10 - 11 - 2024

حكايتي مع اللواء طنطاوي وعصابة الحزب الوطني.. ملحمة الجبل الشرقي في سوهاج (9- 10)

حكايتي مع اللواء طنطاوي وعصابة الحزب الوطني.. ملحمة الجبل الشرقي في سوهاج (9- 10)

*سفير فرنسا وزوجته في الحاجر!!

قلتُ إنه مع قدوم المحافظ الجديد الى سوهاج، إتجهت البوصلة للجبل الغربي بناءً على نصيحة كهنة الفرعون، وكان من الطبيعي أن يُصيب الإهمال والتجاهل مشروعات طنطاوي العملاقة في الجبل الشرقي، والتي كانت تشمل مع مشروعات عديدة أخرى، إنشاء مجمع ثقافي كبير يحمل إسم رائد النهضة الحديثة ابن سوهاج رفاعة رافع الطهطاوي.. وقد خصص طنطاوي بالفعل مساحة 12 ألف متر مربع لهذا الصرح الكبير الذي كان من المخطط أن يشمل داراً للاوبرا وعددا من المسارح ودور السينما ومركزاً عالمياً متطوراً للغات والترجمة.. وكان التفكير أن يكون هذا المجمع منارة ثقافية كبرى تليق بإسم رائد النهضة وتخدم كل ابناء الصعيد.. وفكرنا كذلك في نقل مكتبة رفاعة من مكانها الحالي في مبنى البلدية القديم، إلى المجمع الجديد، وذلك بعد ترميمها وانقاذ المخطوطات النادرة التي توجد بها في حالة يُرثى لها. 

وفكرة هذا المجمع من الألف الى الياء كانت إقتراحاً مني كتبتُه على صفحات "الأخبار" ورحب به المحافظ على الفور، وزاد حماسه للمشروع عندما قلتُ له إن فرنسا سترحب بتمويل أي مشروع يحمل إسم رفاعة وخاصة إذا كان في مسقط رأسه بالصعيد.. كذلك أبلغتُ المحافظ بأنني فاتحتُ صديقين كبيرين في هذا الموضوع ورحبا به جداً ووعدا بالمساعدة في إقناع السفير الفرنسي بالقاهرة بزيارة سوهاج وتمويل مجمع رفاعة عملاق الثقافة والصحافة والترجمة وتدريس اللغات (مدرسة الألسن) في مصر والشرق.. وكانت سعادة اللواء طنطاوي بلا حدود عندما أبلغته أن هذين الصديقين من أبناء سوهاج وهما الكاتب الصحفي الكبير والروائي العالمي جمال الغيطاني (رحمه الله) والسفير محمد رفاعة الطهطاوي (فك الله أسره) حفيد رائد نهضة مصر.

(السفير محمد رفاعة الطهاوي .. الحفيد)

وبالفعل نجحت جهودنا نحن الثلاثة في هذا المسعى وجاء السفير الفرنسي فرانسوا دوبفير وزوجته ماتيلدا الى سوهاج، ولكن الزيارة تمت بعد أن غادر طنطاوي منصبه للأسف الشديد، بل تمت في عهد المحافظ الذي خلف خليفة طنطاوي في المنصب (م.ك.) وهو لواء شرطة محدود الأفق لم يُحسِن إستقبال السفير ومرافقيه وبينهم كبار مسئولي السفارة وكبار الصحفيين.. كان ذلك المحافظ قد دخل سريعاً في حظيرة أمين الحزب الوطني الذي تنفس الصعداء وإستعاد النفوذ والسيطرة بعد رحيل طنطاوي.. وكان كل ما يفكر فيه ذلك المحافظ هو المظهريات إذ كان يقول "جهزوا الموكب والسيارة المرسيدس وبلغوا أمين الحزب" كلما فكر في مغادرة مكتبه ولو إلى دورة المياه!!..

كان الإستقبال الفاتر وغير اللائق بسفير دولة عظمى جاء لخدمة المحافظة صدمة مُحرِجَة لنا جميعاً، ومن حسن الحظ أنني كنتُ قد أعددتُ عزومة تليق بالسفير وضيوفه، في دوارنا ..وكان الإستقبال في الدوار رائعاً وودوداً وكاد السفير وزوجته أن يرقصا من فِرط الفرحة والسعادة، وأكدا أنها المرة الأولى التي يلتقون فيها بشعب مصر الحقيقي منذ وصولهما الى القاهرة.. ووسط أجواء الإحتفال التي أنستنا جليطة وجلافة المحافظ ، اقترح السفير رفاعة (قال لي فيما بعد إننا رفعنا رأسه وكان هو والغيطاني يحكيان عن الزيارة والعزومة في كل مكان نتواجد فيه معاً) أن أُلقي كلمة، فكان ردي أن الكلمة الأولى يجب أن تكون لضيفنا الكبير الذي شرف دوارنا وقريتنا ومحافظتنا وكل الصعيد، هو والسيدة حرمه.. وبالفعل تحدث السفير الفرنسي فشكرنا على الكرم وحُسن الإستقبال ثم تكلم عن العلاقات بين الشعبين المصري والفرنسي وولع الفرنسيين بالحضارة المصرية منذ نجح شامبليون في فك رموز حجر رشيد.. واختتم السفير كلمته بالإشارة الى دور الطهطاوي في تعريف المصريين والعرب بفرنسا وحضارتها وأبدى إستعداد بلاده التام للمساهمة في أي مشروع يخلد ذكرى رفاعة ويخدم أحفاده من أبناء الصعيد.. وكانت تتولى الترجمة جيلان آلوم مديرة مركز الدراسات والوثائق الفرنسية بالقاهرة(سيديج).. وحين جاء دوري، رحبتُ بالسفير وزوجته والوفد المرافق وقلتُ إن كلمتي ستتناول فضل رفاعة على فرنسا (وهنا علت الدهشة وجوه البعض بينما لمعت عيون الغيطاني والسفير رفاعة بالغبطة والفخر).. وأوضحتُ أن "ما سطره رفاعة عن بعثته العلمية في فرنسا وتفاصيل الحياة الإجتماعية في باريس في ذلك العصر، في كتاباته وخاصة كتابه الأشهر (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، يمثل مَرجِعاً تاريخياً وعلمياً بلا نظير لعلماء الإجتماع والتاريخ والجغرافيا والسكان في فرنسا، وكل الباحثين في هذه المجالات، يرجعون اليه كلما أعوزتهم الحاجة لوثيقة معاصرة تسجل بالتفصيل كل مشاهدات جدنا العبقري في مدينة النور منذ ما يزيد على قرن ونصف من الزمان.. أما ما حققته كتابات وترجمات رفاعة في تأسيس الثقافة الفرانكفونية في مصر والشرق، فذلك مما لا يمكن حسابه أو قياسه"!!.. كانت كلمتي مختصرة ولكنها لاقت استحسان وتصفيق الحضور.

إنتهت الزيارة بما بدأت به من الود والشعور بالسعادة والعرفان من جانب السفير وزوجته مما عوض الى حد كبير جليطة وبلادة المحافظ.. وسجل الغيطاني تفاصيل الرحلة وزيارة السفير لسوهاج على صفحات "أخبار الأدب" التي حمل غلافها عنوان "فرنسا ترد الجميل لرفاعة".. بينما أعددتُ تغطية للزيارة نُشرت على صفحة كاملة بالمجلة بعنوان "رفاعة يعود الى سوهاج" تناولت فيها زيارة السفير لمكتبة رفاعة ومصانع الحرير في أخميم.. وللأسف الشديد لم يُكتب لمشروع "مجمع رفاعة الثقافي" أن يرى النور حتى كتابة هذه السطور، وكان يمكن أن يكون منارة ثقافية تساهم في حماية الصعيد من غول الجهل والتخلف والتطرف والإرهاب، إلا أن المحافظ ضيق الأفق ضيع ، بتحريض من قيادات الحزب الوطني الفاسدة والأشد جهلاً ، فرصة ذهبية لنشر الثقافة والتنوير، وكم دفعت مصر وستدفع غالياً ثمن جهل وفساد حكامها!!..

(اللواء سعيد البلتاجي .. محافظ سوهاج الأسبق)

ولكي تكون شهادتي عن أحداث الفترة التي أعقبت رحيل طنطاوي مكتملة وموضوعية، يجب أن أتحدث عن محافظ آخر جاء في مرحلة لاحقة (ربما كان ثالث محافظ بعد طنطاوي)، وهو اللواء شرطة سعيد البلتاجي، ولكن هذا الرجل لم يُكتب له أن يستمر طويلاً لانه تصدى لفساد قيادات الحزب الوطني واوقف العمل في فندق سياحي مخالف على النيل يشارك فيه رجال أعمال من رموز وقيادات الحزب وعلى رأسهم الأمين العام السابق للحزب في المحافظة.. كان البلتاجي على علم بتجربة طنطاوي وعلاقتي به، وحدث تواصل بيننا وذهبتُ اليه وأعجبني حماسه وطريقة تفكيره، ولكن ما أقنعني بدعمه هو أنه تصدى بجسارة لعصابة الحزب وفسادها.. كما إستحدث مبادرة سماها "العودة للجذور" تستهدف دعوة الطيور المهاجرة من كبار رجال الأعمال والمليونيرات السوهاجيين الذين ينتشرون في القاهرة والإسكندرية والمحافظات الاخرى، الى العودة الى جذورهم وضخ بعض الإستثمارات في مسقط رأسهم.. وبالفعل وجه المحافظ الدعوة الى العديد من رجال الأعمال السوهاجيين ومنهم نجيب ساويرس ومنير فخري عبد النور، كما دعا عددا من كبار الصحفيين.. ومن سخريات القدر وسوء حظ البلتاجي أن هذه المبادرة كانت وراء استبعاده من سوهاج لانه تجرأ وتصدى لفساد الحزب الوطني وبارونات رأس المال!!.. جاء وفد رجال الأعمال والصحفيين الى سوهاج على متن طائرة ساويرس، ولكني فضلتُ السفر بالقطار حتى لا أتطفل على أحد وخاصة إذا كان رجل أعمال..
-------------------------
بقلم: أحمد طه النقر

مقالات اخرى للكاتب

في وداع