26 - 04 - 2024

لبنان على صليبه

لبنان على صليبه

تكاد لا تسمع فى لبنان وعنه إلا التخوف من مصائر الانهيار ، مع أن الانهيار جرى ويجرى ، فقد نزل أكثر من نصف اللبنانيين إلى ماتحت خط الفقر ، قد يزيدون عاجلا إلى نسبة الثلثين، مع خطة إلغاء دعم الوقود والأدوية والأغذية، ونفاد الأرصدة المالية الاحتياطية إلا من قليل، وعبثية أى معنى لحديث مضاف عن تهاوى الليرة اللبنانية، فقد جاوزت من زمن حاجز الثمانية آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد، كل ذلك والديون تتضخم، وصرخات مقاومة الفساد تذهب مع ريح الخراب، ودقات إشهار الإفلاس العام تصم الآذان .

والدولة فى لبنان صارت من ورق وعلى الورق ، لم يعد أحد يهتم بما تثيره من ضوضاء ، فثمة رئيس جمهورية قابع فى قصر "بعيدا" ، يكاد لا يفعل شيئا سوى الشكوى، وسوى مواصلة العجز البليد ، والتبشير بذهاب لبنان إلى محطة جهنم، وتقطيع الوقت بدعوى انتظار تشكيل حكومة، وطلب عون لا يأتى من المبادرة الفرنسية، التى يعيقها بنفسه، ويعقد مهمة تشكيل حكومة اختصاصيين برئاسة سعد الحريرى ، الذى يستميت فى تعويم نفسه ، برغم أنه كان استقال قبل أكثر من عام ، مبادرا بالاستجابة لغضب اللبنانيين فى انتفاضة 17 أكتوبر 2019 ، التى تتعالى أنفاسها بين الحين والآخر من دون نجاح يذكر، لا فى تصفية الحساب مع امبراطوريات النهب ، ولا فى زحزحة الطبقة الطائفية عن كراسيها ، بينما تبقى حكومة حسان دياب فى ضباب المشهد، برغم تقديمها استقالتها رسميا من شهور، واستمرارها فى "تصريف أعمال" غائبة بالجملة ، فما من عمل يستجد فى لبنان غير زحام الكوارث، من الانهيار الاقتصادى والمالى، إلى توابع انفجار المرفأ، واحتراق وتهديم ثلث العاصمة بيروت، وقسوة جائحة كورونا ، التى زلزلت أوضاع اقتصادات أقوى من لبنان بمراحل ، فما بالك بالبلد الصغير الجميل، الذى تقوده الأقدار إلى مصير لا يستحقه شعب عظيم ، ملأ دنيا العرب طويلا بحيويته وإبداعه وصموده الباسل المتحدى لنوائب الموت والدمار، فيما تتراخى حبال الصبر انتظارا لإعلان تشكيل حكومة الحريرى الجديدة ، المكونة كما يقال من 18 وزيرا اختصاصيا، جرى تقديم لائحتها المبدئية إلى الرئيس ميشيل عون قبل أيام ، وتركت فيها خمسة مقاعد خالية ، ليختار أسماء شاغليها الرئيس ، الذى يريد وزارتى الداخلية والطاقة لجماعته فى "التيار الوطنى الحر" ، وهو ما يرفضه الحريرى ، ويستقوى بضغوط فرنسا ، التى نصحت باختيار مستقلين تماما لشغل مناصب وزراء العدل والطاقة والداخلية، وعلى أن يكون التشكيل منتهيا ومصادقا عليه من مجلس النواب ، وفى أوان غايته 21 ديسمبر 2020 ، موعد زيارة الرئيس ماكرون الثالثة  لبيروت المنكوبة .

وقد لا يصح أن يسأل أحد عن ذنب لبنان، وبأى جريرة يقتلونه؟، ويدقون المسامير فى جسده الجريح المعلق على الصليب ؟ فالجواب أكثر من بديهى، وجريمة لبنان أنه لبنان، بلد مختلف، وشعب يعيش فى قلب عاصفة ، اقتلعت بلدانا أكبر مجاورة كالعراق وسوريا، وزجت بهما فى نفق حروب لا تنتهى ، بينما ظل لبنان الأصغر فى أمان نسبى، استفاد من عظة حربه الأهلية المتقادمة ، التى استمرت على مدى 15 سنة ، وقتلت من أهله أكثر من مئة وعشرين ألفا ، ثم قام البلد من تحت الردم، وعادت حواسه تتفتح، وإبداع ناسه يتألق، وعطاؤه يتدفق، كجزيرة حرية مضيئة وسط ظلام عربى خانق ، وكقلعة مقاومة بلا نظير فى نصف القرن العربى الأخير، مشت عكس اتجاه ريح المستسلمين المستذلين، وحررت أرضها المحتلة شبرا فشبرا، ومن دون أن تعطى كيان الاحتلال الإسرائيلى صك أمان، ولا اتفاق تطبيع ولا معاهدة استسلام، ثم خاضت حروبا هى الأطول عمرا فى تاريخ المنطقة المعاصر، وصار لبنان الأضعف فيما مضى ، هو الأقوى بامتياز، الذى لايخشى العدو من أحد شرقا وشمالا ، قدر ما يخشى المقاومة اللبنانية متعاظمة القوة ، التى يعدها العدو أكبر خطر على وجوده الغاصب ، ومن دون أن يفلح مرة فى ردعها، وهو ما يفسر كل هذا الحقد المتكالب على لبنان ، والرغبات الحارقة الثأرية فى إطفاء أنواره، وبحلف واسع من المتربصين، يبدأ فى واشنطن ولا ينتهى فى تل أبيب ، ويكاد لا يستثنى عاصمة عربية متآمرة مكتنزة لفوائض الأموال الفلكية ، التى تدفع منها مئات مليارات الدولارات لواشنطن ، بل ولتل أبيب مباشرة، بعد عقد ما يسمى "اتفاقات إبراهام" ، التى تدشن حلفا فى المشرق والخليج بقيادة إسرائيلية مباشرة، يضع رأس حربته على عنق لبنان بالذات، وبدعوى مواجهة إيران ، التى دعمت المقاومة اللبنانية بالمال والسلاح، بينما تخلى عنها "الإخوة" العرب والخليجيون بالذات ، بل وحاربوها بحمية تفوق حماس الإسرائيليين والأمريكيين، وكلهم صاروا يحاربون لبنان كله، وليس فقط "حزب الله"، وبهدف تجويع وتحطيم البلد عقابا له على احتضان المقاومة، التى هى من اللبنانيين لا الوافدين، بينما لا تتأثر المقاومة ولا بيئتها الاجتماعية الحاضنة كثيرا، وتواصل عيشها المعتاد فى أقسى الظروف، وبمؤسسات "القرض الحسن" لا المصارف اللبنانية الرسمية ، التى ذهبت فى طريق الهلاك ، وكبلتها سلاسل العقوبات الأمريكية المتوالية، التى ادعت أنها تستهدف المقاومة وأنصارها ، ولم تكتف بما تصورته عقابا لحزب الله الموصوف عندها بالإرهاب،  بل أكملت دورة حصارها، وتوسعت لتعاقب حركة "المردة" المسيحية بقيادة سليمان فرنجية ، بعد عقاب حركة أمل الشيعية الحليفة لحزب الله ، وفى صورة معاقبة على حسن خليل من "أمل"، ويوسف فنيانيوس من حركة "المردة"، وكلها أسماء قد لاتكون بعيدة عن الفساد ، تماما كجبران باسيل ـ زعيم التيار العونى ـ الذى لحقته العقوبات، لكنهم لا يعاقبون أمريكيا لفسادهم المرجح، بل لموقفهم المساند لحزب المقاومة، الذى يحظى بأوسع قاعدة تأييد فى صفوف الشيعة، وهم أكبر طوائف لبنان عددا اليوم ، ولا يراد من سيل العقوبات الأمريكية، ولا من تخلف "صهاينة" العرب عن نجدة لبنان ماليا، لا يراد سوى دفع كل الطوائف لحرب أهلية لا تبقى ولا تذر، بينما "حزب الله"، سواء أحببته أو كرهته، وله آثام لاتخفى، من نوع تدخله فى اليمن، ومشاركته الدموية فى حروب المأساة السورية، لكن وجوده الأقوى فى لبنان، يظل الضمانة الكبرى المتوافرة لمنع انزلاق لبنان إلى حرب أهلية جديدة ، تخشاها الأطراف المستعدة لتجاوب مع التحريض الأمريكى الإسرائيلى الخليجى التطبيعى، ربما لأنها تعرف مسبقا بنتائج أى شروع فى حرب داخلية ، قد يحسمها "حزب الله" فى ساعات، خصوصا مع الضعف التكوينى الخلقى فى الدولة اللبنانية ، التى تبدو أقرب إلى شركة مساهمة منها إلى معنى الدولة الحارسة ، فمع طبع المحاصصات الطائفية التى ولد بها لبنان، قد تتوافر حريات أكثر ، لكن الحريات لا تتحول أبدا إلى ديمقراطية تحكم، ولا إلى فصل سلطات موجودة صوريا ، مع تفاقم عجز الصيغة الطائفية تحت وطأة الكوارث المستجدة، وتفسخ معانى وأثر الرئاسات والحكومات، وتفشى الفساد الحاكم بأمره، وحرب التواطؤ الطائفى ضد الانتفاضة اللبنانية الأحدث، التى طاردت حلما بدا مستحيل التحقق، يبغى قيامه لبنان جديد على أساس وطنى جامع لا طائفى مغلق عاجز بالجملة .

والمحصلة مع زحام التوازنات والمخاطر والتآمر، أن يظل لبنان معلقا على صليبه، فلا "الضغوط القصوى" قد تجره إلى حرب هلاك أهلى، ولا البلد قادر على النجاة بنفسه من دون كفيل من خارجه ، وما من أفق مفتوح على فرص إنقاذ عاجل ، حتى لو تشكلت الحكومة الجديدة، ربما بانتظار تسلم جو بايدن لكرسى البيت الأبيض، وما قد يعقبه من انفراج نسبى فى علاقات إيران مع واشنطن ، وإن كان الانفراج لا يبدو مؤكدا ولا سريعا ، فسوف يحتاج بايدن إلى شهور، يركز فيها على ترميم الوضع الداخلى فى أمريكا نفسها ، ثم يبدأ الحركة على صعيد العالم وبضمنه المنطقة ، فهو يبدى استعدادا مبدئيا للعودة إلى الاتفاق النووى مع إيران، ولكن مع شروط أصعب ، تتجاوب إلى حد ما مع مطالب إسرائيل وكيانات التطبيع الخليجى ، من نوع تجميد برنامج إيران الصاروخى ، وتقليص تمدد النفوذ الإيرانى، وهى شروط تؤيدها الدول الأوروبية المستبشرة بقدوم بايدن ، ولا يحتمل أن تتجاوب معها طهران ، وهو ما قد يعنى استطرادا، أن عذاب لبنان قد تتوالى فصوله لزمن إضافى ، فلبنان هو الترمومتر الحساس لأوضاع المنطقة، وهو الجرم الصغير الذى ينطوى فيه العالم الأكبر ، وتتأثر خلجاته تلقائيا بما يجرى من حوله ومن وراء المحيطات .
---------------------------
بقلم: عبد الحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

عودة لإيران والكيان





اعلان