26 - 04 - 2024

جامعات مفتوحة على الشوارع

جامعات مفتوحة على الشوارع

من الأمور التي ترد على خاطري دوماً، ذلك الحديث السريع والخافت الذي أدرته ذات مرة مع بعض أساتذتي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، عن نفور القراء والمقبلين على المعرفة من مصطلحات الأكاديميين ولغتهم التي ينسجون منها عبارات جافة بلا روح، أو مستغلقة على الأفهام. تساءلت يومها تساؤل تلميذ يريد أن يعرف لا أن يفرض رأياً أو توجهاً، أو يبدي تبرماً من مسلك ما في طرح الأفكار وتناول المعارف الإنسانية، وكان الرد موجزاً وقاطعاً من أغلبهم ودار جُلّه حول ضرورة أن تكون لدينا لغة للبحث الأكاديمي، تختلف عن الكتابات الأخرى التي تفتقد التحديد والصرامة التي يوجبهما العلم، ويجود بها علينا الكتاب الصحافيون والأدباء ومن لف لفهم، حيث تختلط لدى الأغلبية منهم المفاهيم والمعاني وترتبك إلى أقصى حد، وأبعد مدى، وتقع أحياناً خارج التفكير العلمي، الذي له شروط يتعارف عليها العلماء في مشارق الأرض ومغاربها.

واستقبلت هذا الرأي باحترام يتناسب مع تقديري لمن أدلوا به، لكن ظل في نفسي شيء من عدم الارتياح له، راح ينمو بمرور الأيام وتوالي القراءات، حيث وجدت أن كثيراً من الكتب التي أحدثت نقلة في حياة البشر، ونهضة في تاريخ الإنسانية، وتركت علامات قوية لا يمحوها الزمن، وظلت حية يتم تداولها رغم تقدم الزمان وتبدل الأمكنة، كانت مكتوبة بلغة فياضة، تشد النفس، وتوقظ المشاعر، في الوقت الذي تحفر في العقل معاني ومفاهيم وقيماً عميقة. وكلما أوغلت راحلاً في صفحات هذه الكتب، ثار داخلي سؤال آخر حول جدوى أن تكون العلوم الإنسانية بلا إنسانية. أي لا تتعامل مع الإنسان بوصفه روحاً ومادة يزاوج بين العقل والمشاعر، ويحمل بين جنبيه إرادة الاختيار وملكة التذوق.

وراح هذا التصور يكبر في نفسي رويداً رويداً حتى استقر في يقيني وبات اقتناعاً راسخاً، لا يحلق في فراغ، إنما ينبني على معايير عدة قابلة للزيادة، سواء لدي أم لدى كل من يميل إلى هذا الرأي؛ أولاها، أن طبيعة الأمور واستقامتها تفرض على الجامعات في كل مكان أن تشتبك مع قضايا المجتمع، ليس لتحقيق ما على عاتقها من دور تنموي فحسب، بل لتعزيز قدراتها العلمية بتجديد مناهجها ونظرياتها، أيضاً، فالنظريات الكبرى في العلوم الإنسانية انبثقت من الإمعان والتدقيق في سلوكيات البشر وحركاتهم وتصرفاتهم وأشواقهم وأحلامهم التي يزخر بها الواقع المعيش. وثانيها، أن الظواهر الإنسانية متشابكة إلى أقصى حد، ولا يمكن الوقوف عليها وقوفاً صحيحاً إلا إذا تم تحليلها إلى عناصرها الأولية، أو تفكيكها إلى ما تنطوي عليه من مكونات سواء أساسية أو ثانوية. ومن بين هذه العناصر والمكونات ما يتعلق بالجانب الروحي، الذي يفيض بالمعتقدات والمشاعر والإيمان بالرموز، وهذا الشق الإنساني لا يمكن التعبير عنه بلغة جافة تفتقد الحس وتفتقر إلى البساطة والوضوح.

