28 - 03 - 2024

شاهد على العصر(19) غيَّرت أفكار عادل حسين وحاورت الترابي والبشير

شاهد على العصر(19) غيَّرت أفكار عادل حسين وحاورت الترابي والبشير

بعد تلك التجارب الحزبية التى مررت بها سواء كانت تجربة حزب التجمع أو حزب العمل وأخيرا العودة إلى التجمع، وجدت أن المبادئ اختفت والقيم الحزبية تدهورت والمصالح الشخصية هى المحرك والملهم، والممارسة الديمقراطية شكل فارغ بدون مضمون. 

فالهتاف صباح مساء بالديمقراطية ومطالبة السلطة بتطبيقها، ولكن داخل الأحزاب تذبح تلك الديموقراطية أمام العمل على إنجاح فريق القيادة المسيطرة على الحزب (أي حزب)، فقط يختلف المسمى الفكرى فى اليافطة المرفوعة على مبنى مقر الحزب أما الممارسة فهي هي ذات الممارسة. 

وعلى ذلك وبعد هذه التجارب قررت أن أمارس العمل السياسى كمستقل بعيدا عن الأحزاب، ولكن كانت هناك بالطبع علاقات إنسانية وشخصية تربطنى بقيادات تلك الأحزاب خاصة على المستوى الفكرى والسياسي. وفى أوائل التسعينات ومع ازدياد عمليات العنف والإرهاب فى الصعيد وبالذات فى محافظة أسيوط، كان لا بد من التفكير فى وجود مخرج سياسى وفكرى لتلك القضية، خاصة أن الإرهاب كان معظمه فى الصعيد موجها ضد الأقباط، وكانت ذروة تصعيد الإرهاب هي أحداث صنبو التى راح ضحيتها أكثر من عشرة شهداء الشيء الذى جعلنى أقوم بتأليف كتاب (من يمثل الأقباط الدولة أم البابا؟)، وكذلك كتابة مقالات فى هذا الإطار ونشرت بالطبع فى جريدة الشعب، حيث كنت قد تركت حزب التجمع بعد واقعة القس مندوب البابا الذى كان يطلب مغادرتى مؤتمرا فى الإسكندرية، يعقده الحزب الذى أنا أحد قياداته حسب تعليمات البابا. 

وفى الوقت الذى كان فيه عادل حسين الأمين العام لحزب العمل يكتب مقالات مستفزة جدا ضد الأقباط فى جريدة الشعب، خاصة بعد التحالف الانتخابى مع الاخوان ورفع شعار (الإسلام هو الحل)، وقد وصل عادل حسين فى مقالاته إلى القول: (على الأقباط إما أن يدفعوا الجزية أو أن يغادروا مصر!!).

وعادل حسين كان ماركسيا منذ شبابه، وكان اصغر شاب يدخل المعتقل ومعه رفعت السعيد وهما بالشورت (كان عادل ورفعت أصدقاء عمر حتى بعد تحول عادل إلى الإسلاموية وعلى كل المستويات)، حصل عادل على بكالوريوس العلوم وعمل صحفيا بالأخبار، ثم ألف أشهر كتاب اقتصادى (الاقتصاد من التبعية إلى الاستقلال والذى أشادت به الأمم المتحدة). 

بعد ثورة الخميني وكان فى لبنان استهوته الصحوة الاسلامية على اعتبار أنها المستقبل القادم للمنطقة، وكان معه نبيل شعث وزير الخارجية الفلسطينى الأسبق فتحولا إلى الفكر الاسلامي، وبهذه التركيبة ومن خلال علاقتى الخاصة بعادل اكتشفت أنه لا يعرف شيئا عن المسيحية والمسيحيين، كما أنه لم يكن متعمقا على الاطلاق فى الفكر الاسلامى الصحيح، باعتبار أنه كان طوال الوقت ماركسيا. دخلت فى حوار معمق مع عادل فى قضايا حساسة وهامة، بهدف أن يكون هذا الحوار بداية وخطوة فى تقريب الأمور وتوضيح الحقائق الغائبة عن الطرفين، كان هذا الحوار على صفحات جريدة الشعب ومن خلال حوارات شخصية مباشرة. كانت النتيجة تفهم عادل حسين لكثير من القضايا، خاصة أنه كان وظل يعتنق الفكر الماركسى حتى وفاته، ودليل ذلك أن الإخوان، فيما بعد، اتهموا عادل بأنه يريد مركسة الاسلام. كما أن الفصائل الماركسية جميعها نعت وأبنت عادل بعد وفاته بشكل غير مسبوق وكان ذلك فى جميع الصحف القومية والحزبية!! (وسأوضح ذلك فى الحلقات المقبلة الخاصة  بندوة الأربعاء التى كانت تعقد فى مطرانية القوصية)، فبالحوار المعمق والموضوعى وصلنا إلى فكرة الاسلام الحضارى. 

والإسلام الحضارى يعنى أن الحضارة المصرية والشخصية الحضارية المصرية هى مكون من الحقب التاريخية المصرية من الفرعونية مرورا باليونانية والرومانية والقبطية ثم الإسلامية. ولما كانت الحقبة الإسلامية هى الحقبة المعاشة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، فبالطبع يكون تأثير هذه الحقبة هو التأثير المباشر والأكثر وضوحا. ولذا فالتاريخ والتراث والعادات والتقاليد الإسلامية هى ملك لكل المصريين مسلمين وغير مسلمين، بالطبع عدا العقيدة الإسلامية فهى للمسلمين فقط، وهذا لا يلغى التعددية الثقافية التى تمثل الروافد الأصيلة والأصلية لنهر الثقافة المصرية العامة، فهذه الروافد من الثقافة القبطية والنوبية والبدوية هى إثراء للثقافة المصرية العامة. 

هنا تفهم عادل قضايا كثيرة، وكتب مقالات وأبحاث عدة تؤكد المعلومات التى كانت تغيب بل تغيب عمدا، حتى أنه وفى إحدى المشاكل التى كانت تواجه الكنيسة فى دير مواس التابعة للمنيا (كانت الجماعات الإسلامية قد استولت على فيلا ملك الكنيسة بها مسكن لأسقف دير مواس) كتب عادل يستهجن هذا الفعل بل قال: "حتى لو كانت هذه الفيلا كنيسة وليست سكنا للأسقف، فلا يصح ولا يحق لأحد الاستيلاء عليها".

وبناء على هذه النتائج الإيجابية التى نتجت عن هذا الحوار، قمت بدعوة عادل حسين لعقد مؤتمر لمدة يوم يتخلله غداء فى الكنيسة الإنجيلية الثانية بأسيوط، دعونا فيه رموزا من التيار السياسى الاسلامى والجماعة الإسلامية ونوعية من المسلمين غير المنتمين لهذه الجماعات مع مسيحيين كنسيين (خدام فى مدارس الأحد) ومسيحيين من غير المنتمين للخدمة الكنسية، إضافة إلى بعض الشخصيات العامة من الطرفين. 

قضينا يوما طرحنا فيه كل القضايا الطائفية والمشاكل الحياتية والتراكمات الثقافية والتاريخية التى خلقت هذا المناخ من التوتر، كانت الصراحة والمصارحة هما عنوان اليوم، وبنهايته كانت حواجز وحسابات كثيرة قد أسقطت على الأرضية الإنسانية حتى ولو بقى الخلاف وهذه طبيعة الأشياء.   

تواصلت العلاقة مع عادل وحضرت الاحتفال بالعيد الستينى لحركة مصر الفتاة، والذى تم فى فندق شبرد وحضره حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية الأسبق وفؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد وقيادات ممثلة لكل الأحزاب المصرية بما فيها الحزب الوطنى بالإضافة لقيادات مصر الفتاة القديمة وكان منهم الفنان محمد رضا والمؤرخ الفنى عبدالله أحمد عبدالله. 

قدمنى عادل للحديث فى المؤتمر وقد أعلن عودتى لحزب العمل، تحدثت فى إطار المفهوم الحضارى الذى هو الطريق الصحيح ويجسد التاريخ والواقع الذى يجمع ويربط أبناء الشعب المصرى بدون تفرقة على أي أرضية. 

وبالرغم من ذلك لم أعد إلى حزب العمل، ولم احضر أي اجتماع على الاطلاق، ومع ذلك فإن عادل استطاع الاستيلاء على الحزب بعد تكوينه لكوادر حزبية تبهرهم قدراته الذاتية والتنظيمية، فقد كان متحدثا لبقا بل ساحرا (كما أطلق عليه صديقى المفكر والكاتب أحمد الجمال) كان يستطيع التحدث لساعات دون أن يمل المستمع. 

نظم عادل انتخابات للحزب استولت فيها كوادر وقيادات تؤمن بفكر الإسلام الحضارى، وقد جمعت ماركسيين وإسلاميين وناصريين، أثناء هذه الانتخابات لم أغادر القوصية وكنت أتابعها من خلال صحيفة الشعب، وفوجئت أن عادل قام بتحرير طلب ترشح لي ودفع مائتي جنيه رسم الترشح، ونجحت فى اللجنة التنفيذية، ثم نجحت كعضو للمكتب السياسى للحزب وهو أعلى مستوى تنظيمي، كل هذا وأنا فى القوصية لم أحضر هذه الانتخابات ولم أرشح نفسى فيها! 

ظلت العلاقة شخصية مع عادل وظلت عضويتى للمكتب السياسى شكلية، ومع ذلك ذهبت مع وفد حزب العمل في زيارة إلى السودان لحضور مؤتمر الأديان العالمى أكثر من مرة. 

أنا والبشير والترابى

فى عام 1989 قام عمر حسن البشير بانقلاب على الحكم المدنى فى السودان الذى جاء بعد ثورة سوار الذهب ضد النميرى، كان مهندس هذا الانقلاب والأب الروحى له د . حسن الترابى الذى كان ينتمى إلى تنظيم الإخوان فى السودان، وقد قام بالانشقاق على الإخوان مؤسسا لتيار اسلامى باجتهادات فقهية تختلف مع التنظيم الأم، كما أنه قام باختراق الجيش السودانى الذى كان يرأسه البشير. 

ولذا كان حسن الترابى هو القائد والمحرك الفعلى للأحداث حينذاك، وتغطية على هذه الهوية، وحتى لايعتبر هذا الانقلاب امتدادا لنظام النميرى الاسلامى الذى كان يطبق الحدود بقطع اليد، لذا عقد نظام البشير مؤتمرا للأديان عامي 1992 و1993. 

تمت دعوة حزب العمل لحضور هذه المؤتمرات، حيث كانت هناك علاقة خاصة تربط نظام البشير فى السودان وبين حزب العمل خاصة بعد الائتلاف مع الإخوان، فقد كانت لإبراهيم شكرى مزرعة بالسودان يقوم بزراعتها والإشراف عليها ابنه أحمد شكرى، أردت أن أذهب إلى السودان للتعرف على هذا النظام الاسلامى الذي سمعنا عنه الكثير من التمييز بين المسلمين وغير المسلمين. فلاشك أن من يسمع غير من يرى. 

فى ابريل 1993ذهبت إلى السودان للمرة الثالثة بعد الزيارة الأولى التى التقيت فيها سوار الذهب والثانية التى حضرت فيها مؤتمر الأديان الأول، كانت الزيارة بصحبة عادل حسين ود. صلاح عبد المتعال (ذا التوجه الاسلامى) والذى انضم للعمل ضمن مجموعات عادل التى أراد بها تأكيد هوية الحزب تحت مسمى (الإسلام الحضارى). 

كان المؤتمر يضم قيادات ورموزا من جميع الأديان فى العالم بدون استثناء، حتى أننى شاهدت معتنقى هذه الأديان فى تجربة كان من الصعب أن تتكرر بعيدا عن هذا المؤتمر، ومن الأشياء الغريبة أننى شاهدت فى المؤتمر رئيسا دينيا لدين لا أتذكر اسمه ولكن لا أنسى ابدا مظهره. كان الرجل يلبس لباسا على شكل عباءة مزركشة وملونة من الأقمشة الخاصة بالسيدات ويسير حافى القدمين!! ووراءه مجموعة من تابعيه يمسك أحدهم مكنسة ويقوم بكنس الأرض أمامه حتى يمكن أن يسير. واتضح أن عملية الكنس هذه حتى لا تطأ قدمه حشرة غير مرئية خوفا من أن يقتلها بأقدامه!. 

بشكل عام وعن طريق الرؤية المباشرة وزيارة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى الخرطوم، لاحظت أن الهوية الشخصية لا تحمل اسم الديانة، كما أن بناء الكنائس هناك يعتمد على إصدار قرار رئاسى بالبناء، ويحضر رئيس الجمهورية افتتاح الكنيسة، كما أن جمعية الكتاب المقدس والتى يقع مقرها بجوار مقر الرئاسة تقوم بعمل معرض سنوى تحت رعاية رئيس الدولة. 

تعاملت مع أحد نواب رئيس الجمهورية وهو مسيحي، كما كان يوجد خمس وزراء مسيحيين فى الحكومة المركزية، ولما كان نظام الحكم حينذاك نظاما فيدراليا يضم الشمال والجنوب فى شكل ولايات ولكل ولاية حاكم، فكان هناك ثلاث ولاة (محافظين) مسيحيين، أحدهم سيدة تقابلت معها عند زيارتي للجنوب فى جوبا. 

ومن المفارقات أن هذه السيدة تحمل ليسانس الآداب وتتمتع بقوة الشخصية وحسن التصرف، حتى أن البشير وحسن الترابى كانا قد تحدثا معى وأبديا إعجابا بهذه السيدة عند مقابلتى لكل منهما. الغريب أن هذه السيدة متزوجة وتحب زوجها المسيحى المتزوج من أربع سيدات غيرها (حسب التقاليد الزنجية فى جنوب السودان).

كانت هناك دعوة للعشاء بحضور رئيس الجمهورية، جلس عن شمالي أسقف مسيحى يرتدى الزى الكهنوتية وهو فى ذات الوقت وزيرالدولة للشئون الخارجية السودانية، والمفاجأة أن الذى جلس على يميني وزير الأوقاف السودانى وهو مسلم بالطبع وابن عم الأسقف وزير الخارجية! وكان الاثنان من الجنوب، هذا فى الوقت الذى كان فيه أسقف الكنيسة الكاثوليكية فى السودان يدعى (الزبير) ويقال له الأنبا الزبير. 

فى هذا الإطار كان من الضرورى أن يعد لي لقاء مع الرئيس البشير، تقابلت معه أنا وعادل حسين، حيث كان هناك اهتمام خاص بى على أرضية أننى مسيحى مصرى جاء لاستيضاح الأمور فى السودان ذات النظام الاسلامى. تصادف مع هذا اللقاء أن كانت هناك بعض السحب فى العلاقات المصرية السودانية وقد كانت هذه السحب كثيرا ماتعكر سماء العلاقات بين البلدين الشقيقين، طوال حكم البشير حتى اسقاطه فى أكتوبر 2019. 

كانت الحكومة السودانية قد قامت بالاستيلاء على جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وأيضا على بعض مبانى وزارة الرى المصرية بالإضافة لتعاملها غير اللائق مع القاهرة، وبالتالى لم تعقد الاجتماعات المعتادة بين القاهرة والخرطوم لما يسمى بلجان مياه النيل التى تجتمع دوريا، وكان هذا تهديدا غير مباشر من السودان لمصر حيث أن مياه النيل الآتية لمصر تمر عبره. 

بدأ الحديث مع البشير وديا جدا، حيث استغرق فى الحديث عن حبه لمصر وعن مشاركته العسكرية فى حرب أكتوبر1973 معتزا بهذه المشاركة، ثم استرسل فى الحديث عن القاهرة وحواريها وشوارعها ومحلاتها ومطاعمها، إلا أنه كان يرى أن مصر تتعامل مع النظام السودانى والسودان بصورة متدنية وأنه كان من الأفضل أن تستفيد مصر من السودان كما يجب أن يكون. 

وعلى سبيل المثال قال إن السودان لديه مساحات شاسعة من الأراضى القابلة للزراعة، بينما مصر لديها الإمكانات البشرية والفنية التى لو استخدمت لاكتفى الوطن العربى كله من محصول القمح الذى تدره هذه الأراضى. ثم شكى الرئيس السودانى من هيمنة الإعلام المصرى القوى بينما السودان لا يمتلك قناة فضائية (بالطبع أصبحت هناك قنوات فضائية سودانية فيما بعد). 

لم يتوقف الحديث عند هذا الحد بل تطرق إلى قضايا ساخنة وحساسة خاصة أنه كان هناك خلاف حول قضية حلايب وشلاتين (القضية القديمة المتجددة)، وعندما تطرقنا إلى الحديث عن مياه النيل وجدت هناك بالفعل شبه تلويح بها من جانب البشير، لم استطع السكوت حيال هذا الموقف لأن مياه النيل قضية مصير وحياة لكل المصريين. قلت له عموما المياه تتدفق لمصر الآن عبر الأراضى السودانية ولكن عندما تنقطع مياه النيل فسوف يأتى إلى السودان ستون مليون مصرى (عدد سكان مصر حين ذاك) للحصول على هذه المياه. كنت اقصد بالفعل أن مياه النيل حياة المصريين ولا مجال للمزاح أو الهزار فى هذه القضية. تواكب مع هذا الإعداد لمؤتمر قمة أفريقية بالقاهرة، وكان السؤال الذى يطرح نفسه بقوة هو هل سترسل مصر دعوة للسودان أم لا؟   

بعد عودتى للقاهرة وعلى ضوء مقابلة البشير، بالصدفة كتبت مقالا فى جريدة الشعب قلت فيه: إذا وصلت دعوة من القاهرة للخرطوم، فلابد أن يلبى البشير الدعوة لأنها ستكون فرصة للحوار المشترك بين البشير ومبارك ويمكن أن تكون هذه الزيارة طريق للحل. 

بالفعل أرسلت مصر دعوة للبشير ولبى البشير الدعوة وجاء إلى القاهرة، وكانت هذه فرصة أخرى لمقابلة البشير مرة أخرى فى منزل السفير السودانى لدى مصر بحي المعادى. وقد حضر هذا اللقاء أيضا عددا من السياسيين والمثقفين المصريين وكنت على المائدة التى كان يجلس عليها البشير مع إبراهيم شكرى رئيس حزب العمل والسيد ياسين من مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية وسعد الدين وهبة  وفهمى هويدى. وأسعدنى كثيرا إشادة إلرئيس السودانى بمطالبتى له بتلبية الدعوة المصرية لحضور القمة الأفريقية وذلك أثناء لقائى معه فى السودان قبل عقد القمة، وكانت سعادتى أني فعلت شيئا فى اتجاه المصلحة المصرية والعربية. 

أما عن حسن الترابى فقد التقيته فى الزيارتين اللتين قمت بهما عامى 1993و 1994، حسن الترابى كان لاشك مفكر له اجتهاداته الإسلامية بالإضافة إلى اجادته الحديث باللغتين الإنجليزية والفرنسية؛ وله قدرة خاصة على جذب الآخرين سواء لشخصه أو لأفكاره وأيضا للاختلاف معه، وساعد على ذلك حصوله على الدكتوراه من انجلترا ومعيشته لفترة من الزمن هناك. وفى لقائى معه تحدثنا عن قضايا كثيرة منها قضية الجنوب والحكم الذاتى (كان متحمسا لفصل الجنوب عن الشمال) وأيضا له وجهة نظره الخاصة بتطبيق الشريعة الإسلامية وحدودها. 

كانت المفاجأة أن له اجتهادات إسلامية متقدمة وآراء حول تطبيق الحدود تخالف أراء إسلامية كثيرة، منها على سبيل المثال تطبيق حد الردة إذ أنه يجد أن تحديد المرتد أمر صعب الإثبات تماما مالم يعلن المرتد ذلك صراحة، وقال: أنه قد يكون هناك مسلمون يعلنون إسلامهم باللسان لكن قلوبهم وتصرفاتهم ضد الإسلام ويقصدون هذا، وهذا نفاق أخطر كثيرا على الإسلام من الارتداد ذاته. (أجريت حديثا صحفيا معه فى هذه القضايا نشر بجريدة الشعب). 

وكان الترابى يريد أن تكون له مدرسة وفكرا فى الفقه الاسلامى داخل السودان وخارجه من أجل أن يكون زعامة إسلامية عالمية بديلا لجماعة الإخوان، هذا لا يعنى موافقتى الترابى في آرائه وأفكاره، كما لايعنى موافقة على آرائه السياسية خاصة تجاه مصر. 

تقابلت مع الترابى أنا وعادل حسين و د. صلاح عبد المتعال على عشاء فى منزله، تحدثنا فى القضايا العالقة بين مصر والسودان، المفارقة أن الحديث مع البشير كان يجنح لليونة مع الشدة فى بعض الأوقات، ولكن الحديث مع الترابى كان حديثا مملوءا بالتشدد والتعصب من جانب الترابى.(مع العلم أنه قبل هذا اللقاء جاء إلى مصر والى حزب العمل من خلال الصداقة بين الحزب والسودان وكان يرجونا أن نمهد له إمكانية الحضور إلى مصر حين يريد، حيث كان هناك رفض من الحكومة المصرية لزيارته، وقام الحزب بهذا وسمح له بمقابلة مبارك).

فى هذا اللقاء أظهر الترابى وجهه المتطرف ضد مصر، قال: كيف تسيطر مصر على التعليم السوداني، ولهذا فهناك خطة لسودنة التعليم للتحرر من الهيمنة المصرية. وأضاف قائلا إن السفارة المصرية فى السودان أرض سودانية لأن مصر لم تقم بشراء أرض السفارة ولا توجد أى عقود إيجار لها، ولكن مصر استولت عليها وهذا استعمار! هكذا قلب الترابى كل الحقائق الخاصة بالعلاقة التاريخية بين مصر والسودان وبكل بساطة اعتبر مصر دولة مستعمرة للسودان لمجرد أن لها سفارة موجودة قبل أن يستقل السودان نفسه عن مصر!، هنا كان ردى على الترابى: أن وجود  السفارة المصرية بهذا الشكل إنما يعكس العلاقة التاريخية بين مصر والسودان، بل هى دليل حب بين الشعبين وعلاقة غير عادية تتخطى العلاقات الدبلوماسية والدولية التقليدية. وإذا كنت تعتبر أن هذا استعمار عليك بالتحرر من هذا الاستعمار أما ببيع الأرض للحكومة المصرية أو أن تقدموها هدية لاخوانكم المصريين، وكان حديث الترابى موضع استياء الحاضرين فاستحسنوا ردى عليه. 

لم يكتف الترابى بهذا ولكن ظهرت ذاتيته المريضة وغروره الكاسح، أخذ يسرد لنا مقابلته مع حسنى مبارك قائلا: بدأت الحديث مع مبارك فى طرح موضوعات دولية وقضايا فكرية فوجدت مبارك غير متجاوب نظرا لثقافته المحدودة! وأضاف: ولذا حاولت النزول بمستوى الحوار، واضطررت لطرح موضوع المشاركة فى زراعة القمح فى السودان حيث الأراضى الصالحة للزراعة مع الخبرة المصرية تكفى الوطن العربى كله، هنا قال لى مبارك(كما يروي الترابي): لا.. أمريكا لا تقبل هذا الموضوع. فقلت له ولماذا نخطر امريكا فيمكن أن يكون هذا الموضوع فى إطار العلاقات الأخوية، رد مبارك أيضا: أمريكا لن تقبل!. هنا شعرت بالذاتية القاتلة التى أشعرتني بحالة من القرف والاستياء، حيث أنه يريد أن يتعالى على رئيس مصر اى أنه يتعالى علينا بطريقة غير مباشرة.
---------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب (٧)





اعلان