24 - 04 - 2024

هزلية تجديد الخطاب الدينى الإسلامى بفرنسا فى ظل غياب الكرامة الانسانية

هزلية تجديد الخطاب الدينى الإسلامى بفرنسا فى ظل غياب الكرامة الانسانية

نحن نعتبر أن قيمة الانسان فوق كل شيئ.. هذه فلسفة التنوير وهذا ما يجعل من حقوق الانسان عالمية وهى فى ميثاق الأمم المتحدة "فلا شيئ فوق الانسان واحترام كرامة البشر" ذلك ما قاله الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون ردا على كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى فى المؤتمر الصحفى خلال زيارته فرنسا مؤخرا، والسؤال: هل القيم الانسانية تتعارض  مع القيم الدينية وهل إعلاء القيم الانسانية من وجهة نظر الرئيس الفرنسى يأتى باختيار الحل الأمنى باصدار قانون الامن الشامل الذى يقضى بمنع تصوير رجال الشرطة خلال ممارسة عملهم، الامر الذى أسفر عنه اندلاع المظاهرات فى بلد النور حيث شاهدت بأم رأسى الطرق الوحشية التى يمارسها رجال الشرطة الفرنسية فى حق الموسيقار الزنجى وأيضا أثناء القبض على امرأة مسلمة.

لقد داهمت قوات الشرطة الفرنسية عددا من المساجد وقامت بإلقاء القبض على عدد من الأئمة بزعم توجيههم خطابا إسلاميا متطرفا ضد علمانية الدولة، كما قامت بإلقاء القبض على عدد من الطلاب مشتبه فى كتابتهم عبارات غير لائقة عقب حادثة مقتل المدرس الفرنسي، وبالفعل تم تجميد عدد من الجمعيات الخيرية التى تتلقى تمويلها من هيئات خارج فرنسا تابعة لدول أخرى.  

وفى رأيي أن هذا من حقه كرئيس يحافظ على القانون فى بلده، إلا أنه تصرف كرئيس دولة من دول العالم الثالث باختياره أسلوب القمع لحل مشكلة الانفصالية الإسلامية فى ضواحى فرنسا دون البحث عن حلول عقلانية لمعالجة مشكلة التطرف الاسلامى وتجذر الارهاب فى فرنسا، فإن كانت أوروبا قد استفادت من ابن رشد وابن خلدون فى إعمال العقل، وعلى ضوئها نهضت اوروبا وأصبحت فرنسا مدينة الأنوار وحرية التعبير، فعلى ماكرون أن يستفيد هو أيضا من ذلك إن كان يريد من إعلاء القيم الإنسانية، فالحل ليس بالتضييق على المسلمين فى ممارسة شعائرهم الدينية ولا بالمطاردات الأمنية ولا بقمع الحريات ولا بإلقاء القبض على الشباب الصغير.

الحل فى الاستفادة من تجربة  ميركل بألمانيا التى حلت مشكلة المسلمين هناك، فاندمجوا فى المجتمع الألمانى ولم يتعارض تدينهم مع علمانية الدولة فى ألمانيا. الحل بعقد الندوات والمؤتمرات لمناقشة علمية عن أسباب تجذر الإرهاب فى فرنسا بالذات، وفى البحث عن الأسباب الحقيقية وراء اندفاع الشباب المسلم لارتمائه فى أحضان التطرف والارهاب التى دفعته إلى كتابة عبارات بغض وكره لقوانين الدولة ودستورها الفرنسي، فما الذى يدفع شابا مسلما لايتعدى عمره الثامنة عشر ليقتل بلا رحمة المدرس الفرنسي، و فى البحث وراء عرض المدرس الفرنسى الصور المسيئة للرسول فى حين يعج الفصل بطلبة ينتمون الى ديانات ومعتقدات أخرى، الحل فى البحث عن الحياه المعيشية للمسلمين فى فرنسا الذين يعيشون فى الضواحى الفقيرة حيث البطالة والتهميش.

هل يعقل أن يشكو ماكرون من زيادة نسبة الأطفال المتسربين من التعليم فى فرنسا دون أن يعالج الأسباب النفسية التى دعت إلى هجر هؤلاء الأطفال المدارس الفرنسية، وهو يدرك ما تدرسه تلك المدارس فى مناهجها بما يسئ للمسلمين من أن سيدنا محمد ليس نبيا، وأنه المسيح الدجال وهو من ألف القرآن ونقله عن التوراه والانجيل على حد قول الدكتورة فايزة العشماوى أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة جنيف، فى مقال لها نشر بالمصرى اليوم تحت عنوان الجذور التاريخية للرسوم المسيئة للرسول، هذا فضلا عن دراسة التلاميذ المسيحيين واليهود فى فرنسا لتلك المناهج  التى تترسخ فى أذهانهم منذ الطفولة، فالتعلم فى الصغر كالنقش على الحجر، فإن كان ماكرون جادا عليه ان ينقى تلك الكتب المدرسية من العبارات المسيئة لأغلى شيئ يملكه المسلمون وهو عقيدتهم ونبيهم. وعلى حد قول الكاتب الجزائرى إبراهيم مشارة فإن المدارس الفرنسية تحتاج إلى إصلاح كبير قبل أن تتدخل لإصلاح مدارس الآخرين، فعلى سبيل المثال كان على المدرس القتيل صامويل تعلم مبدأ الاحترام والنقد البناء بدلا من خطابات الكراهية والتطرف والاستعلاء على المسلمين والسخرية منهم.

إن ظاهرة تسرب أطفال المسلمين التى ركز عليها الرئيس ماكرون أعمق بكثير من الطريقة التى تحدث عنها، فالأطفال فى تلك الضواحى لايتوفر لهم الطعام الذى يتناسب مع عقيدتهم الإسلامية، على حد قول الكاتب المورينانى محمد عبدالله ولد مبارك، كما يتم التضييق عليهم فى حالة حضور أمهاتهم لأخذهم من تلك المدارس، أو اصطحابهم فى رحلات مدرسية يكون شرط الحضور فيها مع ذويهم بحجة ارتداء أولياء أمورهم زيا إسلاميا مما يعتبر مخالفا لدستور البلاد.

هل يعقل ان يتم العمل بدستور تمت صباغته منذ عقود طويلة في وقت لم يكن فيه مهاجرون مسلمون، ولم يتم تعديله بعدما بلغ عددهم حتى الآن نحو 6 مليون مسلم، وهؤلاء سبق احتلال أوطانهم كدول شمال إفريقيا تونس والجزائر والمغرب، ولم يتناسوا ما حدث لأجدادهم من قتل وترويع واغتصاب ويشهد على ذلك متحف الجماجم بفرنسا من قتلها مليون شهيد جزائرى، وما يحدث أيضا فى وقتنا الحالى إثر تدخل فرنسا فى سياسات قمعية لكثير من الدول الاسلامية. وغيره من الأحداث التى مارست فيها فرنسا أسلوبا دمويا وليس ببعيد عام 1961 الذى شهد سقوط نحو 600 شهيد من جبهة التحرير الجزائرية فى البحر الأبيض المتوسط.

إن كان الرئيس ماكرون يريد إعلاء القيم الإنسانية على قيم الدين، فكيف يفرق بين اليهود والمسلمين فى ذلك علما بأن الدين يدخل فى كافة مناحى الحياة الاجتماعية للإنسان المسلم من مأكل ومشرب وملبس، ففى الوفت الذى يحتكم فيه اليهود لقانون "الكونكوردا " كما ورد فى كتاب (فرنسا التى رأيت) للكاتب الموريتاني "محمد عبدالله ولد المرواني" فيتم السماح لهم بممارسة المراسم والطفوس الدينية، بينما يتم التضييق علي المسلمين فى أمور كثيرة بحجة أن هذا القانون عند صدوره لم يكن المسلمون متواجدين فى فرنسا آنذاك.

هل يعقل أن يشكو ماكرون من انعزالية المسلمين فى فرنسا دون الأخذ فى الاعتبار أنه السبب في حدوثها، حين يقوم بعدم تحقيق العدالة الاجتماعية بالنسبة للمسلمين مقارنة ببقية مواطني فرنسا فعلى حد قول "ياسر اللواتى" رئيس لجنة العدالة والحريات للجميع والتى تعنى الدفاع عن حقوق المسلمين أن العلمانية أشبه بورقة توت تخفى وراءها الدوافع العنصرية الحقيقية بفرنسا، ففرنسا لا تكون علمانية إلا حين تستخدم تلك الحجة لمنع المسلمين من التواجد فى المناطق العامة لارتدائهم ملابس تدل على ديانتهم ويتعرضون الى التمييز فى السكن وفى الحصول على الوظائف، كما يتركز كثير من المسلمين فى أحياء هامشية ترتفع فيها نسبة البطالة والفقر، فالحكومة الفرنسية لا تدافع عن حرية التعبير إلا فى أمور ضد المسلمين فقط مثل عدم منع الرسوم المسيئة للرسول، فى حين أنه تم طرد رسام من شارلى إبدو قبل سنوات، لأنه سخر من ابن الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى.

ولو تحدثنا عن وضع السجون الفرنسية التى يقضى فيها المسلمون الخارجون عن القانون فحدث بلا حرج، فأكثر السجناء هم من أبناء المسلمين والأفارقة والعرب ويمثل السجناء المسلمون نحو 60 % من جميع السجناء وتعلو نسبة الانتحار، حيث يقضون فترة عقوبتهم فى سجون لاتليق بآدميتهم نظرا لاكتظاظها وعدم ملاءمتها للحياه فيها، الأمر الذى أثار غضب الكثير من منظمات حقوق الانسان حيث رصد المرصد الدولى لحقوق الانسان lobservatoire international des prisons تقريرا صادما يمثل وصمة عار للجمهورية الفرنسية وطن التنوير وحقوق الإنسان.

نعم هناك أزمة بالفعل بالنسبة للمسلمين فى الغرب وفى فرنسا بصفة خاصة، من علو نبرة التكفير وفى فوضى الأئمة فى المساجد، إلا أن حلها ليس بخلط الأوراق بين ما هو مسلم ومتطرف والزج بآلاف المسلمين فى السجون. 

ليس الحل بإلقاء القبض على أئمة مساجد بزعم ترويجهم لأفكار تكفيرية، فى حين تترك الحبل على الغارب للتيار اليمينى للتنكيل بالمسلمين، فلا يتم القبض على عناصر اليمين المتشدد أيضا الذين يدعون لطرد المسلمين، فعلى غرار حملة ماكرون لمحاربة الانفصالية قامت عناصر اليمين المتطرف بالتهديد بحرق عدد من المساجد بفرنسا. الأمر الذى يدفعنا للقول أيضا أنه على الجانب الآخر لابد من النظر في الخطاب الديني لهذا اليمين المتطرف أيضا والذى يحض على كره المسلمين والسخرية منهم.

وأخيرا إن كان الرئيس الفرنسى ماكرون جاد فعليا فى إيجاد حل للانعزالية الاسلامية فى فرنسا، عليه أن يبحث عن حلول أخرى بعيدا عن سياسة القمع التى ستصنع عنفا وإرهابا أشد على الناحية الأخرى، عليه تنقية الكتب المدرسية مما يسيئ للمسلمين والاسلام، عليه أن يشعر المسلمين بكرامتهم حتى يبث فيهم روح المواطنة والانتماء إلى وطنهم فرنسا، وذلك قبل أن تتلقفهم أيدى الارهاب الغادر للانضمام إلى صفوفه، عليه أن يشدد على تغليظ عقوبة الاعتداء على مساجد وبيوت ومقابر المسلمين من قبل التيار اليمينى المتشدد. وأن يوفر الطعام الحلال لأطفال المسلمين فى المدارس، وأن تتساهل الدولة فى منح أراض للمسلمين يجعلونها مقابر لدفن موتاهم.
-----------------------
بقلم: هدى مكاوي

مقالات اخرى للكاتب

قاتل الأنبا أرسانيوس بالاسكندرية ليس مختلا عقليا





اعلان