أما ثالثها، فإن القارئ يتفاعل مع أي «نص» أو «مكتوب» ويفهمه ليس كما يريد صاحبه بالضبط، بل أيضا حسب ما تجود به ثقافة هذا القارئ وميوله وخلفيته التعليمية والطبقية والدينية، بحيث ينتج هو نصه الخاص على هامش النص الأصلي. وهذا يجعل لدينا في نهاية المطاف نصوصاً أو أشباهها بعدد مَن قرأوا ما هو مكتوب، وبالتالي فإن الحديث عن صرامة لغوية في البحوث والدراسات الإنسانية أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فمهما كانت هناك تدابير يتبعها الباحثون كي تخرج العبارات دقيقة لتصف الحالة أو الظاهر كما ينبغي لها، فإن هذا لن يمنع القارئ من تلقي هذا الوصف بالطريقة التي تحلو له، ويتسع هذا التلقي وتزيد مساحة التأويل والتفسير والتخمين والتكهن كلما كان النص معقداً وجافاً.

والرابع، هو أن التعقيد لا يعني بالضرورة الضبط العلمي، كما أن سهولة العرض لا تعني في الوقت ذاته الخروج عن مسار العلم ومقتضياته. كل ما في الأمر أن الباحث مطالب بألا يستعمل لغة عامة «حمالة أوجه» أو عبارات إنشائية غارقة في البلاغة إلى الدرجة التي تلفت فيه الانتباه لذاتها، وتصبح الكتابة لديه مجرد تشكيل جمالي للغة، لأن هذه هي مهمة الأدب وفنونه عموماً وليس العلم. وما هو مطلوب هنا أن تكون اللغة جليّة ورشيقة ومنضبطة في آن، بحيث تعبر عن صميم الظاهرة، وترسم ملامحها بدقة، لكنها لا تنفر القارئ منها، ولا تجعله يشعر أن الباحث والدارس قد كتب ما كتبه لنفسه أو حفنة صغيرة من زملائه الأكاديميين داخل أسوار المعاهد والجامعات.

والسبب الخامس في نظري هو أن العلم يجب أن يروم التغيير وإلا تحول إلى سفسطة فارغة أو قلائد للزينة. وقد يقول قائل إن هذا التغيير قد يكمن في صناعة التلاميذ بالمدارس والجامعات، وأن هذا يكفي في حد ذاته، ومن ثم لا حاجة إلى مد الأكاديميين أنوفهم خارج نطاق علمهم الأصلي. لكن هذه رؤية قاصرة لا تتصل بالواقع المعيش على أي حال من الأحوال. فالثابت أن أغلب تلاميذ العلم وطلابه تنقطع صلتهم بالدراسات الأكاديمية الصرف فور تخرجهم، إذ تأخذهم الحياة في دواماتها التي لا تنتهي، حيث العمل والأسرة والأصحاب وأوقات الترفيه، وبعض هؤلاء، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية، إن اتصلوا بعالم الكتب فإن اتصالهم ينصب على الكتب الثقافية والعلمية المبسطة. ومن هنا فإن صياغة الدراسات الأكاديمية بلغة جذابة وأخاذة ومفهومة يساعد في اتساع رقعة من تربطهم صلات متينة بعالم الأفكار والمعلومات، وبالتالي يكبر حجم الكتلة الحية في الأمة، التي تنتجها تنمية إنسانية يقظة ودائمة. فضلا عن هذا، فإن ذلك التبسط غير المخل بشروط العلم وكفاءته يسهم في إضافة مجموعات جديدة ممن تمكنوا من محو أميتهم إلى هذه الكتلة التي تؤمن بأن المعرفة سلطة وقوة، ليس للفرد فحسب، بل للمجتمع بأسره.

والسبب السادس، أنه لا يوجد حسم في العلم الإنساني بشتى فروعه، وهذه مسّلمة يقتنع بها الجميع، ومادام هذا الحسم غير موجود فإن الاحتجاج بضرورة جفاف اللغة وجفائها بدعوى الحفاظ على التقاليد الأكاديمية الصارمة، والتي يحتاج إليها السعي إلى الوصول إلى نتائج دقيقة، لا يقف على قدمين صلبتين. فالعلوم التطبيقية أو البحتة نفسها تشهد تطورا هي الأخرى، ونظرياتها التي يعتقد كثيرون أنها راسخة كالجبال الرواسي يأتي من يهزها من جذورها ويضيف إليها أو يسقطها. فنظريات اسحق نيوتن هزها ألبرت أينشتاين بنظرية النسبية، ونحن نعيش اليوم مرحلة ما بعد أينشتاين، إذ تتم مراجعة بعض مقولاته ومعادلاته.

والسبب السابع، هو وجود أكاديميين كثر من ضعاف القدرات وقليلي الموهبة. ومثل هؤلاء يكتبون بلغة غير مفهومة لأنهم هم أنفسهم لا يفهمون جيدا القضايا التي يكتبون عنها، ولا يلمون إلماما دقيقا بالتخصصات التي ينصرف إليها تعلمهم واشتغالهم. ومن المعروف أن من لا يفهم ليس بوسعه أن يُفهّم، وأن من يتبحر في علم ما أو تخصص معين يستطيع أن يعبر عنه بطريقة مفهومة تماما، وبلغة سهلة ومختصرة، فكما قال النفري: "إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة". علاوة على هذا فإن بعض الأكاديميين يلجأون إلى ترجمة دراسات وأبحاث ونصوص مكتوبة بلغات أجنبية من دون أن يفهموها على الوجه الأكمل، ومن ثم تأتي لغتهم ملتوية وغير منبسطة ومفككة، تبدو في بعض المواضع كأنها نوع من الهذيان.

أما السبب الثامن، فيتعلق بخطورة أن تترك ساحات ومساحات القراءة والاطلاع خارج الجامعة لكثير من الكتابات الهابطة والمبتذلة التي تبشر بالفوضى والخواء أو تعتمد على الغرائز، أو تتصف بالخطابة والإنشائية، وتخاصم المنهج العلمي في التفكير. فمثل هذا المنتج المعرفي قد يحتشد بالمعلومات المغلوطة، والأخطر من هذا، فإنه قد يعتمد على طرق تفكير معوجة أو غير علمية. وهذا الوضع يؤدي إلى زيادة تشوه العقل الجمعي للأمة، ولا يساعد الناس في أن يتعاملوا بطريقة ناجعة مع المشكلات الحياتية، سواء هذه التي تعترض طريقهم كأفراد، أو تلك التي تعوق تقدم المجتمع برمته. وحرص الأكاديميين الثقات على أن يدفعوا بإنتاجهم العلمي إلى خارج أسوار الجامعة سيساعد، من دون شك، في حصار هذه الكتابات العشوائية، ومن ثم يحمي المواطنين منها.

والسبب التاسع، هو أن اشتباك الأكاديميين مع المجتمع يشجعهم على الإنتاج المعرفي الغزير، لاسيما في جامعاتنا التي يتوقف جهد أغلب أساتذتها عند حدود تقديم أبحاث الترقي، وتصبح أطروحاتهم للدكتوراه هي أكبر وأهم بحوث علمية في حياتهم. فالخروج إلى فضاء المجتمع الرحيب يمنح هؤلاء الأساتذة شهرة ومكانة وقد يدر عليهم عائدا ماديا يساهم في بناء استقلالهم واستقامتهم العلمية، التي كثيرا ما يجرحها العوز والاحتياج إلى ما في يد السلطة من منافع وعطايا.

لكل هذا استقر في يقيني ميل جارف إلى ضرورة أن يقفز الأكاديميون خارج أسوار جامعاتهم، وليقتصر قراء دراساتهم وأطروحاتهم المصوغة بلغة بحثية جافة على أعضاء لجان الترقي، وحاضري «السيمينارات» العلمية، ومناقشي الرسائل الجامعية.
------------------------
بقلم: د. عمار علي حسن 

مقالات اخرى للكاتب

مِزاج الشعب .. الكِيّف والسياسة في مصر





اعلان