26 - 04 - 2024

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (1) عسر البدايات

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (1) عسر البدايات

خرجت من مصر وعمري 23 عاما.. تغربت وما زلت.. وعانيت كثيرا كما عانى رفقاء الدرب، وإن كانت معاناتنا متفاوتة ومنا من لم يعاني لكنه كان شاهدا على فترات من التجربة الحياتية، "الصديق ورفيق الدرب الشاعر ابراهيم المصري، الصديق الشاعر والقاص والناقد محمد عطوة، الصديق القاص والناقد عبد الفتاح صبري، الصديق الشاعر حسين القباحي، الصديق الشاعر ضياء طمان، الصديق الشاعر مجدي أبوزيد، وصديقات وزميلات شاعرات وصحفيات وقفن إلى جواري في أصعب لحظات البدايات أرد جميلهن كتابة في سياق سيأتي لاحقا".. (أذكر هؤلاء الأصدقاء لأوثق لكل كلمة سأكتبها لاحقا).

ها أنا أطرق أبواب الستين.. بنيت نفسي بنفسي.. لم يكن معي في غربتي أخ أو عم استند إليه.. وخرجت من تجربتي بأن لا أخاف أحد.. أفعل ما أريد دون أن أختبئ وراء أقنعة .. أصلي وأصوم.. و"أسهر وأعيش حياتي جهرا".. لا أحب اللعب في الغرف المغلقة ثم أخرج مع مسبحة مرددا قال الله وقال الرسول.. لذا .. في حلقي غصة تجربة طويلة.. كنت أريد لها أن تخرج في سيرة روائية كما فعلت الصديقة الصحافية منى سعيد..

منذ سنوات بعيدة تراودني الكتابة عما مررت به.. وقد شرعت في ذلك قبل 3 سنوات، لكن راجعتني صديقة أن أتريث وأن لا أكمل السير في حقل من الألغام.. فاستجبت..

سأكتب دون ترتيب للأحداث .. تلميحا بالتأكيد في المواضع الحساسة .. مراعاة لمكان النشر والمساءلة القانونية إن صرحت بالأسماء .. وإن قُدِر للكتابة أن تخرج في كتاب فلذلك تقديرات مغايرة..

- هناك أحداث أمر عليها لا صلة لاحد بها.. هي محض مشاهدات شخصية..

- صادقت وعاشرت جنسيات مختلفة حق الصداقة والمعاشرة.. في مجتمع يحترم خصوصية الأفراد ما لم تتعد على خصوصية الآخرين أو تسيء للذوق العام.. تجربة تقاطعت مع خلفية صعيدية .. نعم عانيت.. لكنني تفهمت ذلك حين استطعت الخروج من حيز التفكير المغلق..

- أعرف أنني مطالب بأن أتحدث عن نفسي .. نعم.. كم من خنجر نالني من أقرب الأصدقاء.. نعم سأظل وفيا وأذكرهم بالأصدقاء .. لكنني لست مسامحا ..

– سأكتب .. ربما ظروف مصر السياسية الآن لا تسمح بالحديث عن الخاص.. ربما لأنني بعد أيام قليلة مقدم على ظروف صحية تحول بيني وبين البدء.. لكنني سأكتب ..

أول أمسية لي في أسوان كانت منذ سنوات رتب لها الصديق الشاعر الراحل محمود المغربي، والصديق الجميل الشاعر حسين القباحي.. بحكم أنني لم أكن متواصلا مع أي من صالونات الأدب في كل مدن أسوان.. وفي هذا السياق .. أنا فقط عضو في اتحاد كتاب الإمارات ولم أجدد عضويتي منذ سنوات..  لا انتمي إلى أي تكتل أو حزب أو جماعة أو "شلة" سواء في الإمارات أو في مصر.. أنا حر.. ولم يحدث أن أرسلت نصا "شعريا كان أو قصصيا" إلى أي مطبوعة في أحلك ظروفي المادية رغم إلحاح الصديق عبد الفتاح صبري في مجلة الرافد.. وآخرون.. قناعة مني أن لا مجاملة مع ما أكتب.. والحمد لله أن أكرمني بجوائز عديدة في مسابقات القصة القصيرة "القصة الواحدة كما هو الحال مع مسابقة غانم غباش، ومسابقة مجلة الصدى أيام الصديق العزيز المبدع ناصر عراق والصديق الشاعر يحي البطاط"، وصولا إلى جائزة الشارقة للإبداع عن المجموعة القصصية "عتمة المرايا"..  

