انتفض الجميع غضبا، بعدما انتشر فيديو الطفل المتبجح الذى قاد سيارة والده بكل رعونة متطاولا بفجاجة على رجل الشرطة.. تعاطفنا مع الرجل الذى بدا قليل الحيلة يفتقد تلك الهيبة التى لايتوانى عن فرض سطوتها أمام الآخر، إذا ما استشعر ضعفه وأيقن أنه مواطن عادى غير مسنود بمن يحميه ويحفظ له ماء وجهه ويجنبه التعرض لأى إهانة بمجرد أن يشهر فى وجه أى من يعترض طريقه موبخا له لتجاوزه القانون، فتخرج الكلمات المتدافعة كرصاص خارق "إنت مش عارف إنت بتكلم مين" لتصيب هيبة رجل الشرطة فى مقتل، فيغمض عينه متجاوزا المخالفة مهما بدت مفزعة ومخيفة.
تلك حقيقة الأزمة التى نعيشها بدون أية محاولة للتجميل أو التهوين أو التقليل من كارثية تبعاتها.
ثُرنا تعاطفا مع رجل الشرطة، وانطلقت ألسنتنا بالنقد والتوبيخ ووصم الطفل بقلة التربية وانعدام الأدب والتبجح والاستعلاء، لكن كثيرا منا لم ينتبه إلى أن مافعله الطفل نتاج طبيعى يعكس قيم مجتمعنا المغيبة، وميزان عدالته المختل فى الغالب لصالح أصحاب المال والجاه والسلطان.. وسلوك أفراده التى غلب عليها الخنوع والانكسار وتقبل مرارة الإهانة بعدما بات رد الحقوق والاعتبار عصيا على التحقق.
صفعنا تجاوز الطفل وتطاوله دون أن ندرى، لكننا أغفلنا بشاعة ماوصلنا إليه، تماما مثلما صفعتنا إهانة المحافظ لمديرة المدرسة.. وعجز الأخيرة عن الرد بما يحفظ كرامتها، لولا تدخل البعض لحض المحافظ على الاعتذار وإن فعله على استحياء مكتفيا بإستقبال المديرة بعدما طالبه البعض بتطييب خاطرها. لم يعتذر المحافظ صراحة ومن المؤكد أنه لم يعترف صراحة بتجاوزه أو لم يشعر أنه تجاوز بالفعل، ربما لأنه يمكن أن يتحمل مثلما تحملته المديرة من توبيخ واستعلاء ممن هم أعلى منه فى المنصب، وربما يقبل هؤلاء نفس التجاوز ممن هم أعلى منهم، لنصبح جميعا أسرى لتلك الحالة من الاستعلاء والاستقواء وإساءة استخدام للسلطة والمناصب التى من المفترض أن نكون أمناء على حمل مسئوليتها وثقل تبعاتها لا العكس .
إذا أردنا حقيقة، ألا يتكرر مشهد الطفل سليط اللسان المفتقد للأدب.. علينا أن نعيد لقيم مجتمعنا أصولها ونعيد لميزان عدالته التوازن. نعيد للقانون هيبته ليصبح أداة الردع والعقاب والمساءلة لكل من يتجاوزه وينتهك قدسيته، فيصبح الكل سواسية لا فرق بين فقير وغني، وحاكم ومحكوم.. صاحب جاه ورجل بسيط، إلا بقدر احترام كل منهما للقانون.
رد الإعتبار للقيم المغيبة عن عمد، فغيابها يسمح بانتهاك الآدمية وامتهان الكرامة وسحق الكبرياء، هو السبيل الوحيد لضمان عدم تكرار تلك المشاهد المستفزة لمشاعرنا، وإلا أصبحنا أسرى الاعتياد على تكرارها ومشاهدتها ليتحول تعاطفنا إلى مجرد فاصل بين إهانتين، ثم لا نلبث أن نصاب بالتبلد من فرط التكرار، فلا تهتز مشاعرنا ولا ننتفض غضبا ورفضا ليصبح كل ما اعتدنا عليه من قبح أمرا واقعا.
ربما تكون واقعة الطفل، رغم استفزازها، فرصة للتحذير من الخطر ومواجهته ومحاولة رأب صدع ما لحق بمجتمعنا من ضعف واختلال.. وربما تكون مجرد حادث عابر يستغله البعض للإلهاء، لنعود جميعا كما كنا وكأن حادثا جللا لم يحدث، متجاوزين كعادتنا الخطر بالصمت وانتظار مشهد آخر أكثر استفزازا لننتفض فى ادعاء كاذب، لا نلبث بعده أن نعود لتقوقعنا خلف ذواتنا اللاهثة وراء البحث عن لقمة العيش نبتلعها بصعوبة مع كرامتنا المهدرة.
---------------------------
بقلم: هالة فؤاد