25 - 04 - 2024

أيتام أمريكا

أيتام أمريكا

قد لا يكون الاهتمام بالانتخابات الأمريكية، وبأسماء واتجاهات رؤساء البيت الأبيض عيبا فى ذاته ، لكن المسألة فى أقطار العالم العربى تجاوزت حدود الاهتمام والدرس والفهم ، وتحولت إلى حالة مرضية من زمن طويل ، وهو ما عاد للظهور بقوة مع انتخابات واشنطن الأخيرة، فنظم بكاملها لا تخفى جزعها من رحيل دونالد ترامب المنتظر فى 20 يناير 2021 ، وجماعات من البؤساء تستبشر خيرا بقدوم جو بايدن رئيسا جديدا ، وكأنه المنقذ لها من الضياع والفوات التاريخى .

ولن تتعب فى البحث عن الأسباب ، فهذه منطقة وقعت فريسة لتبعية ذيلية مزمنة ، تقادمت عليها العهود والعقود ، ربما منذ حرب أكتوبر 1973 بالذات ، والمفارقة المؤسية التى جرت بعدها ، فقد بدا النصر العظيم على جبهة السلاح موحيا بأمل ، وباستطراد لاختيارات الاستقلال والتصنيع والإرادة التى أنجبت النصر ، لكن خذلان السياسة ضيع معنى النصر ، وحوله إلى نصر مخطوف ، فى مفارقة عكسية تماما مع ما أعقب كارثة 1967 ، التى حولتها إرادة التحدى إلى هزيمة خاطفة ، لم تقعد الأمة ، وفى قلبها مصر ، حبيسة لجدران اليأس ، بل كانت حافزا لإعادة بناء عسكرى جبارة ، استوعبت الدرس ، وقفزت فوق الحواجز ، وأعادت صياغة المشهد ببصيرة ملهمة ، كانت زادا لعبور إلى حدود النصر ، بينما كان وضع القمة الصانعة للقرار يتبدل بعد رحيل عبد الناصر المفاجئ أواخر 1970 ، وإن استمر إرثه مؤثرا متصلا بحركة القصور الذاتى إلى نهاية الحرب ، ثم جرى الانقلاب على اختيارات عبد الناصر كلها بعد النصر ، وداس الذين "هبروا" فوق دماء الذين عبروا ، وألحقت مصر القائدة بقطار التبعية الأمريكية ، وبخطوات الصلح المهين مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وتفكيك ركائز التصنيع المدنى والعسكرى ، وفك تعبئة المجتمع من أجل النهوض ، وبما أخرجنا من سباق العصر ، وقادنا إلى هزيمة حضارية شاملة ، وتركنا نهبا لجماعات الفساد المتوحش ، وتفشى سيطرة اليمين الدينى ، الذى ضخمت وجوده فوائض المال البترولى ، التى كانت مصاحبة لزحف الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على مصائر المنطقة ، وبدواعى الانتقام وتصفية الحساب مع زمن الثورة الأم وأحلام الاستقلال والتقدم ، ودفعنا إلى عصور التيه المتصل إلى اليوم ، وعلى نحو ما أوحت به مسرحية الفنان محمد صبحى الشهيرة "ماما أمريكا" أواسط تسعينيات القرن العشرين ، وما نبه إليه مبكرا شاعر المقاومة محمود درويش ، وإشارة إصبعه إلى أمريكا التى هى "الطاعون" ، وقد فتك بنا الطاعون الأمريكى طويلا ، برغم مقاومات باسلة مؤثرة على جبهة الصدام مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى والاحتلال الأمريكى للعراق ، وبرغم ثورات شعبية عظمى قامت وتعثرت ، وبرغم محاولات جرت وتجرى للخروج من ليلنا الأمريكى الطويل ، وعلى نحو ما يجرى فى مصر مثلا من سنوات ، فقد قام الجيش المصرى بإنهاء وضع مناطق نزع السلاح فى سيناء ، وتحول النص عليها فيما يسمى "معاهدة السلام" إلى حبر جف فوق الورق ، وتراجع تأثير المعونة الأمريكية العسكرية ، على تواضع قيمتها المالية السنوية (1300 مليون دولار) ، خصوصا مع لجوء السياسة المصرية إلى التنويع  الهائل فى مصادر السلاح والإحياء الواسع للصناعات الحربية ، وتطوير الشراكات الاستراتيجية مع الصين وروسيا والدول المؤثرة فى الاتحاد الأوروبى ، وبما أضعف نسبيا من وزن الشراكة المتقادمة مع واشنطن ، وإن بقى الضمان الأهم فى كسب كامل الاستقلال الوطنى ، فى تصحيح وتطوير جوهرى لسياسات الداخل ، بالتقدم إلى التصنيع الشامل واقتصاد المعرفة ورد اعتبار العدالة الاجتماعية وكنس الفساد وإطلاق الحريات العامة .

وبالعموم ، فقد بدت الأمة لعقود ساكنة فى قبو التاريخ ، وتصورت فى الغيبة والغيبوبة ، أن الدنيا ظلت كما كانت وقت خروجنا من سباق الحوادث الكبرى ، وأن أمريكا قادرة على كل شئ ، وأنها قوة العالم الأولى بلا منافس ، وقد كان ذلك صحيحا فيما مضى ، حين كانت لواشنطن غلبة فارقة فى موارد الاقتصاد والسلاح ، لكن انفصالنا عن تطورات العالم فى العقود الأخيرة ، حجب عن أغلبنا حقائق ما جرى ويجرى ، فلم تعد أمريكا ذلك المثال الملهم الخاطف للأبصار ، ولم تعد "القوة الأعظم" بألف ولام التعريف ، بل نزلت عن مكانة القطب الوحيد التى بدت عليها بعد تفكك الاتحاد السوفيتى ، وقبل اكتمال أمارات الصعود الصاروخى لقوة الصين ، وبما جعل أمريكا "قوة عظمى" ، ولكن بين متعددين متنافسين على القمة الدولية ، وبنظم سياسة واقتصاد مختلفة عن المثال الأمريكى ، الذى تتشقق حوائطه ، وعلى نحو ما بدا ظاهرا فى وقائع الانتخابات الرئاسية الأخيرة وبعدها ، وإشارات التفكك والانقسام المجتمعى غير المسبوق منذ الحرب الأهلية الأمريكية ، التى تبدو فى بعض مظاهرها كرجع صدى لتراجع قوة أمريكا المنفردة كونيا ، فقد بدأت "العولمة" كإطار لكفالة هيمنة أمريكا العالمية ، وبدت مرادفة للأمركة ، لكن مكر التاريخ ، جعل النهايات والمآلات لافتة ، وبدت أمريكا "العظمى" كضحية مفضلة لعولمة ابتدعتها ، وعلى طريقة ماجرى فى جائحة كورونا المعولمة ، التى افترست أمريكا بأكثر من غيرها ، وكشفت عوارها وتواضع نظمها الصحية وقيمها الاجتماعية ، فيما فازت القيم الآسيوية الصاعدة ، وفى قلبها المثال الصينى المتفوق قيميا وتكنولوجيا ، إلى جوار نظم أخرى مختلفة سياسيا فى الشرق المتقدم ، وعلى نحو ما رأينا فى كوريا الجنوبية واليابان وتايوان وسنغافورة ونيوزيلندا ، وقد تنجح اللقاحات المكتملة تجاربها حديثا فى وضع حد للجائحة ، لكن هزيمة أمريكا تظل متصلة فى جوائح الاقتصاد والتجارة ، فقد تحول "المحيط الهادى" إلى مركز السباق الدولى المحتدم ، ولم تفلح حروب أمريكا التجارية فى وقف الزحف الصينى ، ووجهت "بكين" ضربتها الكبرى مؤخرا ، وقادت عملية تشكيل أكبر منطقة تجارة حرة فى الدنيا ، تضم 15 دولة على شواطئ المحيط بزعامة الصين ، فيما جرى استبعاد أمريكا ، وهو ما يراه الرئيس الأمريكى المنتخب أخطر التحديات ، ودعا إلى حلف اقتصادى عاجل بين أمريكا وأوروبا لمواجهة الصين ، وهو ما لا يبدو ممكنا بسلاسة ، وحذر من تداعياته هنرى كيسنجر، فالصين وحدها صارت تملك 35% من إجمالى حجم التجارة العالمية ، واقتصادها الديناميكى بلا ديون ، بل بفوائض فلكية تريليونية ، تقدمت بها إلى مكانة القطب الأعظم فى عالم الإقراض والمعونات والمنح ، فيما أمريكا منشغلة بذاتها المتصدعة ،  وتكاد لا تجد زادا خالصا سائغا إلا فى منطقتنا المنكوبة بامتياز ، بتجارة السلاح التى تحتل فيها أمريكا المركز الأول عالميا ، وتستورد نظمنا الأكثر بؤسا نحو ثلث مبيعات السلاح الأمريكى ، لا لخوض حروب عادلة ، بل لحماية نظم الهوان ، وتأجيج الحروب الداخلية فى عدد متزايد من الأقطار العربية ، ومد جسور التحالف مع إسرائيل ، التى تظل "درة التاج" فى سياسة واشنطن بالمنطقة ، وكما قال بايدن المعتز بصهيونيته "لو لم توجد إسرائيل لاخترعناها".

والأغرب ، أن الرهان البائس على بايدن ، كما الرهان من قبله على سلفه ترامب ، ليس مقصورا على نظم تسلط ديناصورى ، جعلت قبلة صلواتها فى البيت الأبيض ، وعند أقدام سادة المكتب البيضاوى ، بل صارت العادة الذميمة ديدنا ودينا لتيارات ، تدعى أنها شعبية ومعارضة ، برغم تراكم العظات والدروس لمن يصيخ السمع وهو بصير ، وعلى طريقة ما جرى ويجرى فى العشرين سنة الأخيرة بالذات ، بدءا من لجوء تيارات معارضة إسلامية وليبرالية إلى القوة الأمريكية ، والاستنجاد بها لإزالة حكم صدام حسين فى العراق ، وبدعاوى جلب الديمقراطية ، وكانت النتيجة على ما رأينا ونرى ، فلا ديمقراطية أتت على ظهور الدبابات الأمريكية ، ولا العراق نفسه تبقى وطنا لأهله ، فقد داووا العراق بالداء الأشنع ، بأن فقأوا عينيه وحطموا عموده الفقرى ، وهو ما تداعى بالضلال نفسه إلى ظاهرة الثورات الشعبية عبر العقد الأخير ، وقد بدأت وطنية خالصة ، إلى أن لوثتها التدخلات الأمريكية الفظة ، التى وجدت لها سندا فى جماعات اليمين الدينى والليبرالى ، وحطمت أوطانا بكاملها ، وشردت شعوبا ، وحولت الثورات إلى لعنات ، مدت فى عمر نظم الفساد والاستبداد ، وأصابت القواعد الشعبية بالنفور ، فى دراما لم تكتب نهاياتها بعد ، فالثورات تعثرت ، لكنها لم تلفظ أنفاسها ، وتوالت موجاتها ، ولكن مع وعى شعبى مستعاد ، يلفظ جماعات الولاء لأمريكا ، ويزدرى المراهنين على عطف "ماما أمريكا" ، فالوعى المستيقظ فى الوجدان الشعبى العربى بعامة ، يعرف أن أمريكا هى "الطاعون" ، ولن يتمكن أحد من خداعه مجددا ، فأمريكا ليست جمعية خيرية ، وأمريكا هى العدو الأول لا تزال ليقظة الشعوب وحرياتها ، تماما بتمام مع نظمها التابعة الفاسدة المفسدة ، ومع معارضاتها المرتهنة لدوائر الأعمال القذرة ، التى لن تنقذ توابع أمريكا ولا أيتامها
-------------------------
بقلم: عبد الحليم قنديل
[email protected]


مقالات اخرى للكاتب

عودة لإيران والكيان





اعلان