وتحول السودان إلى بلد غنى ومتطور كما يستحق .
---------------------------
بقلم: عبد الحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حرب الاستنزاف الأوكرانية





اعلان