25 - 04 - 2024

شاهد على العصر (22) مسلمون في "الدير المحرق"

شاهد على العصر (22) مسلمون في

ظلت فكرة العلاقة الإسلامية المسيحية تسيطر على فكرى وكيانى باعتبار أن هذه العلاقة هى مفتاح السر للتوحد المصرى ومنذ البداية وإلى المنتهى. 

ولذلك تظل هذه العلاقة هى نقطة الضعف التى يتم استغلالها واختراقها عند اللزوم وعلى مر التاريخ، بل قل أن فكرة التوحد المصرى وعلى كل المستويات كانت فى فكرى واهتمامى منذ سبعينات القرن الماضى، بدأت بفكرة تجميع الطوائف المسيحية (الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية) عن طريق اجتماع للشباب يحتوى اى نشاط اجتماعى أو روحى (دينى) يخفف من حدة الصراع الطائفى داخل الديانة الواحدة (المسيحية) ولكن لم أنجح لرفض القسس الأرثوذكس ذلك على أرضية الصراع الطائفى الذى يغلب طائفة على الأخرى، وحتى تحافظ الطائفة الأرثوذكسية على اغلبيتها العددية مقابل الكاثوليك والبروتستانت.

قمت بعمل ندوة الأربعاء كل أسبوع وطوال الإجازة الصيفية فى كنيسة مار يوحنا الارثوذكسية التى انتمى اليها، وكنت ادعو لها محاضرين من شخصيات محلية على مستوى محافظة أسيوط، كما كنت ادعو بعض الشخصيات من الكنائس الاخرى لحضور الندوة الشيء الذى شجعنى على دعوة بعض الاصدقاء المسلمين، ولكن كان ذلك على استحياء قياسا لتقبل المسيحيين لهذا.

فى تسعينيات القرن الماضى وبعد حادثة صنبو والتى غيرت مسار فكرى الطائفى إلى نظرة مصرية وطنية، حتى شعرت أن تعريفى قد أصبح "مصري مسيحي" وليس مسيحيا مصريا. بعد هذه الحادثة قمنا بعمل اجتماع لكل الفئات المسلمة والمسيحية فى الكنيسة البروتستانتية باسيوط (تم الإشارة لذلك سابقا)، كما تم إقامة اجتماع شهرى لكل الرموز الإسلامية المسيحية فى القوصية مع أسقفها فى الكنيسة بهدف إزالة الحساسيات ومزيد من التعارف الانسانى الذى يقرب ولا يبعد، ولكن من الواضح أن الأجهزة الأمنية لم تستحسن هذا، فاوحت إلى أو أمرت الاسقف فأخذ يماطل (فهمت، وألغيت الاجتماع) .

لم أتقاعس أو انهزم أمام اليأس والإحباط، لكن إيمانى بالفكرة من أجل مصر جعلنى أفكر في مخرج آخر حتى يتم التقاء الشباب المسلم المسيحى، ويظهر التوحد الحقيقى للمصريين ولا اقول الوحدة الوطنية، لأن إيمانى بأن اى عمل ثقافى مشترك داخل اسوار الكنيسة مهم للغاية وستنتج عنه أمور كثيرة. 

أولا: لأن العمل الثقافى هو عمل مطلوب لرفع درجة الوعى لدى الشباب ووضعهم على الأرضية الثقافية والمعرفية التى تؤهلهم للاهتمام بالقضايا العامة والانغماس فى العمل العام . 

ثانيا: ستعمل الندوة على كسر حاجز التقوقع والتمترس خلف أسوار الكنيسة للشباب المسيحى، فحضور الشباب المسلم داخل الكنيسة سيزيل الأوهام المسيطرة على الشباب المسيحى بأنهم يرفضونهم بل يريدون قتلهم. 

ثالثا: على مستوى الشباب المسلم سيزيل حاجز الجهل وعدم المعرفة بالآخر ويضع حدا للخيالات غير الصحيحة، فتنكسر الأوهام وتهدم الأسوار ويبنى الحب والود والوئام. 

