25 - 04 - 2024

في وداع "الزعيم الإشتراكي" دييجو مارادونا!!..

في وداع

**في مونديال موسكو،قال"في أعماق قلبي أنا فلسطيني**

لم يكن دييجو أرماندو مارادونا مجرد لاعب إستثنائي ونجم أسطوري في كرة القدم، بل كان ناشطاً سياسياً وزعيماً مُلهِماً للفقراء والمهمشين والمقهورين في كل أنحاء أمريكا اللاتينية والعالم..وعندما ثأر من الإنجليز وأذلهم في ميدان كرة القدم (بعد أن هزموا بلاده في ميدان القتال) ، تحول دييجو الى أيقونة وبطل قومي مقدس حتى وصفه النجم الأرجنتيني كارلوس تيفيز بأنه "إله بالنسبة لكل الأرجنتينيين ، وسيظل كذلك"!!..

في كرة القدم ، وفي رأيي المتواضع كمتفرج مدمن، لا توجد موهبة على وجه الأرض وعلى مدي التاريخ المُسجَل للساحرة المستديرة ،تضاهي موهبة هذا المارد الأرجنتيني سوى موهبتين..الأول هو مواطنه ليونيل ميسي الذي يُجمع كل عشاق كرة القدم على أنه من كوكب آخر لأنه يفعل في الملعب ما لا يمكن تصوره وما يدفع المتفرجين الى حافة الجنون..أما الثاني فهو اللاعب البرازيلي رونالدينهو الذي زامل ميسي لفترة من الوقت في نادي برشلونة الإسباني ولكنه فرط في موهبته الفذة ولم يحافظ عليها مما اضطره الى الإعتزال المبكر بعد أن بهر الجماهير وانتزع آهاتها حتى أجمع كل مَن شاهدوه يفعل بالكرة ما يشاء ويرسل تمريرات قاتلة بالكعب وبالظهر وهو ينظر الى الناحية الأخرى ، على أنه ليس إلا ساحر أو عفريت من الجن!!..

حصل ميسي مع برشلونة على جميع البطولات المحلية والقارية والدولية ونال الكرة الذهبية كأحسن لاعب في العالم ست مرات وهو رقم لم يسبقه اليه أحد ، ولكن إخفاقاته المتكررة مع منتخب بلاده (إذ لم ينجح في إحراز أي لقب قاري أو دولي مع المنتخب) حيرت الجميع مما جعله يخسر أي مقارنة مع مارادونا من أول وهلة..ومن العجيب أن مارادونا أحرز مع المنتخب كأس العالم رفقة تشكيلة لا تضم الكثير من النجوم بينما أخفق ميسي مع فريق تزينه نخبة من النجوم مثل هيجوايين وديبالا وأجويرو ودي ماريا وغيرهم!!..وعموماً فإن ميسي هو مَن حسم المقارنة لصالح مارادونا عندما قال"حتى لو لعبتُ ملايين السنين ،فلن أقترب من مستوى مارادونا.وعلى أي حال ، أنا لا اريد ذلك.إنه الأفضل على مر الأزمنة"!!..

نشأ مارادونا فقيراً في أحد الأحياء الفقيرة بالعاصمة بوينس ايريس ، وكان من الطبيعي أن يحلم بالإنضمام لفريق النادي الذي يمثل فقراء وعمال الأرجنتين وهو "بوكا جونيورز" بينما يمثل منافسه الرئيسي "ريفر بليت" الأغنياء..وبعد ذلك انتقل مارادونا الى برشلونة ولكن تجربته لم تكن ناجحة تماما في النادي الكتالوني لينتقل الى نادي نابولي في جنوب ايطاليا الفقير..وفي نابولي ،حقق على مدى سبع سنوات المعجزات وصنع التاريخ.. كان نادي نابولي على شفا الإفلاس ويصارع على الهبوط عندما جاء المنقذ مارادونا عام 1984 لينتشل فريق المدينة المتواضع من قاع الدوري الإيطالي القوي ، ويقوده للفوز بالعديد من البطولات أبرزها بطولة الدوري الإيطالي موسمي 1986 و1989 ، وكأس ايطاليا عام 1986 ، وكأس الإتحاد الاوروبي عام 1988 ، والسوبر الإيطالي عام 1990..وكان من الطبيعي أن يتحول مارادونا الى بطل نابولي ومعبود جماهيرها التي ظلت تحبه حد التقديس حتى بعد إعتزاله كرة القدم ، كما كان من الطبيعي أيضاً أن ينزل عليهم خبر وفاة أيقونتهم كما الصاعقة..وتقديراً للدور العظيم الذي لعبه القائد التاريخي لفريق نابولي ، قرر عمدة المدينة إطلاق إسم "دييجو أرماندو مارادونا" على الملعب التاريخي للنادي..

إنها يد الله!!..

أما أبرز محطات المسيرة الإستثنائية لمارادونا فكانت في كأس العالم بالمكسيك عام 1986 والتي فاز منتخب الأرجنتين بلقبها بفضل جهود لاعبه الأسطوري الذي أدهش العالم بأداء مُعجِز وخاصة في مباراة بلاده مع انجلترا ثم مع المانيا في النهائي..وكانت مباراة الأرجنتين ضد انجلترا تاريخية بكل معنى الكلمة..إذ جاءت بعد أربع سنوات من حرب خاطفة بين البلدين للسيطرة على "جزر فوكلاند" القريبة من سواحل الأرجنتين والتي كانت بريطانيا تحتلها منذ 1833 ..تلقت الأرجنتين هزيمة عسكرية مُذلَة لكل الأرجنتينيين ، وجاءت المباراة الفاصلة مع انجلترا في الدور قبل النهائي فرصة لرد الإعتبار ولو في الملعب..في الدقيقة 51 وصلت الكرة عالية الى مارادونا في منطقة الجزاء ،فقفز عالياً وسجل الهدف الأول في شباك الحارس الإنجليزي ولكنه سجل الكرة بيده ولم يشاهدها الحكم ..والغريب أن مارادونا إعترف لاحقاً بأنه لعب الكرة بيده ولكنه قال بفخر إنها "يد الله"!!..غير أنه لم تمر سوى بضع دقائق بعد الهدف الأول حتى تمكن النجم الأرجنتيني من تسجيل هدف تاريخي بمعنى الكلمة ،إذ استلم الكرة في نصف ملعب فريقه وراوغ نصف الفريق المنافس بالإضافة لحارس المرمى قبل أن يودعها المرمى محرزاً الهدف "الأفضل على مدى التاريخ"!!..ثم سجلت انجلترا هدفاً متأخراً لم يغير من النتيجة لتصعد الأرجنتين لمواجهة المانيا في النهائي وتفوز عليها 3/ 2 وتحرز كأس البطولة التي سُميت "مونديال مارادونا"..

الهدف الثاني لمارادونا ، والطريقة العبقرية التي سُجِل بها، أخرس الإنجليز وأنساهم الهدف الأول غير الشرعي،فضلاً عن وضع مارادونا في مكان آخر وتنصيبه بطلاً ومُخلِصاً ليس فقط لشعب الأرجنتين ولكن لكل شعوب أمريكا اللاتينية العاشقة لكرة القدم..وظلت شعبيته حية ومتنامية حتى بعد إعتزاله كرة القدم..وهو ما ساعده على رسم دور سياسي بارز على مستوى القارة والعالم..

مسيح الفقراء!!..

وكان أهم ما ساهم في تعزيز وتزايد شعبية مارادونا ، وتمدد دوره الإجتماعي والسياسي إنتماؤه للفقراء والمهمشين في دول أمريكا اللاتينية وتعاطفه مع قضاياهم ومعاناتهم، وكذلك عداؤه المعلن لهيمنة "الإمبريالية" الأمريكية على دول القارة الى الحد الذي دفعه لتزعم مظاهرة ضد الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن ووصفه بأنه "مجرد قمامة"!!..كما رفض مارادونا عرضاً أمريكياً بحمل الجنسية الأمريكية  مقابل مائة مليون دولار!!..وجاء صعود نجم "مسيح الفقراء" ، كما وصفه العديد من محبيه ، متزامناً مع صعود نخبة من الزعماء اليساريين والاشتراكيين في عدد من البلدان اللاتينية مثل الناصري (هكذا وصف نفسه) هوجو تشافيز في فنزويلا وخليفته نيكولاس مادورو ، ولولا دا سيلفا في البرازيل ، وإيفو موراليس في بوليفيا..وكان من الطبيعي أن تتوطد أواصر الصداقة بينه وبين هؤلاء الزعماء المنحازين للفقراء والمعادين للهيمنة الأمريكية..وساهمت هذه العلاقة القوية (إضافة الى علاقة الصداقة المتينة بين النجم الأرجنتيني والزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو ) الى حد كبير في نضج مارادونا السياسي وتعميق ميوله اليسارية حتى وصفه البعض ب"الزعيم الإشتراكي"!!..وأكد مارادونا إنتماءه للتيار الثوري في أمريكا اللاتينية بإستدعاء تاريخ وشعارات مواطنه الأسطورة تشي جيفارا ورسمه وشماً على جسده وإقامة علاقات وثيقة مع رموز الفن والأدب في القارة وخاصة الصحفي والروائي العالمي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز...

وكان للقضية الفلسطينية نصيب من هذا النضج السياسي والتحول الثوري في فكر مارادونا إذ عبر أكثر من مرة عن دعمه لحقوق الفسطينيين المشروعة متوجاً ذلك في مونديال موسكو الأخير عندما التقى الرئيس محمود عباس في العاصمة الروسية وعانقه بحرارة قائلاً "في أعماق قلبي أنا فلسطيني"..رحم الله مارادونا بقدر ما أسعدنا وألهم البسطاء والمهمشين والمقهورين وأعطاهم الأمل في الترقي والصعود الإجتماعي عبر ممارسة لعبة ساحرة إسمها كرة القدم!!.. 

----------------------------

بقلم: أحمد طه النقر

مقالات اخرى للكاتب

في وداع





اعلان