انتهت الأمسية.. تعرفت إلى بعض أدباء أسوان لأول مرة.. تبادلنا أرقام الهواتف.. تواصلنا عبر الفيس بوك.. تكررت اللقاءات في إجازات لاحقة 

تركت أسوان عام 1983 .. ماذا تغير؟؟

(1)

الثامنة من مساء السابع والعشرين من مايو 1983، صالة القادمين في مطار دبي الدولي .. حطت قبل قليل إحدى رحلات خطوط مصر للطيران قادمة من مطار القاهرة.. مجموعة ضمت خليطا عجيبا من محافظات مختلفة ..  مؤهلات دراسية بدرجات متفاوتة.. وكثيرون ممن لا يحملون شهادات دراسية .. لكن الجميع جاء تحت مسمى مهنة واحدة.. "عامل".. كانت وزارة العمل والعمال في الإمارات قد أصدرت آنذاك قانونا جديدا يلزم شركات القطاع الخاص بأن تكون لديها عمالة عربية بنسبة 30% من مجمل العاملين لديها.. ويشاء القدر أن يكون أحد المسؤولين الكبار في الشركة مصريا قاهريا من أصول أسوانية .. المرحوم أحمد عبدالله.. أراد أن يخدم الباحثين عن فرصة عمل.. ومن جهة ثانية خدمة الشركة في توفير العمالة.. (كانت الشركة قد استقطبت عمالا من السودان أيضا).

الثامنة مساء.. لم نكن نفكر باللحظات (الساخنة) التي مررنا بها أثناء خروجنا من باب الطائرة ونزولا على السلم ودخول الحافلة من بعد.. لكن سخونة اللحظات عادت إلينا فور خروجنا من المطار.. درجة الحرارة لم تكن مفاجئة لنا كأسوانية.. لكن نسبة الرطوبة العالية جعلتنا جميعا في حالة يرثى لها.. 

كانت عربة البيك أب المغطاة بانتظارنا.. ومندوب الشركة (ابن العم والجار العزيز محمد سعيد).. ألقينا بحقائبنا الخاوية وبثقل همومنا في صندوق العربة ثم لحقنا بهما.. ما زالت عبارات الوداع طازجة في الآذان .. ونظرات الأمهات لم تفارق المخيلة.. كما لو كانت أحلام المنكسرين تبحث عن تربة تحتضن تطلعاتها.. 

وصلنا إلى مقر سكن الشركة في منطقة القصيص.. سور محيط بكامب.. صفوف غرف بينها مساحة تكفي لإقامة جلسات السمر..في أخر كل صف مجموعة حمامات ومطبخ مشترك.. الغرف من القوالب الاسمنتية (بدون محارة).. السقف من ألواح الزنك والصفيح.. مروحة سقف لتقليب اللهيب،  تحتاج إلى وقت لكي تعتاد على صوتها الكئيب لكي تنام، ولا عجب إن صحوت على صوت سقوطها وارتطامها بالأرض..

نظرنا إلى بعضنا البعض.. كان معظمنا يعرف الآخر بحكم بلداننا المتقاربة.. واحد فقط .. أقسم أن لا يبدل ملابسه.. أن لا ينام في هذا المكان.. أن لا يمكث ساعة واحدة .. أريد العودة إلى مصر الآن.. هكذا أصر أحدهم على موقفه رغم محاولات الشركة بأن ينتظر حتى الصباح.. لكنه خرج من الكامب في نفس الليلة.. ولم يعد (ليس مجديا أن أذكر المحافظة التي جاء منها.. لكن كان لديه مبرراته المنطقية). 

كانت مهامنا كعمال بناء تقتضي أن نصحو مبكرا.. لنتسابق ونحشر أجسادنا في صندوق البيك أب هروبا من الوقوف في صندوق الشاحنة الكبيرة (القلاب).. كما هي العودة مساء.. نجهز وجبة العشاء ووجبة الغد التي نأخذها معنا إلى الموقع.. لا بأس من أمسية سمر صعيدية وغناء (الكف).. لا بأس أن يشطح البعض ليلعب المصارعة الحرة.. لكن المؤكد أن كرة القدم لم تغب.

(2)

مضت أيام وأشهر عَمَلِنا في شركة أسكون للبناء، ثقيلة رغم قصرها.. تخللتها أحداث كانت بمثابة الاكتشافات الأولى لمعنى أن تكون وحيدا رغم كثرة الحالمين حولك.. من المؤكد أن الأحلام كانت مختلفة.. كان هناك من يرى تحت قدميه فأجاد حساب الساعات الإضافية التي يعملها.. وهناك من لم يلتزم بساعات العمل الرسمية أمثالنا الذين ضربوا عُرض الحائط بكل نصائح الممسكين على الدرهم .. أذكر صديقي الفنان التشكيلي السوداني ود النعمة.. لم يعمل يوما واحدا في مواقع البناء.. كان همه أن ينتقل للعمل في شرطة دبي وكان له ما أراد ولكن بعد طول عناء.. التقت أفكارنا (التشكيلية الفنية الثقافية).. كنت متكئا على حصيلة قرائية لا بأس بها.. وخربشات كتابة غير ناضجة.. وكان لزاما علينا أن نضحك لنعيش.. وأن نمارس الهوايات التي نحب لكي نطوي صفحة يوم ممل.. أن نعمل قدر المستطاع لكي نلبي مصروفاتنا اليومية التي لا تكاد تذكر.. لكن كان هناك الحلم الذي يراودنا.. أن تظل رجلا ضد الفشل.. أن ترى صورتك الباسمة خلف الجدران القاسية.. لسنا وحدنا من كنا نفكر بهذه الطريقة.. بل هناك الكثيرون الذين تمردوا على وضع لا يليق من حيث العمل أو المقابل المادي.. رغم تقديرنا لكل عمل شريف قمنا به.. البعض التحق للعمل في الجيش وكانت الرواتب وقتها هي الأعلى هناك.. ود النعمة وصديقنا السوداني أحمد التحقا بالعمل لدى شرطة دبي.. أما أنا فقد اخترت العمل في بلدية دبي.. رغم أن أحدهم جاء لي بالموافقة المبدئية للعمل في الجيش.. كنت، وما زلت أرى أن "أفرولي المصري" هو مقاسي الوحيد..

الاختيار لم يكن رفاهية بالنسبة لي.. بل هو المتاح في ذلك الوقت.. قال ود النعمة: إذا كنت موافقا للعمل في بلدية دبي فلنذهب يوم الخميس لنلعب كرة القدم في النادي السوداني.. ومن ثم نحضر التواشيح الدينية في مسجد النادي وبعدها ربك يسهل.. التقيت وقتها بمدير عام بلدية دبي كمال حمزة.. الذي أخذني من يدي وسلمني إلى المرحوم على لاشين الذي كان يعمل وقتها في كراج بلدية دبي بما فيه قسم المواصلات العامة الذي التحقت للعمل فيه.. قاطع تذاكر.. كان شرطهم الوحيد أن أدبر نقل كفالتي من الشركة للبلدية.. فقد كان القانون يمنع نقل الكفالات إلا بشروط.. لكن لكل شروط استثناءات بتدبير من السماء.

ما بين عملي في الشركة وانتقالي إلى بلدية دبي.. عملت في سوبر ماركت لرجل مصري.. أحدهم أخذني إليه لأقوم بتوصيل الطلبات إلى المنازل.. أخفيت ضيقي وأنا أحمل صندوق البيبسي خلف ممرضة منتشية بهز أردافها أمامي حتى وصلنا إلى شقتها.. اعطتني الحساب .. عدت إلى المحل.. أعطاني درهما قال إنه بقشيش.. رفضت.. ذهب ليستريح في بيته.. جاءت ابنته طالبة الاعدادية.. قالت بنبرة آمرة: "اطلع السلم حط الصابون فوق.. طب نزل الصابون تحت.. طب جيب .. طب حط.."

حين عاد من قيلولته أرسل أحدهم ليستفسر  لماذا تركت المحل؟ إلى يومنا هذا لم يعرف لماذا رفضت أيضا أن آخذ أجري عن العمل إلى ما بعد الظهيرة.. غير أنني خرجت من عملي في السوبر ماركت بأن تعرفت على صاحب قرطاسية.. كانت لديه مجموعة عناوين معتبرة من الكتب.. كنت اتردد عليه من حين إلى آخر.. كان سعيدا بزيارتي له بصحبة ود النعمة.

