19 - 04 - 2024

التطبيع وملحقاته.. وعقود الإذعان.

التطبيع وملحقاته.. وعقود الإذعان.

رحم الله أمل دنقل حين قال في وصيته الذهبية:
لا تُصالحْ..
ولو منحوك الذهب..
أترى حين أفقأ عينيك..
ثم أُثبِّت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياءٌ لا تُشترى..

أما نحن فقد صالحناهم اخيراً ولا ندري كمواطنين هل منحوا حكومتنا ذهباً أم لا؟ فملف التطبيع لا يزال طي الغموض ولا أحد يدري عنه شيئاً، كل المسئولين يخرجون ليقولوا للناس كلاماً لا يخلو من التنميق والتبعيض والعاطفة، لكن تفاصيل الاتفاق السوداني الاسرائيلي الذي أنتج التطبيع وما لنا كسودانيين وما علينا لا أحد يدرك عنه شيئاً، المؤسف أنّ كل التفاصيل في أيدي بعينها والتطبيع الذي كانوا ينكرونه بالأمس، بل أقالوا وزجروا له الناطق باسم الخارجية حين صرح به وسمحوا بتمرير الأقاويل والاتهامات في الإعلام أن تطال نجوى قدح الدم حين تحدث الناس عن اتهامات العمالة وصلاتها بالكيان الصهيوني بما كان يشي وقتها أنّ الموقف الرسمي بعيد كل البعد عن التطبيع، وهاهو بالأمس وزير الخارجية الذي زجر وأقال ناطقه الرسمي في شأن التطبيع قبل شهور قليلة ها هو يخرج بكامل هندامه يشحذ من الكلمات ما يجعل التطبيع مع إسرائيل وكأنّه الجنة الموعودة حين حشد في لقائه مطلع الأسبوع الحالي مع مدير التلفزيون لقمان الذي تحول لمذيع مبتدئ كل التعابير التي لم تخرج عن كونها تحت بند الأماني العذبة.

قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني الراديكالي والعنصري على السواء، فالصهيونية كحركة عنصرية معروفة الأبعاد والمرامي ولن نقول إسرائيل رغم أنّ إسرائيل إسم راديكالي أيضاً يشير للتشدد الديني حين استمدت إسمها من العقيدة اليهودية الممزوجة بالتحريف والتلمود المزعوم، قضية التطبيع والتحفظ عليها عند قطاع عريض من السودانيين ليس سببها الوحيد هو الصراع الفلسطيني الاسرائيلي على الأرض وتلك قضية أخرى، فليس السودان هو ظل العروبة في الأرض خصوصاً وانّ الفلسطينيين انفسهم يعتبروننا على هامش العرب (الغاربة والمستغربة) رغم تاريخ السودان المشرف مع دول المواجهة ونصرة القضية الفلسطينية منذ منتصف الأربعينيات وما قبلها، لكن ما يستثير مضادات التطبيع عند السودانيين هو البعد النفسي المترسخ عندنا ضد الكيان الصهيوني العنيف في تعاملاته مع الآخر تاريخياً، والعنصرية البغيضة التي يتسم بها الأصدقاء الجدد وعدم مراعاتهم للعهود وهذه يجب التحسب لها كذلك، ومخطئ من يظن أننا سنكسب من وراء التطبيع، فها هي الحكومة الاسرائيلية تبادر في اول يوم بإعادة السودانيين اللاجئين في أراضيها بدلاً عن توفير فرص عمل لهم وتصحيح اوضاعهم في أراضيها، لم تكن يوماً إسرائيل في موقف المانحين لدول الحلف معها بل دائماً ما تأخذ أكثر أضعافاً مما تعطيه على نهج شيلوك اليهودي تاجر البندقية.

الشاهد أنّ الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة السودانية ستفتح الباب على مصاريعه لدخول لاعبين جدد في الساحة السياسية السودانية على ما فيها من هشاشة واهتراء، خلال هذه الفترة من عمر الفترة الانتقالية التي تتجاذبها العديد من التحديات التي تجعلها على هاوية المحاذير الأمنية بفعل الاستقطاب الحاد الذي يجري الآن، ناهيك عن مخاطر الوضع الاقتصادي الذي يمكن أن يقود هو أيضاً لانفلات اجتماعي وانفجار أمني لا يمكن أغفاله بأي حال من الأحوال ولا تجاهله بطبيعة الحال فالمعطيات الآنية بكل تعقيداتها يمكن أن تنتج فوضى مقصودة لتكون غطاءً لساحة صراع جديدة يمكن تدويلها باتخاذ التطبيع ذريعة للتدخل وإشعال وإشتعال الساحة المحتقنة بفعل الشحن الحزبي والقبلي والأيديولوجي والعسكري شمالاً وشرقاً وغرباً وفي المنطقتين والنيل الأزرق.

غير أنّ أسوأ ما في التطبيع هو تسويقه على انّه المنقذ من كماشة الندرة والفجوة التي نعانيها، تماماً كما هو الحال مع رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، حيث كان السودان واحد من أربعة دول تضمها القائمة بينها كوريا الشمالية التي لا تزال ضمن القائمة حتى اليوم، فخلو الطرف من القائمة لم يجعل من أفغانستان مثلاً دولة طبيعية ولم يجعل من الصومال دولة مواطنة حقيقية ولم يجعل من أرتريا دولة آمنة في المأكل والمشرب وعدالة الحكم، الخروج من سجلات الإرهاب ليس هو الضامن الوحيد لأن تكون دولتنا دولة طبيعية آمنة للمواطن في مأكله ومشربه وكيفية حكمه، القضية ليست فقط البراءة من القوائم السوداء والتحالفات والتطبيع مع إسرائيل، ربما سنكون بحاجة فعلية لدورة حتمية طويلة جداً من الإصلاحات الهيكلية تنفذها كفاءات وطنية من التكنوقراط الصامتين وليس الباحثين عن البروباقندا وتجيير المواقف للأحزاب والكيانات والجهات التي ستزيدنا بؤساً على بؤس وحينها لن تشفع لنا إسرائيل ولا تغريدات ترامب ولا بايدن فما حكّ جلدك مثل ظفرك هكذا ببساطة.

لن يكون رفع إسم السودان من قائمة الإرهاب ولا التطبيع المرفوض اخلاقياً ودينياً وعرفياً ونفسياً عند قطاعات عريضة لا يمكن إغفالها من السودانيين هو المطلوب فحسب من الحكومة، كما أنّ أقطاب التطبيع في الحكومة التي وضح أنها لم تجمع على القرار كما قال بصراحة وجرأة عضو المجلس السيادي صديق تاور، ناهيك عن تغييب الشعب بأكمله عن هذا القرار المصيري في ظل عدم وجود مؤسسات تمثل الشعب وتوجهاته، لكننا نخشى من قائمة مفوترة طويلة سيدفعها السودان عاجلاً وآجلاً مادياً ومعنوياً، فالكيان العالمي ظل يبحث عن هذا الإبن الضال طويلاً منذ ما قبل مؤتمر اللاءات الثلاثة في الخرطوم، وهاهو يجد السانحة على طبق من ذهب في حكومة لم تعرف كيف تقرأ مستقبل البلاد ولم تعرف كيف تدير مواردها باستقلالية بعيداً عن الخنوع لآخرين، وأن تكون مستقلاً (تعرف كيف تلعب بولتيكا كما قال فيليب غبوش) لا يعني أن تكون عدوانياً كما حاول ان يفعل النظام المباد، لا.. ولكن يجب ان تتعاطى الحكومة الحالية مع المحيط الإقليمي والدولي بشئ من الاستقلالية وليس أن تبصم بالعشرة على عقود الإذعان.
------------------
بقلم: د. محمد قسم الله محمد
[email protected]



مقالات اخرى للكاتب

التطبيع وملحقاته.. وعقود الإذعان.





اعلان