19 - 04 - 2024

شاهد على العصر (18) مأساة انشقاق "العمل" والصدق المستنكر في "التجمع"

شاهد على العصر (18) مأساة انشقاق

كانت الحياة الحزبية المصرية حالة مستوردة وليست نتاجا طبيعيا لحياة سياسية، حيث اعتمدت على الزعامات الفردية، ولذا كان من الطبيعى ولايزال أن يكون الصراع الشخصى والمصلحة الذاتية هى مكون رئيسى لهذه الأحزاب. ورأينا منذ البداية الحقيقية لتكوين ألاحزاب على أساس دستورى بعد دستور 1923، تلك الانشقاقات التى بدأت فى حزب الوفد على خلفية صراع شخصي بين سعد زغلول وعدلى يكن، واستمرت الظاهرة وما زالت حتى اليوم. 

فى عام 1984 كون الوفد مع الإخوان تحالفا انتخابيا حتى تتمكن الجماعة من خوض الانتخابات تحت لافتة الوفد، وحتى يتجاوز الوفد نسبة الثمانية فى المائة التى تخول له دخول مجلس الشعب وانتهى التحالف عند ذلك. 

لكن تحالف الإخوان مع حزب العمل ولأنه اعتمد على برنامج انتخابى مشترك، إضافة إلى شعار " الاسلام هو الحل" الذي يتاجر بالدين، لم يترك الاخوان فرصته تضيع من أيديهم وعملوا منذ اللحظة الأولى على الاستيلاء على حزب العمل ليس لتحويله إلى حزب للجماعة، ولكن ليكون الطريق المضمون للوصول للبرلمان، خاصة بعد إقرار نظام القوائم الحزبية النسبية التى لاتجيز للإخوان الترشح، لأنها لم تكن حزبا رسميا. 

وخلال الممارسة البرلمانية للتحالف حدثت مفارقات وتناقضات بين رؤية وأهداف الإخوان ورؤية وأهداف بعض نواب حزب العمل من الإشتراكيين، ولذا كانت خطة الإخوان محاصرة الجناح الاشتراكى فى البرلمان والحزب. 

عام 1989 بدأ الإعداد لعقد مؤتمر عام للحزب، وبصفتى الأمين العام المساعد أوكل إلي الإشراف على انتخابات محافظة المنيا، ذهبت إلى هناك للإشراف على الانتخابات التى يتم فيها تصعيد أعضاء المؤتمر العام من العضوية القاعدية. 

وجدت تجمعا إخوانيا لاعلاقة له بعضوية الحزب حيث أن شروط المشاركة فى الانتخابات لاتجيز المشاركة إلا بعد مرور ستة أشهر على العضوية، الغريب أن هذا التجمع الإخوانى وبكل تبجح أعلنوا امامى أنهم حرروا استمارات عضوية بتاريخ سابق حتى يشاركوا فى الانتخابات!! واتضح بعد ذلك أن هذا المخطط كان قد تم فى كل المحافظات. 

اجتمع المؤتمر العام فى قاعة بنك التنمية الزراعى لانتخاب الهيئات القيادية وصولا إلى اللجنة التنفيذية، قبل الانتخابات وقف ابراهيم شكرى يذكر انجازات جمال اسعد فى الحزب وفى مجلس الشعب مما جعل القاعة تلتهب بالتصفيق حتى أننى ولحماسة الجميع وقفت محييا الحضور. 

هنا تصور الجميع أن هذه مبايعة لجمال أسعد، وجاءت نتيجة الانتخابات سقوط جميع القيادات الاشتراكية بمن فيهم جمال أسعد! الأغرب أن المؤتمر كان يومي الخميس والجمعة، ولكن فوجئنا أنه فى صباح الجمعة أعلنت النتيجة وانفض المؤتمر قبل تكملة جدول الأعمال بما يخالف اللائحة! 

انسحب الأعضاء الاشتراكيون، واجتمعنا فى مكتب احمد مجاهد فى شارع قصر النيل، وقررنا الاستيلاء على فيللا بها مقر الحزب فى حدائق القبة وتكملة المؤتمر. 

فى مارس 1989 تم عقد المؤتمر، وتم انتخاب القيادات واختير أحمد مجاهد رئيسا للحزب وجمال أسعد نائبا للرئيس، وأخطرنا لجنة شؤون الأحزاب بأننا نحن الذين نمثل حزب العمل الاشتراكي ولا علاقة لنا بحزب العمل الاسلامي، حيث أن هؤلاء قد انشقوا عن الحزب، وكان معنا عشرة نواب اشتراكيين، فتقدمت بطلب لرئيس مجلس الشعب باعتمادنا كهيئة برلمانية لحزب العمل الاشتراكى برئاسة جمال أسعد، كما طلبنا مقرا برلمانيا فى المجلس وأن يتعامل رئيس المجلس معنا كهيئة برلمانية منفصلة عن الهيئة التى يرأسها إبراهيم شكرى. 

هذا الانشقاق أخذت حيزا كبيرا فى الإعلام المحلى والعربى والدولي، حيث أن هذا الانشقاق كان هو الاول بعد الانشقاقات التى تمت فى الحياة الحزبية من 1923 إلى 1952. 

كنت سليم النية فى أن هذا الانشقاق الحزبى هو للحفاظ على حزب العمل الاشتراكى، بعيدا عن اى توجهات دينية تتاجر بالإسلام الحنيف، وهذا الاتجار سمة معروفة عن تاريخ الإخوان، والأهم هو الحفاظ على الحزب كحزب معارض لايخضع لأى ضغوطات ولا يلين لأي إغراءات بعيدا عن ألعاب الحزب الوطنى الذى كان يلاعب ما يسمى بأحزاب المعارضة. 

 حضر أحمد مجاهد إلى مجلس الشعب لكى نلتقى برئيس المجلس لطلب التصريح لنا بإصدار جريدة حزبية، وكنا نلتقى بكمال الشاذلى وزكريا عزمى وزكى بدر، كنت اتعامل مع هؤلاء فى الإطار الرسمى لنا كحزب، ولكن - وآه من لكن هذه -  كانوا هم يتعاملون مع أحمد مجاهد ومعه بعض القيادات فى اللجنة التنفيذية على اعتبار أننا مجرد جماعة ساهمت وتساهم فى إفشال حزب العمل بعد سيطرة الإخوان عليه. 

بدأ المحجوب يعاملنى كرئيس هيئة برلمانية فى مقابل إبراهيم شكري، وتمت دعوتى بهذه الصفة لحضور رفع العلم فى طابا مع رؤساء الهيئات البرلمانية ورؤساء اللجان. ذهبنا إلى طابا ووقفنا ومر مبارك للسلام علينا وكان يقف بعدي بثلاثة أشخاص ابراهيم شكري، سلم مبارك على شكرى بطريقة استهجنتها بين وبين نفسى - وياليته ماسلم عليه -  وعند وصوله للسلام علي سلّم بطريقة فيها مبالغة غير طبيعية وأخذ يمد فى السلام قائلا لي: (شد حيلك)، فاستغربت واستربت. 

فى اليوم التالى حضر مبارك إلى مجلس الشعب فى اجتماع غير عادي، خرجنا وراءه لتوديعه فسلمت عليه وقال لى أيضا: شد حيلك ياجمال أنا امبارح مرضيتش أسلم على إبراهيم شكرى (طيب وتلقائى والله!)، قلت ماذا يقصد ياترى؟ هنا انبرى أحمد الفقى وهو نائب ضمن المجموعة البرلمانية للعمل الاشتراكى وهو يسلم على مبارك قائلا: (احمينا ياريس من التيار الإسلامي) هنا أسقط فى يدي، وتأكدت من الهواجس التى كانت تملأ كياني، وقلت فزعا: (شكرا ياريس نحن لا نريد أي حماية) قاصدا أن أؤكد أننا لسنا فرعا تابعا للحزب الوطني. 

بدأت أعيد النظر فى الأمور، وأنظر لهذه اللقاءات بنظرة مغايرة للسابق، وتأكدت مخاوفى عند زيارة لزكى بدر وكان معه رئيس مباحث أمن الدولة، وأخذ كلاهما يعطى الأوامر لأحمد مجاهد وكأننا فرع تابع لأمن الدولة. لحظتها تأكدت أن الانشقاق قد ذهب مذهبا آخر لا يليق بممارسة حزبية وسياسية نظيفة. ولا أقبل أن أكون أداة ضد ابراهيم شكرى أو أن أكون حزب وطنى بشرطة! انسحبت من هذه المجموعة بعدما تاكدت أن زكى بدر كان يمنحهم عددا كبيرا من تأشيرات الحج للارتزاق بل قل ما تريد! 

فى إحدى جلسات مجلس الشعب وجدت الهضيبى يقول لي إن ابراهيم شكرى غلط غلطة كبيرة بإسقاط جمال اسعد كرمز يحتاجه حزب العمل، وكان هذا الكلام بعدما تم التعامل مع الحزب المسيطر عليه الإخوان على أنه حزب ديني، خاصة بعد خروجي كرمز مسيحي، حتى أن إبراهيم شكرى فصل كل الأعضاء المنشقين عداي تمسكا بالرمز بل قل الوردة التى تزين الجاكت. وتوالت الانشقاقات وانشق عادل حسين على شكرى وجاء بمجموعة من الناصريين مثل اللواء طلعت مسلم وكمال حافظ وبعض الإسلاميين ومنهم محفوظ عزام (خال أيمن الظواهري الزعيم الحالي لتنظيم القاعدة). وبعد قضية رواية "وليمة لأعشاب البحر" تم اتخاذ قرار حكومى بتجميد حزب العمل بعد موقفه الذي أجج فتنة بسبب الرواية. واستخدم الفنان حمدى أحمد وهو الصديق الصدوق لإبراهيم شكرى فى إعلان انشقاق آخر على شكرى وأعلن نفسه رئيسا للحزب بدلا منه، مما أعطى الفرصة لتجميد حزب العمل والاستيلاء على ممتلكاته ومقاره. 

هذه نماذج من حياتنا الحزبية الشكلية والديكورية فى وقت كانت فيه شبه حياة حزبية وشبه معارضة، فماذا يكون الوضع الآن؟

أنا والتجمع ورفعت السعيد

( ليكن كلامكم نعم نعم، لا لا، ومازاد على ذلك فهو من الشرير).

تركت مجموعة أحمد مجاهد بعد الانشقاق عن حزب العمل بعد أن أدركت أنها وضعت نفسها تحت أمر السلطة الحاكمة، وذلك وضح لي بعد لقاءات شاركت فيها مع د. رفعت المحجوب والشاذلى وزكريا عزمى وزكى بدر، والأهم بعد لقاء حسنى مبارك حينما قال لي: أنه لم يرد أن يصافح إبراهيم شكرى وصافحنى أنا! هنا أدركت أنه لولا مشاركتى منذ البداية فى عملية الانشقاق - نتيجة لسيطرة الإخوان على المؤتمر العام للحزب - لقلت أن هذا الانشقاق كان مرتبا من الحزب الوطني (ولكنها حياة حزبية تستغل الفرص).

أوائل عام 1992 ذهبت لزيارة د . فتحى سرور فى مجلس الشعب، وكان خالد محيى الدين عضوا بالمجلس، التقيت له وتحدثنا فى الظروف الصعبة المحيطة بالحياة الحزبية، وطلب خالد أن أعود إلى التجمع، فكرت وأخذني الحنين إلى الحزب الذى تربيت فيه سياسيا، وبالفعل عدت إلى التجمع.

