25 - 04 - 2024

عنصرية في البيئة المصرية؟!

عنصرية في البيئة المصرية؟!

بواحدة من عبارات الفلاحين البسطاء تدخلت أمس في أحد المحال التجارية لفض اشتباك لفظي بين اثنين من مشجعي كرة القدم كانوا قد استهلوا حوارا داعبا مرحا اشترك فيه بعض الزبائن ونفر من عمال المحل التجاري قبل أن يتطور الأمر وتصبح الدعابة تهجما لفظيا ممقوتا لا يليق.  

أقول إنني استخدمت "عبارة فلاحين" لأن ما قلته لهما على سبيل "وحدوا الله يا جماعة وصلوا ع النبي" أصبح من العبارات التي لا تعجب الكثيرين من أرباب الحياة العصرية المصرية.

لقد أعادني مشهد الاشتباك والتهجم ليلة أمس إلى سنوات غريبة عجيبة من تهديد وخوف تعرضت له أنا وبعض زملائي من "الملونين" أو أصحاب البشرة السوداء خلال دراستنا في دولة شمالية بيضاء قبل عشرين عاما.

من بين النصائح التي كانت توجه لنا في هذه البلاد هو أن نتجنب الخروج للأماكن العامة المزدحمة وقت مباريات كرة القدم لأن المشاعر العنصرية تزداد لدى جماهير  الكرة خلال تلك الفترة.

والعجيب أن العدوان العنصري في نهاية تسعينيات القرن العشرين الذي كان يقوم به تنظيم نازي من الشباب الروسي المتطرف ضد أصحاب البشرة السوداء أمثالنا لم يكن سببه أن فريقا من الفرق الإفريقية يلعب في بلادهم بل كانت المبارايات بين فريقين روسيين من داخل البلاد.

في تلك الفترة كانت مشاعر العداء للأجانب في أوجها وقد فسر العلماء حالة التطرف القومي لدى هؤلاء النازيين (وكلمة "نازي" يتصادف معناها مع معنى "قومي") أنها تأتي رد فعل لغياب الهوية القومية وتفريغ لطاقة الاعتراض على الواقع المضطرب،  بحيث يتم البحث عن ضحايا ضعفاء من الأجانب لتفريغ تلك الطاقة فيرتكب هؤلاء الشباب النازي جرائم قتل وحرق للغرباء السود أمثالنا.

ليلة امس قرأت على صفحات عدد من الأصدقاء تفسيرا مشابها لما أصفه في روسيا قبل 20 سنة لمفهوم غياب نوافذ شرعية للتنفيس عن الطاقات والمكبوتات.

الذي يدهشني حقيقة في بلادي المحروسة أنني حين أقرأ نقدا لكلمة "عنصرية" امسك نفسي من ضحكٍ كالبكاء وأكاد أغمغم: عنصرية في البيئة المصرية؟ مَنْ يتعنصر على مَنْ؟ غريب أمرنا حقا؟

الاكثر خطورة من التعجب هو أن السكوت على هذه المظاهر الفاسدة لن يحمل مخاطر فحسب (وقد حمل إثما وبهتانا حين تسبب في مقتل عشرات المشجعين في بورسعيد قبل أعوام ليست ببعيدة) بل إنه يؤسس لتدعيم مشاعر من الشقاق المجتمعي في بيئة لم تعرف أسبابا تاريخية للشقاق بين أبناء الوطن الواحد.

وأود هنا ما دمت في مقام الدردشة والخواطر معكم ان أتطرق إلى السؤال الذي يعجز كثير من المؤرخين عن إجابته حين يبحثون في سبب سكوت المصريين تلك القرون الطويلة على الحكام الغرباء أو الذين استبدوا بالسلطة على غير هواهم من بني وطنهم.

إذ يبدو لي أن من عجائب الحالة المصرية أن الاستبداد والحكم الأجنبي كان يعوضه في كثير من الحالات سلام داخلي وإخاء أهلي يعطي تلك الحياة "حلاوتها" التي كان يعيشها المصريون.

العنصرية بغيضة لا مفر منها حين تكون هناك أعراق مختلفة تتعرض لتشجيع من محرضين عنصريين من هذا الفريق أو ذاك، والمذهبية الطائفية بغيضة حين يجيش كل شيخ أو قسيس أتباعه ضد الآخرين بسبب توهمات وتأويلات تبيح الدماء.

لم يظهر الإلحاد ويتفشى في العالم ويكتسب وجاهة إلا لأنه وجد في بعض الأديان إباحة للدماء وقتل باسم الرب او استبداد حاكم باسم الإله.

أما وأن الله قد رحم مصر من كلا النوعين البغيضين من العنصرية العرقية والطائفية المذهبية فسيكون من الجنون أن نخترعها.

لا مرحبا ولا أهلا وسهلا بكرة القدم إن كانت ستخلق مشاحنات بين الناس. وعلى الناس ان يعرفوا أن هذه ليست من الرياضة في شيء إنما هي تسليع للبشر وبيع اللاعبين في بورصة مالية للرهان بهم على سرقة جيوب المشاهدين وإضاعة وقتهم وشحن البغضاء بينهم.

وعلى الجانب السياسي: الخير لهذا البلد في عودة الأحزاب بكل أطيافها الشرعية، وعودة النقابات، والاتحادات الطلابية والمهنية بشكل فعال.

هذا المجتمع يفور بأكثر من مئة مليون ومن الخزي أن نتركه  فريسة كل يوم لتهافتات إما تسفه العقل بمتابعة هذه الراقصة أو تلك أو تبذر بذور الكراهية بينهم بالتعصب الأحمق لهذا الفريق او ذاك.

في التطور والتنوع مصلحة ونجاح للجميع ، نجاح للحكام بمثل ما هو نجاح للمحكومين.

------------------------

بقلم: د. عاطف معتمد


مقالات اخرى للكاتب

إنهاء مباردة





اعلان