(3)

أكتوبر 1984 .. استلمت العمل في بلدية دبي.. هكذا يكون قد مر عام وأربعة أشهر على تواجدي في دبي.. عملت في تلك الفترة مع شركة أسكون خمسة أشهر تقريبا.. لم أكمل أيام شهر واحد منها في العمل.. كنت استلم في نهاية الشهر ما يكفي بالكاد للمأكل والسجائر.. أكاد أجزم أن مصاريف السجائر كانت أضعاف نظيرتها للمأكل.. بقية أشهر تلك الفترة كانت أعمالا متفرقة.. مقاولة "صنفرة" لأبواب فيلا مع " تنظيف وتنعيم" قصدير جبس الأسقف المعلقة (شراكة مع آخرين) .. وأعمال يوميات متفرقة في نقل الأثاث .. وأيام أخرى كثيرة إنزواء مع الكتب .. والنوم هروبا من مفاجآت الغد..

شارع ترابي يفصل الكامب عن مساكن بلدية دبي وملعبها الترابي الكبير الذي يطابق ملاعبنا الترابية في الصعيد.. ارتبطت بهذا الملعب كثيرا.. وعلى الرغم من أنه تابع لسكن البلدية .. إلا أن كل اللاعبين كانوا من العاملين في شرطة دبي الذين يقطنون في بنايات القصيص.. أو من العاملين في الشركات الخاصة أمثالنا.. أو من سكان القصيص .. 

في ذلك الوقت خصصت دبي منطقة لسكن العمال أطلق عليها (سونابور).. وكان لزاما على كل الشركات أن تنقل عمالها إلى هناك بعيدا عن مساكن العائلات .. وكانت بلدية دبي سباقة في بناء مسكن عمالها في تلك المنطقة.. كانت على ذات النظام.. صفوف غرف تجمعها حمامات مشتركة وصالة مطبخ للجميع.. غير أنها كانت مجهزة من حيث البناء والسقف الأسمنتي والتشطيب الجيد مع حيز لجهاز التكييف.. فرق بالطبع بينها وبين الغرف في كامب شركة أسكون.. ومع ذلك فضلت أن أظل لفترة في غرفة الكامب رغم عملي في البلدية.. أولا لتعلقي بالمكان وبالملعب .. وثانيا لعدم قدرتي على تأثيث غرفة وأنا المثقل بأعباء تحتاج لالتقاط الأنفاس..

منذ طفولتي مهووس بحلم قيادة السيارات.. وتزامن جمع شتاتي المادي مع عرض أحد الأصدقاء السودانيين سيارته للبيع (تويوتا 2 باب – 700 درهم فقط.. لو وجدتها اليوم أشتريها بعشرة آلاف).. شجعني على شرائها زميل في الشركة لديه رخصة مصرية وبالطبع فكرة عن القيادة.. بدأت التعلم تحت إشراف ( بلدياتي تمساح).. (دوس دبرياش.. حط الغيار.. دوس بنزين.. دمممممممممممممممممم.. في جدار غرفة الهنود يا باشا).. احتجت إدارة الشركة.. (طز .. إيه يعني؟ ..دممممممممممممممم .. سور الكامب يا معلم..).. 

في النهاية تعلمت أولويات القيادة رغم أنف إدارة الشركة وتذمر سكان الكامب.. ما ساعدني في الحصول سريعا على رخصة القيادة في غضون شهر فقط من تقديم أوراق الإختبارات.. 

حتى الآن لا أعرف إن كان حصولي على رخصة القيادة نعمة.. أم سببا في شقائي لبعض الوقت .. فقد استفدت لاحقا للعمل بموجب الرخصة.. وسهلت أيضا تنقلاتي (بسيارتي) من دبي إلى الشارقة حيث اتحاد كتاب الإمارات وصحبة الوسط الثقافي..  لكنني كنت أيضا غرا.. وصيدا سهلا لتجار السيارات المستعملة (المعطوبة) والتي كانت رهينة كراجات التصليح أكثر من استعمالها على الأسفلت.. أذكر أول سيارة أشتريتها فور استلامي رخصة القيادة.. (داتسون استيشن).. أكاد أجزم بأنني السائق الوحيد في دبي الذي قاد سيارة تنفث دخانا كثيفا يحجب رؤية سائقي السيارات خلفي..
---------------------
بقلم: عز الدين الأسواني *
* شاعر وقاص مصري مقيم بالإمارات

مقالات اخرى للكاتب

يوميات مبدع أضناه الاغتراب (2) أيام البلدية





اعلان