فى اول اجتماع للأمانة العامة تم اتخاذ قرار جماعي بضمي إلى عضويتها، وتواكب مع عودتى للتجمع تزايد وتصاعد العمليات الإرهابية من الجماعات الإسلامية فى الصعيد وفى أسيوط خصوصا، وفى إحدى زياراتى للواء حسن الألفى الذى كان محافظا لاسيوط جاء اتصال للمحافظ أن هناك مذبحة قامت بها الجماعة الإسلامية فى صنبو التابعة لمركز ديروط، نزل المحافظ مسرعا وكانت حصيلة هذه المذبحة قتل عشرة من المصريين المسيحيين من صنبو وعزبة تابعة لها (منشية ناصر)، مع العلم أن الجماعة فى صنبو كانت قد استولت على الأمور حتى أنها كانت تحكم القرية حكما ذاتيا تقيم فيه الحد!. 

هنا ظللت أفكر خارج الصندوق إذا جاز التعبير، وتبلورت فى ذهنى أفكار تجنح إلى الموضوعية بعيدا عن الانحياز الطائفى الذى يستغرقنا جميعا، وتوصلت إلى قناعة بأن هذا المناخ والفرز الطائفي، نتاج لسلوك نشارك فيه جميعا كل بقدر، سواء كان بالفعل الايجابى أو برد الفعل السلبى . 

كما أن هناك أسباب لهذا المناخ، هى القراءة الطائفية للتاريخ، فكل طرف يقرأ التاريخ من زاويته ولصالح وجهة نظره. إضافة إلى ميراث من عادات وتقاليد طائفية، كما أن الإعلام يغيب الشخصية القبطية مما يجعل الطفل المسلم لا يشعر ولا يعتاد على التعامل مع الآخر، ويتصور أن المناخ العام ملكه وحده، هذا أيضا يجعل الآخر المسيحى يشعر بالدونية وبأن لامكان له في المناخ العام، فتكون النتيجة هجرة إلى الكنيسة بدلا من المجتمع. هنا تتحول الكنيسة إلى مجتمع ودولة بديلة مما يجعل الآخر المسلم يشعر بالتمييز ضده. ولهذا تصور البابا شنودة الثالث وسعى أن يكون الممثل السياسى للأقباط بديلا عن الدولة. أراد البابا هذا واستحسن الاقباط ذلك وارتاح النظام لأن يضع الأقباط فى عباءة الكنيسة حتى يسهل لها التعامل مع قطاع وليس مع المسيحيين كأفراد أو مواطنين. 

تبلورت هذه الأفكار داخلى وبدأت أعبر عنها فى مقالات بجريدة الأهالي، خاصة مسألة تمثيل البابا للأقباط سياسيا وتدخل الكنيسة فى السياسة، هنا وجدت رفعت السعيد يقول لى: أنه لايستطيع أن ينشر هذه المقالات فى الأهالي! قلت هل يعقل ونحن حزب نتحدث عن الديموقراطية وحرية التعبير ويمنع عضو الأمانة العامة للحزب من نشر مقالاته فى جريدة الحزب؟ قال: أنا لا أخسر الكنيسة مقابل مقالاتك. ذهبت إلى خالد محيى الدين أعرض الأمر فقال: (أنت مستمر فى نقد تدخل البابا في السياسة، فكفى ذلك).

هنا أدركت أن علاقة الحزب مع الكنيسة علاقة غير طبيعية ووراءها ماوراءها! وأن رفعت السعيد هو الذى يقود الحزب وليس خالد محيي الدين. 

كنت وكيلا للجنة الشئون الدينية التى يرأسها الشيخ مصطفى عاصي، وطرحت فى اللجنة أن نقوم بتصحيح المفاهيم الطائفية للطرفين حتى لا نكون كحزب مع طرف ضد طرف آخر، ولئلا يبدو كأن حزب التجمع والأهالى وجريدة وطنى مع المسيحيين وجريدة الشعب مع المسلمين!. 

خلال اجتماع اللجنة المركزية طرحت وجهة النظر هذه ولاقت استحسانا وموافقة، بل الأهم أنه بعد انتهاء الاجتماع ذهبت إلى مكتب الأستاذ خالد محيي الدين وأبدى موافقته على كلامي! وفى آخر نوفمبر عام 1992 تقرر عقد مؤتمر سياسي في مقر الجمعية الإسلامية بالإسكندرية، وهى خاصة بإحدى الطرق الصوفية التى يرأسها الشيخ زين السماك عضو الأمانة العامة للحزب وهو شيخ الطريقة التى ينتمى إليها خالد محيى الدين. وصلنا لمقر الجمعية فى حي كرموز الذى كان نائبه فى مجلس الشعب أبو العز الحريري عضو الأمانة العامة أيضا. 

دخلنا قاعة فسيحة فخيمة جدا يتوسطها كرسى مميز عن باقى الكراسي (مثل كرسى البابا) يجلس عليه زين السماك شيخ الطريقة، فى الوقت الذى جلس فيه خالد محيي الدين على كرسي عادي. حضر المؤتمر قس مدعو من قبل أبو العز الحريري، فهو من دائرته الانتخابية. ما أن جلس القس وقبل أن يستريح في جلسته وقف قائلا: (أنا معى رسالة من قداسة البابا شنودة الثالث تقول إن جمال اسعد إذا حضر المؤتمر سأنسحب، فلن احضر مؤتمرا فيه جمال أسعد). 

عمت الجلسة حالة استغراب، كنت مشفقا على خالد محيي الدين كرئيس حزب أن يستمع إلى مثل هذا الكلام من ضيف مدعو من قيادة حزبية، أخذت فى تهدئة القس قائلا: يا أبونا، الأنبا شنودة أبى الروحى وهذا الكلام لا يصح وليس مكانه الآن. ردد القس الرسالة مثل جهاز التسجيل الذى لايعى مايقول! خرج الأستاذ خالد وغادر الجلسة إلى قاعة المؤتمر تاركا القس وأبو العز وجمال.  

حاول أبو العز معالجة الموقف، فهو يريد أن يحافظ على علاقته بالقس والكنيسة من أجل الانتخابات، فى الوقت الذى يعلم فيه أن هذه الرسالة لا تليق بالحزب، حيث أن المطلوب مغادرته قيادة حزبية عليا مع وجود أكثر من خمسة أعضاء فى الأمانة العامة. 

هنا اقترح أبو العز أن يلقى القس كلمته وينصرف معتذرا وبذلك لا يحضر كلمة جمال أسعد! حدث هذا وتكلم القس وانصرف واكتمل برنامج المؤتمر وتحدثت، وكان حديثى موضع ترحيب حتى من عضو المجلس الملى الكنسي الذى كان مرافقا للقس ولم ينصرف لكى يستمتع لما سأقوله. قضينا الليلة فى فيللا لزين السماك فى العجمي، لم ولن أشاهد مثلها وكان من يقوم بخدمتنا مريدون للشيخ السماك من مستشارين وقضاة وضباط شرطة..الخ. 

عدنا إلى القاهرة وفى مكتب خالد محيي الدين كان معنا رفعت السعيد، طرحت ما حدث مستهجنا تدخل البابا فى شأن حزبي وكأنه حزب البابا شنودة ليتجرأ ويطلب مغادرة عضو قيادى أو عضو عادى من مؤتمر الحزب! 

حاول رفعت السعيد تهدئة الأمر ولكن خالد أبدى معارضته لما حدث، قائلا إنه لا يليق وغير مقبول، طلبت أن أكتب مقالا أشرح فيه الموضوع، فرفض رفعت نشر المقال فى الأهالي واضطررت لنشره فى جريدة الشعب، حيث كانت علاقتى الإنسانية مستمرة مع الحزب ومع الجريدة ككاتب وعضو مجلس إدارة سابق فيها. 

نشر المقال وأوضحت فيه القصة كما حدثت بدون تزيد، هنا نشر أبو العز الحريرى مقالا فى الأهالى يرد على مقالى مكذبا ومدعيا أن هذا لم يحدث! قمت بنشر مقال ردا على أبو العز استشهدت فيه بوجود رئيس الحزب وأعضاء الأمانة العامة، وتعقد الموقف فالواقعة صحيحة وتمت بحضور رئيس الحزب وهى واقعة مخجلة لا تليق بالحزب بل تعطى انطباعا طائفيا نظرا لموقف رفعت السعيد وعلاقته الخاصة بالبابا، واتضح أنهم يحافظون على أبو العز، فهو عضو برلمان ولامانع من التضحية بجمال أسعد، وتم تحويلي إلى التحقيق.  

كنت قد عقدت العزم على إصدار كتابى (من يمثل الأقباط الدولة أم البابا؟)، وكانت أخبار الكتاب تتداول فى الإعلام. فجاءني اتصال تليفونى من رفعت السعيد يطلب مقابلته فى الحزب، ذهبت للمقابلة وجدت د. رفعت ومعه د. ميلاد حنا، وعرفت أن هناك رسالة من البابا عن طريق الأنبا بسنتي أسقف حلوان، تدعوني لأن أقابل البابا واستمع إليه فقط دون أن تكلم أو أرد أو أعبر عن نفسى ثم أنصرف حتى يعطف علي بتحديد لقاء آخر!! (لا تكفى علامات التعجب).

رفضت وكان ردي بكلام لايليق ذكره، هنا قال د. رفعت: أنا عارف أن معك الحق، وأن البابا هو الوحيد المستفيد من الفتنة الطائفية، حتى يهاجر الأقباط إلى الكنيسة ويصبح زعيما سياسيا وليس روحيا فقط، ولكن عندما تستقر الأمور فالاقباط سيندمجون في المجتمع ويتركون الكنيسة وهذا ليس فى مصلحة البابا. وأكد أن كل ماسينشر فى الكتاب صحيح تماما، ولكنها المواءمة السياسية حتى لا نعطى الفرصة للتيار الإسلامي. 

هنا قلت: السكوت على الخطأ خطيئة، وأنا كسياسي لا يجب أن أنحاز إلى طرف، فالانتماء الدينى لي هو فى الكنيسة ولكن انتمائى السياسى للوطن، وهذا يلزمنى المصارحة والوضوح وتوضيح أخطاء كل طرف، فلا يوجد ملائكة وشياطين حتى لو كانت مسؤولية الأقباط لا تتساوى مع مسؤولية من يمارسون الإرهاب. المسؤولية نسبية ولكن المصارحة والشفافية هى الحل. انتهت الجلسة وصدر الكتاب وأحدث ردود أفعال واسعة، فتم التحقيق معي وفى نهاية التحقيق قال لى المحقق أن ما حدث يمثل واقعة مخزية لأبو العز الحريري، ولكنه اقترح المصالحة. 

ذهبت إلى مكتب الأستاذ خالد محيي الدين، فقال إنه أيد موقفى مما حدث فى الإسكندرية، وبرر موقف أبو العز بظروف خاصة دفعته لاتخاذه وهى كسب الكنيسة والقس للانتخابات. ولكن المصيبة أنه بعد هذا الكلام طلب مني الاعتذار لأبو العز! 

رفضت الاعتذار، لأننى لم أخطيء، وقلت: من يعتذر هو أبو العز الذى كذب فى واقعة شهدها رئيس الحزب، وبهذا الموقف انتهت علاقتى التنظيمية بحزب التجمع وإن لم تنقطع العلاقة الفكرية والسياسية التى نتشارك فى الكثير منها.

أتساءل: هل الحياة الحزبية والسياسية لا يجب أن يكون التعامل فيها بالصدق؟ أم بالكذب والخداع والنفاق من أجل المصلحة؟ قالوا لاثناسيوس وهو مفكر مسيحى مصرى الهوية فى مواجهة الفكر الدينى الغربى: (العالم ضدك يا إثناسيوس فقال: وانا ضد العالم لأني لا أريد شيئا من العالم).
-----------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك *
كاتب ومفكر قبطي وسياسي وبرلماني مصري سابق

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان