18 - 04 - 2024

الرحلة التي نسيها رئيس الوزراء

الرحلة التي نسيها رئيس الوزراء

"احنا مش في التجمع" جملة قالتها ناظرة مدرسة ردًا على رفض ولية أمر تلميذة في المرحلة الابتدائية فرض الحجاب على ابنتها.

ما الذي دفع هذه المربية لقول هذه الجملة التي تلخص نظرة المجتمع لأهالي المنطقة الجديدة من أحياء القاهرة؟ لم تكن هي الجملة الأولى التي اسمعها بل سمعت الكثير خاصة من سائقي التاكسي:

" ما هما دول اللي سارقين البلد يا فندم" أو " ده عالم تاني احنا ايه وصلنا". وهكذا يزداد كل يوم ترسيخ الأفكار التي تخلق الحنق والغيظ الموجه لطبقة من الطبقات بين الناس واستحالة أن يعيش انسان في بيئة معقولة دون أن يكون قد اعتدى على الغير. وتأليب الطبقات على بعضها الذي ربما يؤدي يوما لاحتقان لا نستطيع تحمل فاتورته رغم أننا الذين صنعناه.

من أين جاءت هذه الأفكار ولماذا في مجتمع كان ينعم بالسلام الاجتماعي ويستوعب أن الله هو الذي خلق الناس طبقات، وأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؟ 

  تاريخ طويل من تأليب الطبقات على بعضها بدأ بثورة على الظلم الذي كان يمثله الباشا والطبقة المتعاونة مع الإنجليز، وبعد الكثير من تداعيات محاولات البرجوازية الصغيرة الحلول محل الارستقراطية، واستطاع البعض خلق طبقة جديدة للنفوذ، لكن معظم الناس سعوا إلى الانتقال من طبقتهم إلى طبقة أعلى عن طريق التعليم وأصبح ابن الفلاح المعدم مهندسًا وطبيبًا وأستاذًا جامعيًا ومذيعًا ومعلمًا وتاجرًا وموظفًا كبيرًا في الحكومة، وعمل بمهن أخرى مستقرة. ونشأت طبقة وسطى قوية تسعى إلى التغيير وتقوي دعائم مجتمع راسخ، ثم عاد الأمر إلى طبيعته وعاشت الطبقات معًا في سلام. 

   هذا ما حدث حتى جاء الانفتاح ودخول السوق بالفهلوة والفساد ودعم الاستهلاك فنشأت طبقة بلا جذور أو نمو حقيقي تعتمد على ضربات الأرباح الخيالية لرأس المال لا تختلف في تكوينه عن طبقة أثرياء الحرب. نمت تحت بصرنا بدون قيم ملموسة سوى الطمع والجشع والقبح واستمرت هذه الطبقة إن جاز التعبير عنها كطبقة تزيح الطبقة الوسطى من المشهد ولم يعد بمقدور الموظف أو القاضي أو مدرس الجامعة ملاحقة ما نتج عن اللهاث وراء لقمة العيش وتعليم الأولاد والحفاظ على قدر ضئيل من المظهر الذي يكفل الكرامة. جاهد المواطن المتعلم ابن الطبقة الوسطى للبقاء في طبقته حتى لا ينزل إلى الطبقة الأدنى عن طريقين:

 أولاً: "الاستماتة" التضحية بكل نفيس من أجل تعليم الأبناء تعليمًا جيدًا خارج التعليم الحكومي شبه المجاني؛ يحصل فيه الابن على تميز في اكتساب لغة أو اثنين حتى تتوفر له عند التخرج فرصة عمل تبقيه في الطبقة أو ترفعه للأعلى.

ثانيًا: على سكن لائق يحفظ له مظهرًا جيدًا ووجودًا في الطبقة وظهرت شقق التمليك التي بنيت عن طريق النقابات والحكومة والقطاع الخاص، أيضًا كحل سحري لأبناء الطبقة الوسطى التي لم تستطع توفير المسكن المناسب لأولادها في ذات المناطق السكنية التي يستأجرون شققًا بها. عانى الجميع من بعد المسافات وصعوبة الانتقال إلى مناطق صحراوية كانت تفتقر ولسنوات عديدة لأبسط سبل الراحة والتعايش لكن حلم الشقة لم يكن ليتحقق إلا عن هذا الطريق وبالتقسيط، ثم طرحت الدولة أراضي صحراوية للبناء في أكتوبر والتجمع والشروق والمجتمعات العمرانية الجديدة ووجدتها الطبقة الوسطى فرصة حقيقية لشراء أراضي يتم تعميرها لزواج أولادهم بعد أن أصبحت الشقة عقبة شبه مستحيلة، وتقدم ملايين المواطنين من كل الطبقات لشراء الأراضي التي يعلن عنها في كل الصحف، وسأعطيكم مثالاً لأحدى هذه الأسر التي حجزت الأرض عن طريق إحدى النقابات لتبني منزلاً من أجل زواج ابنها وكان شرط التعاقد أن تبنى الأرض خلال سنتين من الاستلام  الذي سيتم بعد سنتين. وانتظرت الأسرة أكثر من سبع سنوات حتى تستلم الأرض الصحراوية بعد أن تنتهي البنية الأساسية لها ثم استلمت الأرض وشرعت في البناء واضعة كل مليم كسبه الأب والأم طوال حياتهما الوظيفية ودفعوا عشرين بالمائة من دخلهما ضرائب للدولة فهي أسرة محترمة تحترم القانون والدولة مسيطرة على حسابات دخهلم دون أي فئة أخرى لأنهم موظفون. ومع هذا حين بنوا بيتًا صغيرًا زوجوا فيه أبنائهم طالبتهم الدولة بضرائب حسبتها ويا للغرابة عالية وفي غير قدرتهم لأنهم يعيشون في التجمع، ولأن موقعهم متميز، ولأن المكان مسعر برقم فلكي رغم أنهم دفعوا الضرائب مسبقا عن كل مليم كسبوه ورغم أنهم يعيشون في المكان ولا يبيعونه يسكنونه وردًا على اعتراضهم هذا قالت الحكومة إن قيمة المكان في ازدياد وأنه سيتم إعادة تقدير له كل خمس سنوات، وكلما اعترض أحد على الضرائب العقارية ردت الحكومة بأنها تراعي الجانب الاجتماعي ويدفع أهل التجمع أعلى سعر في الدولة وأن الدولة تركت للمواطن التمتع بتخفيض السكن الخاص، لكن ويا للعجب فقد قدرت الدولة قيمة اعفاء السكن بما لا يتناسب مع تقديرها هي أي الدولة للتجمع وذكر موظفو الحكومة هذا في كل مناسبة. 

التجمع موضوع آخر، كأن المواطن هو مواطن من دولة أخرى والمفروض أن السكن يتناسب مع الشخص، ما هو مناسب لأستاذ جامعي لا يناسب عاملا على سبيل المثال، لكن في النهاية هو سكن أستاذ الجامعة أو العامل هو سكنه ويجب أن يعفى بالكامل مهما كانت التكلفة التي دفعها المواطن فقد حصلت الدولة على ضرائبها في كل خطوة. وليس معنى وجود مقاول ثري يبني ويبيع أن يطبق النظام على الجميع.

 ما علينا تستمر الحكومة في تأليب الطبقات دون وعي بالنتائج. ذكرت لي مواطنة أنها دخلت في نقاش مع محصل كهرباء جاء بوصل مغالى فيه قائلاً: هذه فيلا يا مدام وحين أجابته لكنها تستخدم الكهرباء في المكان الذي تتواجد فيه فحسب قال اشتكي وبعد الكثير من التحقيقات تم تخفيض الفاتورة لأن من يكتبها جزافيًا يكتب فاتورة فيلا في التجمع يجب أن تستهلك الاف الكيلواط بغض النظر عن الواقع.

ثم جاء قانون التصالح "شديد الأهمية" لأنه سيمكن المواطن من تسجيل ممتلكاته، والتعامل السليم مع الدولة بشأن الثروة العقارية، ووقف الاعتداء على الأراضي الزراعية من ناحية وتشويه الأحياء السكنية في المدن ومنع اكتظاظها بالناس والحفاظ على البنية الأساسية من وصلات كهرباء وماء وغاز وطرق من الانهيار من جهة أخرى. ثم وضعت القيمة التي يدفعها الفرد للتصالح على ثلاث سنوات واشتكى الناس من المغالاة وبدأ اللغط. 

وخرج رئيس الوزراء ليقول إن قيمة المخالفة قد روعيت فيها إمكانيات المواطن ومنطقة سكنه، وترك تقدير القيمة للمحافظين حسب ظروف كل محافظة وأعلن أنه قد يمد المهلة حتى يتمكن الجميع من اللحاق بمميزات القانون وحل المشكلة من جذورها ببناء مدن جديدة في الظهير الصحراوي ووقف البناء في المناطق المكتظة بالسكان حتى لا تنفجر البنية الأساسية. وقرر أن تكون تكلفة المتر في الريف المصري خمسين جنيهًا، حينها سكت الجميع.     

  بداية لابد أن أحيي رئيس الوزراء على ظهوره للناس فهو مقل للغاية والناس تحتاج لشرح إجراءات الحكومة وقراراتها والمسئول عنها هو رئيس الحكومة وليس رئيس الدولة. شرح رئيس الوزراء د. مصطفى مدبولي فلسفة القانون ببراعة وأوضح الكثير من المفاهيم الخاطئة أو المتسببة في لبس من ناحية أخرى، ومعظم ما جاء من وجهة نظري صحيح تمامًا فما الذي صنع الأزمة؟

رغم أن المحافظين بدأوا في تقليل مبالغ الغرامات ووصل بعضهم لتخفيض خمسين بالمائة وبعضهم خفض سبعين بالمائة على مراحل وأعلن عن تخفيض 25 بالمائة لمن يدفع بدون تقسيط وهكذا، كلما ظهرت مشكلة مثل مشاكل "البرجولات" على السطح والغرف المبنية بالخشب ولاح في الأفق أن المسئولين يسعون إلى إيجاد الحلول المناسبة. ومع هذا ظل القانون يرسخ لمفهوم الاحتدام بين الطبقات وعدم الاعتراف بالمواطنة كأساس للتعامل السوي بين الجميع؟ 

  جاء القانون ليوقف عملية تجريف الأرض الزراعية التي بلغت كما قال 400 ألف فدان منها 90 ألف فدان منذ عام 2011 وتحتاج الدولة إلى 18 مليار جنية لاستصلاح مثلها في الصحراء، أي أن الفدان يتكلف بين 150 إلى 200 ألف جنيه كي يحل محل ما خسرناه. 

ومع هذا قرر رئيس الوزراء أن تكون تكلفة التصالح في الريف خمسين جنيها وأكسب القانون شعبية وساوى بين مخالفة القانون للغني والفقير على حد سواء، جميل. لماذا لم يتم تعميم هذا التصالح على المواطن المصري في مصر كلها؟ لماذا يدفع غني الريف خمسين جنيها ويدفع المواطن في التجمع الذي اشترى شقة لزواج ابنه 1650 الي 2000 جنيه في معظم المناطق؟ رغم أن ثري الريف تاجر كبير وقد بور أرض زراعية بمائتي ألف جنيه، ومخالف التجمع لم يبور الأرض الصحراوية بل أضاف دورًا أو بعض غرف أو ضم غرف السطح إلى شقته حسب ما جاء في أغلبية المخالفات.

  يقولون بسبب تغيير الاستخدام وهي أعجب مخالفة في التاريخ فمن حق كل مبنى ومعظمها فيلل خاصة ربع دور في السطح لخدمات العمارة فإذا كانت فيلا خاصة فما الفرق في أن تكون غرفة مذاكرة أم غرفة غسيل؟ ولماذا يتم جمع الغرف المبنية بالمخالفة على غرف السطح ودفع الغرامة على المساحة كلها؟ ولماذا يدفع المتصالح نفس القدر على بناء غرفة سقفها من الخشب أي أنه بناء خفيف تم ليوسع على الناس مكانهم دون مخالفة للقانون فقد كان القانون يشترط بناء خفيفا أي بدون صب مسلح فلماذا يعاقب من لم يخالف القانون؟ وهذا الموضوع منتشر جدا في التجمع. وهل إذا دفع المواطن هذه المخالفة للمساحة كلها يكون من حقه بناء غرف سطح منفصلة؟

 وإذا كانت المخالفة في التجمع والمدن عمومًا بسبب الضغط على البنية الأساسية لماذا لا تحسب الدولة تكلفة البنية الأساسية وتحاسب المواطن وتضيف إليه نسبة للعقوبة القانونية رغم أن المواطنين في الريف قد بنوا أبراجًا تحت سمع وبصر الحكومة؟ أين حق المواطن في المساواة؟ ولماذا يكون التخفيض في التجمع وحده خمسة عشرة بالمائة فقط في حين وصلت التخفيضات في معظم الأماكن إلى سبعين بالمئة وما الفارق بين التجمع والشيخ زايد على سبيل المثال؟ 

ولماذا تكون المخالفة في العقارات التي تطل على شوارع كبيرة بسعر والعمارات الداخلية بسعر مختلف ؟؟؟!!! من أين جاء هذا الفارق وهذه التفرقة؟ في المدن الجديدة كل منطقة بسعر مختلف. مع أنه لا يوجد أي اختلاف في سعر تكلفة المتر المربع من المرافق وأحيانا تضم المنطقة فيلات واسكان عائلي فيكون سعر متر المصالحة لكل منها مختلف.

هناك أيضًا طريقة التسعير المعتمدة على اجتهادات من كل وحدة محلية على حدة وهو ما أدى الى حالة من التخبط في التسعير.

الأعجب هو رفض تطبيق القانون من جهات بعينها 

فقد جاءت اللائحة التنفيذية لتبيح تغيير الاستخدامات في المناطق التي ليس لها مخططات تفصيلية بسعر ما وبضعف السعر للمناطق التي لها مخططات تفصيلية، وهو ما رفضت هيئة المجتمعات تطبيقه وكان الأولى أن نتلافى عيوب اللائحة قبل صدورها. إما قانون ننفذه بحذافيره أو لا قانون! 

وهناك اقتراح ذكره لي أحد المهندسين لتخفيف عبء الإجراءات الإدارية على الناس والموظفين معًا.

أن يتم فتح حساب بنكي في جميع البنوك المصرية ويتوجه المواطن بموجب تقرير الاستشاري بعمل الايداع اللازم دونما الحاجة الى التعامل مع الجهات الادارية – مع وضع غرامة في حال ما كان الدفع اقل من المطلوب – يتم احتسابها مع المراجعة الفنية التي يمكن ان تطول فترة التقدم لها.

 باختصار دأبت الحكومة على اعتبار أن لمنطقة التجمع قوانينها الخاصة المختلفة عما يطبق على المواطن المصري. ووضعت بهذا بذرة الاحتدام الطبقي ولا يكون غريبًا إذن أن نسمع من المربية الفاضلة وهي تعنف طفلة على عدم ارتدائها الحجاب قائلة "احنا مش في التجمع" أو يقول محصل الكهرباء "دي فيلا في التجمع يا مدام" أو نلوم سائق التاكسي حين يقول "كلهم حرامية وسارقين البلد" ونطلب من الله وحده أن يعين الطبقة الوسطى على الاستمرار رغم أن عددًا كبيرًا من ملاك التجمع على المعاش والحكومة خصصت لهم معاشًا لا يكفي الإنارة وحدها بعد خدمة أربعين سنة. فكيف يدفعون التصالح الجائر ومن أين؟

إذا كانت هناك شركات قد ارتكبت أخطاء في البناء وتعاونت مع إداريين فاسدين فلا يجب أن يدفع المواطن الشريف ثمن فسادهم، وإن أخطأ تكون المجازاة بقدر الخطأ.
--------------------------
بقلم: هالة البدري

مقالات اخرى للكاتب

في محبة الكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات





اعلان