26 - 04 - 2024

حائط الصد المصرى

حائط الصد المصرى

لا أذكر اسمه، ليس تعاليا ولا ازدراء يستحقه، بل التزاما بقرار نقابة الصحفيين المصريين، التى دعت منتسبيها إلى عدم نشر اسمه وأخباره وصوره، وتضامنت مع نقابة الممثلين المصريين ونقابات المهن الفنية، التى أصدرت قرارا بوقفه عن التمثيل والغناء، وإحالته للتحقيق النقابى فى جريمة تطبيع مع كيان العدو الإسرائيلى، ارتكبها بالظهور والتصوير فى "دبى" مع مطرب ورجل أعمال إسرائيلى، وأقامت عليه الدنيا فلم تقعد بعد فى مصر، وهو ما أثار غضب ورعب الخارجية الإسرائيلية رسميا.

وبرغم مرور نحو 42 سنة على عقد ما تسمى "معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية"، وقدوم أول سفير إسرائيلى لمصر فى 26 فبراير 1980، فقد ظل التطبيع جريمة سالبة لشرف مرتكبيها الشخصي والمهني، ليس رسميا بالطبع، فالقانون الرسمى يصادق إسرائيل، وهو وضع شائن مرفوض شعبيا على توالى العهود والعقود، وفى كل دوائر عمل وحركة النقابات العمالية والمهنية، ففى أراشيف النقابات جميعها، وفى تراثها الوطنى المرجعى، قرارات لجمعياتها العمومية بالإجماع، تلزم الأعضاء بعدم التطبيع الشخصى والمهني، وإلى أن تعود للشعب الفلسطينى كل حقوقه وأراضيه، وقد جرت أحيانا اختراقات لحائط الصد الشعبى، كان بعضها للأسف بطلب مباشر من السلطة الفلسطينية نفسها، لم يعتد به أبدا لدى تيارات الحركة الوطنية والنقابية المصرية، التى داومت حرصها على ازدراء المطبعين، وعقابهم بالشطب أحيانا، كما جرى للكاتب المسرحى الراحل على سالم، أو الإحالة لمجالس التأديب النقابي، كما جرى للكاتب الراحل لطفى الخولى، وغيره من أعضاء "جماعة كوبنهاجن" التطبيعية، وإن لم تطل أيدى النقابات آخرين غير نقابيين، من نوع المتوفى مؤخرا أمين المهدى، أو مراد وهبة أستاذ الفلسفة تسعينى العمر، الذى انقطعت صلته من زمن بنوادى هيئات التدريس الجامعي، وهى الأخرى ملتزمة بقرارات رفض التطبيع، وعلى نحو جعل وهبة يشعر بقوة الحصار المضروب حوله، ويشكو فى مقالاته المخزية الناضحة بمحبة إسرائيل، ويقول بألم مفتعل "لقد صرت وحيدا" و"أحاور نفسى" (!).

وقد لا نحتاج إلى مراجعة دفاتر النقابات المصرية، فأعضاؤها يختلفون فى كل شئ، تماما كما أعضاء الأحزاب الطليقة منها والمحاصرة، لكنهم يداومون الاتفاق ضمنا وتصريحا على رفض التطبيع مع العدو الإسرائيلي، ولا يجرؤ مطبع على إعلان تطبيعيته من دون ثمن احتقار شعبى مدفوع، بل يفعلها المطبعون خلسة، ومن وراء ستار المهام الرسمية، على طريقة المتورطين فى اتفاقات "الكويز" و"الغاز" الرسمية، التى لا تلقى رواجا ولا تأييدا فى البيئة الشعبية المصرية، مما يدفع المطبعين غالبا إلى إنكار جريمتهم، والتنصل من الفعلة بادعاء الغفلة، وعلى طريقة ما فعله ويفعله الفنان إياه، المدان بواقعة تطبيع "دبى"، وادعاؤه أنه لم يكن يعرف هوية الذين ظهر معهم فى الجرم المشهود.

وقد لا يتسع المقام لذكر العشرات من تجارب ولجان مقاومة التطبيع فى مصر، ولا تظاهرات واحتجاجات المثقفين بالمئات، فلم تكن القصة أبدا عملا نخبويا معزولا، بل معركة وطنية كبرى، سقط فيها الشهداء، وحجزت حريات المئات بل والآلاف، وجرى تعميدها بقداسة التضحيات، بدأت المعركة من أول يوم تطبيع، فوقت تسلم الرئيس الأسبق أنور السادات لأوراق اعتماد "إلياهو بن أليسار"، أول سفير للكيان الإسرائيلى إلى مصر، وفى ذات اللحظة، ظهرت بطولة أول شهداء الحرب ضد التطبيع، وبفعل مقاوم تلقائى من سعد إدريس حلاوة، وفى قرية على بعد ثلاثين كيلو مترا من قلب القاهرة، اسمها "أجهور الكبرى"، خرج  فيها سعد، الذى كان يعمل فلاحا، وحمل حقيبة وضع فيها مسدسه المرخص، واحتل المجلس المحلى للقرية، وطالب بطرد السفير الإسرائيلى من مصر، وإلا قتل نفسه مع الموظفين فى المبنى، الذى أذاع منه خطب جمال عبد الناصر وأغانى عبد الحليم حافظ الثورية، وإلى أن شنوا عليه حملة أمنية بقيادة وزير داخلية السادات وقتها اللواء النبوى إسماعيل، وسقط الشهيد مضرجا فى دمه الطاهر، وأطلق عليه نزار قبانى وقتها لقب "مجنون مصر الجميل"، ولم يحل استشهاده الدامى دون تدفق نهر الفعل المقاوم، حتى مع اغتيال السادات نفسه فى حادث المنصة، لتتوالى بعدها التحركات الشعبية السلمية والمسلحة، وكانت فى غالبها من إرث ومعين جمال عبد الناصر، فقد جاء موسم محمود نور الدين، وهو ضابط مخابرات سابق، استقال من عمله فى السفارة المصرية بلندن، اعتراضا على زيارة السادات للقدس المحتلة فى نوفمبر 1977، وأصدر مجلة (23 يوليو)، واستعان بعدد من الكتاب الناصريين، كان أبرزهم الراحل الكبير محمود السعدني، وسرعان ما توقفت المجلة لنفاد التمويل، وعاد نور الدين إلى مصر عام 1983، وراح يؤسس منظمة سرية مسلحة، حملت اسم "ثورة مصر"، جعل هدفها مطاردة وتصفية رجال المخابرات الإسرائيلية فى القاهرة، ونفذت عمليات موجعة دقيقة، قتلت وأصابت رجالا ونساء من "الموساد"، من نوع "زيفى كيدار" و"ألبرت تراكشى" و"إيلى تايلور" وغيرهم، ثم طورت نشاطها باستهداف رجال المخابرات الأمريكية بالقاهرة، وإلى أن جرى كشف المنظمة بعد ثلاث سنوات، بخيانة "أحمد عصام" شقيق نور الدين نفسه، وبتعاون "الموساد" و"السى . آى . إيه" مع السلطات المصرية وقتها، وجرت محاكمة نور الدين ورفاقه، وكان المتهم الثانى فى القضية د . خالد جمال عبد الناصر، وحكم على نور الدين بالأشغال الشاقة المؤبدة، ومات فى سجنه بطرة عام 1998، وكانت عقيدته ألا يغتال مصريا مهما كانت درجة الخلاف والخصومة معه، ثم كان إلهامه متدفقا، وتوالت أعمال بطولية لجنود مصريين فى الخدمة، خالفوا الأوامر الرسمية، واستخدموا سلاحهم "الميرى" فى قتل الإسرائيليين الغزاة، على طريقة الشهيد سليمان خاطر، الذى قتل سبعة إسرائيليين بشرق سيناء، خالفوا نداءاته بعدم السير فى منطقة محظورة عسكريا، جرى الحدث فى 5 أكتوبر 1985، وحوكم سليمان، ومات فى سجنه بظروف غامضة، وادعت السلطات وقتها أنه مات منتحرا، لكن فيض الإلهام الوطنى لم يتوقف، برغم النهايات المأساوية، وتفاعل جندى مصرى آخر اسمه "أيمن حسن" مع كفاح الشعب الفلسطيني، وقرر الرد على مجازر العدو فى الأرض المحتلة، وعبر الحدود بسلاحه وقنابله، وقتل فى عملية فدائية واحدة مباغتة 21 ضابطا وجنديا إسرائيليا، جرت العملية فى 26 نوفمبر 1990، واستشاطت إسرائيل غضبا، وحوكم أيمن حسن، وصدر الحكم بسجنه لمدة 12 سنة، خرج بعدها ليواصل حياته كالمعتاد، ولتلهم بطولته مواطنا مصريا آخر من نفس محافظته "الشرقية" اسمه أحمد الشحات، عرف إعلاميا بلقب "رجل العلم"، تسلق عمارة من 25 طابقا، لينزع العلم الإسرائيلى ويرفع العلم المصرى، كان ذلك فى ذروة اقتحام وحرق السفارة الإسرائيلية على نيل الجيزة، جرت الواقعة فى 9 سبتمبر 2011، وشارك بها الآلاف من المتظاهرين، سقط منهم ثلاثة شهداء وجرح 1049 مصريا، ولم ينقذ المحاصرين بالنيران من موظفى السفارة الإسرائيلية، سوى تدخل الرئيس الأمريكى وقتها باراك أوباما، وطلبه من السلطات المصرية التصرف بسرعة، وكانت تلك نهاية قصة وجود مقر خاص للسفارة الإسرائيلية فى مصر، تعمدت إسرائيل اختيار موقعه، بحيث يكون غرب النيل، فى إشارة ظاهرة لشعار العدو "من الفرات إلى النيل.. أرضك يا إسرائيل"، ومن وقتها، صار منزل السفير الإسرائيلى فى ضاحية "المعادى"، هو نفسه مقر السفارة المفترض، المحاط بحماية أمنية مكثفة طوال الوقت، فالسفير لا يزور ولا يزار، وعندما قابله أحد أعضاء مجلس النواب المصرى، كان عقاب العضو الطرد من البرلمان فورا، فلا يسمح باللقاء مع سفير العدو إلا عبر قنوات أمنية مغلقة، وكل زائر إسرائيلى عليه ألف عين تراقب، وحوادث اعتقال جواسيس لإسرائيل، لم تتوقف يوما فى مصر، بعد أن نجحت الحركة الوطنية المصرية فى حصار التطبيع العلني، ومنع مشاركة إسرائيل فى أى مناسبة ثقافية أو اقتصادية مفتوحة، وغلق "المركز الأكاديمى الإسرائيلى" قبل حرق واقتحام السفارة، وكان المركز المريب يحتل مكانا مميزا فى عمارة سكنية، كان يقيم بها كاتب مصر والعرب الصحفى الأشهر محمد حسنين هيكل.

تلك مجرد إشارات عابرة لملاحم الشعب المصرى فى رفض التطبيع، وهى التى صنعت حائط الصد العظيم لاختراقات المنبوذين، من نوع الفنان الذى لا نذكر اسمه، وتلال الإغراءات المبذولة لتلويث سمعة مصر والمصريين، وهم الذين قدموا مئة ألف شهيد وجريح فى حروب الدم مع كيان الاحتلال.
----------------------
بقلم: عبد الحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حرب الاستنزاف الأوكرانية





اعلان