وافق الأسقف على عقد ندوة الأربعاء كل شهر فى المطرانية، ولكن لم أصارحه بأننى عاقد العزم على أن أدعو شبابا مسلما خوفا من رفض الفكرة، ولكن قلت سأجعل الواقع يفرض نفسه.

كانت أول ندوة فى يونيو 1998 ألقيت الندوة بنفسى تحت عنوان (الديمقراطية وقبول الآخر) وكان الهدف قياس نجاح الندوة ومدى تقبلهم لها ولم أدع مسلمين.

كانت الندوة الثانية يوليو 1998 للأستاذ جورج إسحق مدير مدارس التوفيقية الخاصة حينذاك بعنوان (الحقبة القبطية) ولم يحضر مسلمين أيضا. 

كانت الندوة الثالثة فى أغسطس 98  للأستاذ احمد الجمال المفكر والكاتب الصحفي، والذى يمتلك ثقافة قبطية وكنسية إيمانا منه بتواصل الحقبات المصرية التى أوجدت الشخصية المصرية الواحدة، إضافة لذلك فهو مثقف شامل ووطني مصري، وكانت بعنوان (قراءة فى جذورنا الثقافية)، وقمت بدعوة اثنين من الشباب المسلم فى محاولة لجس نبض الاسقف وللمسيحيين المتشنجين الذين يرابطون فى الكنيسة بصفتها أهم خندق لهم يمارسون فيه حياتهم الاجتماعية وذلك لغياب اى دور لهم خارج الكنيسة. 

كانت الندوة الرابعة للأستاذ نبيل عبد الفتاح الباحث بمركز الأهرام الاستراتيجى ورئيس تحرير تقرير الحالة الدينية فى مصر، وله عدة مؤلفات عميقة فى رصد تيارات الاسلام السياسى وكانت بعنوان (العولمة) ودعوت عددا أكبر من المسلمين. والندوة الخامسة للاستاذ رضا هلال نائب مدير تحرير الأهرام، وكان الموضوع عرض كتاب صدر له عن الاختراق الصهيونى للمسيحية فى أمريكا وكان عدد المسلمين فى الحضور أكثر مما سبق. (بعد هذه الندوة كان رضا هلال قد اختفى بطريقة مريبة وحتى الآن لم يعرف أحد مصيره ولا من قام باختطافه وما الدوافع لذلك؟).

ثم جاء الأستاذ عادل حسين المفكر والكاتب الصحفى وأمين عام حزب العمل، كان الموضوع عن التحديات التى تواجه الوحدة الوطنية، ودعوة عادل حسين مثلت بداية للزوابع وفرصة للمتعصبين والمتشنجين من المسيحيين للاعتراض، وذلك قبل وصول عادل على أساس أنه مسلم متعصب وقريب من الإخوان المسلمين كما أنه إرهابى! في نظرهم، وهو ضد المسيحيين ويريد التخلص منهم. 

كان الهدف من الدعوة أن عادل حسين مهما كانت درجات الاختلاف وهى موجودة بالفعل، ولكنه فى كل الأحوال مفكر وله رؤية وليس إخوانيا أو إرهابيا! إضافة إلى أن هؤلاء لم يلتقوا به  أو يقرأوا له، بل كل هذه الأوصاف مجرد سماع لكلام ينقل. كان الهدف هو الالتقاء مع المختلف لمعرفته بشكل مباشر ولمعرفة فكره والأهم لمحاورته والوصول إلى المشترك، لو كان هناك مشترك، مع ايمانى بأنه لايوجد خلاف بالمطلق وكذلك لايوجد اتفاق بالمطلق. 

جاء عادل حسين وألقى المحاضرة التى استمرت ثلاث ساعات وربع الساعة، كما استمرت المناقشة والتى كنا نعقدها مع المحاضر بعد انتهاء الندوة لمجموعة مختارة لثلاث ساعات أخرى أي أصبح مجموع ساعات الحوار أكثر من ست ساعات. أفرغ الشباب المسيحى كل ما فى داخله من تعصب وحقد وجهل أيضا، لأن الحوار كان يتسم بالعصبية وعدم الفهم وغياب المعلومة، فكل هدفهم كان إثبات أن عادل حسين مسلم إرهابى جاء إلى الكنيسة، فلابد من تصفية الحسابات ليس معه فقط ولكن مع كل المسلمين والإرهابيين والتيار الإسلامى. مع العلم أن صورة هذا الحوار كانت قد وصلت إلى منتهاها فى التعبير عن الغضب الذى لم يكن الأول، فمنذ بداية الندوة كان الشباب يفرغ ما فى جعبته من غضب وحساسية من ناحية الجانب المسلم. ولكن مع كل هذه الجرعة استطاع عادل بحكمته وحنكته السياسية أن يدير حوارا ممتعا وعظيما على كل المستويات، هادفا إلى بناء أرضية وطنية مشتركة بين أبناء الوطن، غير متغافل للمشاكل أو مهون من القضايا الحساسة ولكن بصراحة، لم يقصد فيها نفاق الطرف المسيحى أو مجاملته، وكان هذا الهدف هو الوصول إلى أرضية مشتركة . 

ذلك الذى جعله يكتب ثلاثة مقالات فى جريدة الشعب وعلى صفحة كاملة يتحدث فيها عن الندوة وعن الحوار الذي تم، وكذلك عن القصايا التى كانت محل حوار وعلى رأس هذه القضايا حق المواطن المسيحى فى المجتمع حتى لو كان هذا المجتمع ذا توجهات إسلامية.

ولذلك كانت ندوة عادل حسين من أهم واخطر الندوات التى تمت فى ندوة الاربعاء حيث الحوار الممتد حول القضايا الحساسة والساخنة والاستفادة المشتركة لكل طرف، بل يمكن القول أن عادل حسين لم تصبح قناعاته قبل الندوة هى ذات القناعات بعد الندوة، فبعد هذا الحوار تغيرت لديه كثير من الأشياء وظهر هذا في المقالات الثلاثة التى كتبها بعد عودته من القوصية.

كان عادل حسين هو أول ضيف تتم استضافته فى الدير المحرق بالقوصية، ذلك الدير الذى يعتبر من أهم وأعظم وأغنى الأديرة في العالم، حيث وصلت إليه العائلة المقدسة (السيد المسيح وهو طفل والعذراء مريم ويوسف النجار خطيب العذراء) عند هروبها من أورشليم إلى أرض مصر، وقد مكثت العائلة فى الدير المحرق ستة شهور وعشرة أيام، وظل هذا المكان مقدسا حيث أقيم عليه مذبح تقام عليه الصلوات يوميا دون انقطاع، كما أن هذه البقعة المقدسة التى أقامت فيها العائلة المقدسة ثبت أنها وسط أرض مصر وذلك اتماما لنبوءة أشعياء فى العهد القديم، والذى قال (أقيم لك مذبحا فى وسط أرض مصر). طلبت من الأنبا ساويرس اسقف ورئيس الدير المحرق زيارة لعادل حسين. رحب الاسقف بالزيارة، وذهبنا يوم الخميس ثانى يوم الندوة إلى الدير وكان الانبا ساويرس فى استقبالنا وقد تناولنا سويا طعام الغذاء ومعه كان حوار متصل منذ وصولنا الساعة الثانية عشر ظهرا وحتى السادسة والنصف ليلا بين الاسقف وبين عادل حسين، وكان حول الشخصية الحضارية المصرية التى تجمع بين كل الحقبات التاريخية دون فرز مصرى عن آخر. 

سافر عادل ولكن لم يسافر معه الجدل العقيم والحوار المستفز بين بعض المسيحيين المهووسين، وظل الصوت المعارض لعادل حسين ولدعوته هو الشكل الظاهر، ولكن المقصود لم يكن عادل حسين ولكن كان المقصود هو الندوة والاعتراض على دخول المسلمين إلى الكنيسة لحضور الندوة!! ماذا حدث؟ سنرى.
------------------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان