25 - 04 - 2024

شاهد على العصر (20) قصة البيان الذي أزعج أمريكا ورفضه بعض مدعيي الوطنية

شاهد على العصر (20) قصة البيان الذي أزعج أمريكا ورفضه بعض مدعيي الوطنية

تصاعدت العمليات الإرهابية ضد الأقباط فى تسعينيات القرن الماضي، الشيء الذي أعطى الفرصة للمتاجرين بمشاكل الأقباط فى الداخل والخارج، ففى الداخل تأثر المناخ العام المصرى نتيجة للحوادث الطائفية مما أعطى الفرصة للحديث عن مشاكل ومعاناة الأقباط، مثل الغياب  عن بعض الوظائف خصوصا في الأجهزة السيادية مثل الشرطة والقوات المسلحة والجامعات ...الخ، خاصة أن ذلك تزامن مع هجرة الاقباط إلى الكنيسة، التي كانت قد أخذت مداها، وأصبحت الكنيسة تمارس دور الوصي السياسي على الأقباط، مما كرس الفرز الطائفي مع المسلمين مما أصبح يمثل خطورة حقيقية على الوطن. 

كنت ومنذ بداية التسعينيات وقت وقوع أحداث صنبو، قد جعلت دراسة وتحليل العلاقة الإسلامية المسيحية هى كل اهتمامى الفكرى (تأليف كتاب من يمثل الأقباط الدولة أم البابا؟) والسياسى بعقد لقاءات مع الشباب المصرى مسلمين ومسيحيين فى القوصية وأسيوط، إضافة لتكوين جماعة وطنية نتدارس من خلالها القضية على أرضية مصرية وطنية محايدة. فدعوت بعض رموز الوطنية المصرية مثل الدكتور يونان لبيب رزق والدكتور على الدين هلال (وزير الشباب الأسبق وعضو أمانة الحزب الوطني) والدكتور وليم سليمان قلادة والدكتورة نعمات احمد فؤاد والدكتور طارق البشرى والشاعر عبد الرحمن الأبنودي وغيرهم كثيرين، وذلك لدعم هذه الحركة. 

كنت أعلم أن هناك بالفعل مشاكل للأقباط لاينكرها الفكر الوطنى المحايد والخائف على الوطن، ولكن كانت ولا زالت رؤيتى أن هذه المشاكل لا تحل على الأرضية الطائفية (مطالب أقباط فى مواجهة مطالب مسلمين) ولكن الحل هو طرح المشاكل كل المشاكل للجميع على أرضية وطنية مصرية، يشارك ويتشارك الجميع فى حلها. فعندما تطرح قضية تخص المصريين الاقباط من خلال الكنيسة، تأخذ هذه القضية بعدا طائفيا حتى ولو كان يتشارك فيها المصريون المسلمون، مما يجعل الطرف الآخر يأخذ موقفا سلبيا من هذه القضية، لأنه لا علاقة له بالكنيسة، ولكن علاقته بالمصري القبطي موجودة على أرضية وطنية مصرية. 

هنا يتعقد الحل وتتصاعد الأمور نتيجة للمناخ والفرز الطائفى الموجود والموروث عبر السنين، وهذا المناخ له أسبابه الموضوعية التى تحدثنا عنها كثيرا، وأهمها العزلة والفرز بين هذا وذاك، حيث أن العلاقات الإنسانية والحياتية والمشاركة بين المصريين، هو الدواء الناجع والعلاج الشافى. 

أما على الجانب الخارجي، فالعلاقة الإسلامية - المسيحية هي دائما الورقة الرابحة التى يلعب عليها الاستعمار منذ الحروب الصليبية مرورا بالاستعمار الفرنسى والبريطاني وصولا إلى الاستعمار الأمريكى المتدثر باساليب وأشكال متعددة وحديثة بعيدا عن الشكل الاستيطاني الاستعماري، فكان الاستعمار البريطاني يتذرع بحماية الأقليات الدينية (تصريح 22 فيراير1922) ويعتمد على (سياسة فرق تسد) والأهم أنه كان يقوم باختراق الأقباط، فكان البعض منهم ينحاز إلى المحتل، بل كان أحيانا يطلب الحماية منه! أما فى زمن الاستعمار الأمريكى الحديث فقد أصبحت سبوبة ما يسمى بحقوق الإنسان والأقليات هى الورقة التى تفرض من خلالها أمريكا وصايتها وتدخلها فى شئون الدول. 

ولما كانت حركة الهجرة إلى الخارج قد زادت خاصة إلى أمريكا، فكان هناك بعض وليس كل الأقباط الذين حصلوا على الجنسية الأمريكية قد انبهروا بهذه الجنسية، واعتبروا أمريكا هى وطنهم الأول وليس مصر، فأصبحوا أمريكان متمصرين اسما، ودائما مهما تغرب المصري ووصل فى الخارج لكنه لايثبت وجوده ولا يشعر بكيانه إلا فى مصر، ليقول أنا هنا من خلال سبوبة الدفاع عن الأقباط. 

هنا استغلت الأجهزة الأمريكية والمنظمات الأهلية الدولية هؤلاء تحت ادعاء الدفاع عن الأقباط وحل مشاكلهم، فأعطتهم الجنسية والوظيفة والتمويل لكتابة التقارير وعقد المؤتمرات  التى تدعى اضطهاد الأقباط فى مصر، بل الأخطر طلب التدخل فى شئون مصر بهذه الحجة. 

هنا وجدنا تيار الصهيونية المسيحية الأمريكى الذى يعتبر اليهود هم شعب الله المختار، وأن أرض فلسطين هى ارض الميعاد، وأن اليهود من حقهم بناء الهيكل الذى لن يبنى إلا على أنقاض المسجد الأقصى!! يصدرون بيانا تحت عنوان (بيان لإثارة الضمير) وذلك فى 23 نوفمبر 1996، وذلك بمناسبة المؤتمر الذى نظمه بيت الحرية، ذلك البيت الذى انشيء عام 1941، والذي كانت ترأسه يهودية حينذاك. 

في وقت إصدار البيان ظهرت حملة يقودها شخصيات أمريكية وبهودية ضد البلاد التى يزعمون أنها تضطهد المسيحيين وعلى رأسها مصر، ولذا ظهر قانون الاضطهاد الدينى والدفاع عن الأقليات كأحد أدوات تنفيذ المخططات الصهيو أمريكية. هذا القانون يعطى امريكا الحق فى التعامل مع الأقباط المضطهدين وفى مقر السفارة الأمريكية، بل من حق السفارة طلب وتوظيف من يعمل معهم فى كتابة التقارير التى تكون السند لإعداد التقرير نصف السنوى الذى تصدره الخارجية الأمريكية لمحاسبة الدول تحت زعم حماية الأقليات. 

هنا تأكدت أن الخطة الأمريكية وبايعاز من هذه القلة من أقباط المهجر، الذين باعوا أنفسهم، تعلن جهارا التدخل فى شئون الوطن تحت هذا الزعم. 

قمت بإعداد بيان أرفض فيه التدخل الأمريكى فى شئون الوطن بحجة حماية الأقباط. واتصلت بمائة شخصية عامة مصرية إسلامية ومسيحية للتوقيع على البيان الذي نرفض فيه هذا التدخل، وقع على البيان رؤساء الأحزاب المعارضة وعلى رأسهم خالد محيى الدين وإبراهيم شكرى ورؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية بلا استثناء، كذلك السياسيون والصحفيون والفنانون ونواب مجلس الشعب، بل وقعت نماذج احتوت الشعب المصرى كله. 

أرسلت البيان إلى وكالات الانباء المحلية والعالمية وإلى رؤساء تحرير الصحف المصرية، وقد كانت مجلة روزاليوسف صاحبة السبق الصحفى فى نشر البيان وقصة إصداره فى عددها الصادر بتاريخ 9 نوفمبر 1997، ثم نشر فى جريدة الشعب على الصفحة الأخيرة كاملة بجميع الأسماء، بالإضافة إلى إشادة الجرائد القومية والحزبية بهذا البيان، كما تناوله بالتعليق عدد من كبار الصحفيين مثل كامل زهيرى فى جريدة الجمهورية وسعيد سنبل رئيس تحرير جريدة الأخبار وطلعت رميح فى جريدة الشعب وكذلك جمال بدوى رئيس تحرير جريدة الوفد. 

وتوالت ردود الأفعال ليوقع على البيان بشكل تلقائي العشرات من الشخصيات العامة المصرية الذين أكدوا على رفضهم للتدخل الأمريكى فى شئون الوطن الداخلية، تحت دعوى الدفاع عن الأقباط .. وكان هذا الموقف هو الامتداد التاريخى والطبيعى لمواقف الكنيسة القبطية فى رفض التدخل الأجنبى من قبل القوى الاستعمارية، التى تتخفى وراء شعارات حقوق الإنسان. 

الغريب وللموضوعية والتاريخ كان هناك بعض الشخصيات العامة التى رفضت التوقيع على البيان! 

كان د. ميلاد حنا قد أدلى بحوار لمجلة المصور قال فيه أن الاقباط مواطنون من الدرجة الثانية، وقمت بالرد عليه فى مقال بعنوان (ميلاد حنا زعيم من الدرجة الثانية) معتبرا أن هذا الكلام هو نوع من الطائفية لايحل مشاكل، خاصة إذا صدر من شخصية مثل ميلاد (هناك مواقف تظهر العمق الطائفى للأشخاص المتدثرين وراء شعارات وطنية لزوم الحاجة) مبينا أن الدستور والقانون لا يفرقان بين مصرى وآخر لأى سبب، ولكنه المناخ والموروث الطائفى الذى لا يغيب بغير التوافق والتشارك والتوحد الوطنى. 

اتصلت بميلاد حنا للتوقيع على البيان، رفض بشدة التوقيع لأننى من يقف وراء هذا البيان، والغريب أنه برر بالقول أنه غاضب مني. بعدما نشر البيان وأخذ هذا البعد الإعلامى محليا وعالميا اتصل ميلاد بعادل حسين رئيس تحرير جريدة الشعب وعاتبه على أن أحدا لم يتصل به ليوقع مع الموقعين، واعترض على عدم وجود اسمه بينهم، ولم يذكر له على الإطلاق أنى اتصلت به وحدث ماحدث، وكان هذا فى وجود جورج اسحق، مع العلم أن عادل حسين كان يعلم تفاصيل ما حدث! 

الشخص الآخر الذى رفض التوقيع هو القس منيس عبد النور، وهو له مكانته ووضعه الخاص داخل الكنيسة القبطية الإنجيلية، قال لي: من الذى قال إن أمريكا تتدخل فى الشئون الداخلية المصرية؟ وبدأ يراوغ ويتهرب، لدرجة أننى قلت له: أنا أريد أن أسجل موقفا تاريخيا للأقباط والمصريين ضد التدخل الأجنبي، ولا بد للأقباط الإنجيليين أن يكونوا مشاركين فى هذا الموقف، خاصة أن الطائفة الإنجيلية يؤخذ عليها خطأ أنها تنحاز إلى أتباع الصهيونية المسيحية، لكنه رفض التوقيع!!. 

الشخصية الثالثة المدهشة هى د. انجيل سمعان بطرس عضو مجلس شعب (بالتعيين) وعضو المجلس الملى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، اتصلت بها وقرأت عليها البيان، أخذت تناقش وتناور وتزيد وتعيد، وأعيد أنا قراءة البيان مرة أخرى. هنا جاءتنى إجابتها كالصاعقة إذ قالت: (أنا لست ضد أمريكا)!! والأغرب والأدهى أنها قالت بعد ذلك أنها ليست ضد الحكومة، فقلت لها: بالرغم أننى معارض، لكن نحن والحكومة والشعب المصرى كله مسلمين ومسيحيين والكنيسة (التى انت عضو مجلسها الملى) كلنا ضد التدخل الأجنبى. وبالرغم أننى معارض إلا أن موقفا مثل هذا سيكون فى صالح الحكومة تاريخيا، فقالت لي: (أنت معارض ضد من؟!) 

تعجبت من أن أستاذة جامعية وعضو مجلس شعب وعضو مجلس ملى للكنيسة، تسأل ما معنى معارض وضد من يعارض؟!. 

بعد تلك التطورات والزخم الذى أحدثه البيان، فوجئت باتصال غير متوقع من السفارة الأمريكية بالقاهرة بى فى منزلى على التليفون الأرضي، تم الاتصال من خلال شخص فى السفارة يعمل فى قسم حقوق الإنسان وشئون المسيحيين، ويدعى جون لبيب وهو مصرى. قال لى أنهم يتابعوننى من خلال المقالات فى الصحافة المصرية وموافقى ضد أمريكا، وأضاف قائلا: إن البيان الذى نشر فى الصحافة المصرية والعالمية ضد التدخل فى شئون مصر قد أزعج امريكا وأن رئيسة إدارة حقوق الإنسان وشئون المسيحيين فى السفارة الأمريكية وتدعى (مولى في) تريد أن تلتقى بك، قال هذا الكلام وهو متردد. فقلت له: لا مانع أهلا وسهلا. أحسست أنه تهلل وفرح وطلب أن أحدد موعدا يناسبني، فقد كان يتصور أننى أقيم فى القاهرة وليس فى القوصية بأسيوط. طلبت أن يعاود الاتصال مرة أخرى، بالفعل عاود الاتصال أربع مرات خلال خمسة عشر يوما، وفى آخر اتصال حددت له موعدا للقاء. قال: نحن تحت أمرك للقاء فى أي مكان تختار، هنا قررت أن أقتحم عرين الاسد وأن أقابلهم فى عقر دارهم داخل السفارة الأمريكية بالقاهرة، وحددت يوم الأربعاء العاشر من ديسمبر ١٩٩٧ وبالتحديد فى العاشرة صباحا موعدا للقاء، فماذا حدث داخل السفارة؟، سنعرف.
------------------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان