20 - 04 - 2024

فلسفة التفاؤل في «عود» أحمد الحجار

فلسفة التفاؤل في «عود» أحمد الحجار

فلسفيًا يا سادة.. فيه نزعتين رئيسيتين في النظر إلى الحياة، واحدة تفاؤلية والتانية تشاؤمية، وما بينهما من نظرة وسطية.. بس خلينا في الدائرتين الكبار والرئيسيتين.. 

أبرز الفلاسفة اللي تبنوا التفاؤل كان «ليبنتز» وممكن نقول «ديكارت» و«سبينوزا»، في حين كان أبرز فلاسفة التشاؤم «باسكال» و«جان لوك» و«فولتير» والأشهر على الإطلاق، أبو الكآبة «شوبنهاور»..

ومن جهة شاف المتشائمون العالم عبارة عن بِركة من المآسي والظلم وضحالة الإنسان أمام قوى الطبيعة وتجبرها، وأن المصير المحتوم هو فشله وخسارته في هذا الصراع.. بخاصة «شوبنهاور» اللي أعتقد في أن جوهر هذا العالم هو الشر، والحل الوحيد للنجاة هو الفناء..

من جهة تانية، كان المتفاؤلون وعلى رأسهم «ليبنتز»، يؤمنون أن الشرور مش كتيرة في الحياة، بالتالي خطورتها أقل، وبنظرة تفاؤلية شافوا أنه بالقياس للخير في الحياة الإنسانية يمكن التغلب على الشر بالعقل والعمل... 

ومن الفلسفة للفن، خاصة فن الغناء، من الطبيعي أننا نلاقي أغاني تدعو للتفاؤل وأغاني تانية تنكد عليك وتسودها في وشك.. وكل منا يبحث عن حاجته، ويغني على ليلاه.. 

نرجع بقى شوية، تقريبًا 33 سنة.. وفي ألبوم «حنين» سنة 87 لأيقونة من أيقونات الغناء في التمانينيات والتسعينيات أحمد الحجار، اللي ألفه بالكامل الشاعر الكبير جمال بخيت، واحدة من علامات الحجار، وربما أشهر أغانيه على الإطلاق، وهي «عود».. 

تعالوا.. نشوف فنيًا إزاي جمال بخيت وأحمد الحجار.. قدموا معزوفة تشع تفاؤل، تبخ أمل.. تلخص رؤى فلسفية تفاؤلية درسناها في كتب ومجلدت.. الأغنية تقول ده بشكل عبقري وسهل وممتع في 5 دقايق!!

مع بعض يا سادة.. تعالوا نفتكر كلمات الأغنية، اللي تقريبا بلغ عددها 50 كلمة بس.. لكن الأمر مش بالكمّ .. «عود، الفجر لسه بيبتسم بين دمعتين/ عود، الفرح ممكن يتقسم على شفتين/ عود، الوهم مات والذكريات قالتلى حبك بالوجود/ ياريت تعود/ إحنا زمان كنا الزمان/ كنا الهوى من غير هوان/ كنا الأمان من غير حدود/ عمري اللي راح سماح سماح/ يا حب أكبر من الجراح/ رجع عبيرك للورود»..

ومن غير مواربة، وبكل وضوح، تبدو رسالة جمال بخيت باينة للعَيان.. وجوهر مبتغاه.. تفاءلوا بالخير تجدوه.. أو نقدر نقول أن الأغنية تلخص رسالة «ليبنتز»، اللي شاف أن الجنس البشري ممكن يبلغ كمالًا عظيمًا، بل أعظم مما نتخيل، في الوقت الراهن والمستقبل.. وهي نفس الرؤية فالفرح ممكن والفجر آت مبتسمًا والوهم مات والذكرى تنادي بعودة الحب!!

الأغنية عمل فني مؤدى، يعني لازم تتوافق فيها 3 عوامل للنجاح، كلمات جميلة ودي وضحناها.. وملحن شاطر ومطرب ومؤدي واعي وموهوب.. وزي ما جمال بخيت رسم الكلمات بالمسطرة الشعرية.. جاء دور الحجار يهندس الأغنية ويدوزنها.. وتبقى «عود» درة أعماله وأكثرها تأثيرًا..

بس قبل ما نبيّن إزاي لعب الحجار في الأغنية، لحنًا وأداءً، خلينا أفكركم جميعًا بأن التفاؤل في أغاني أحمد الحجار، منتشر ومتشعب، ورغم الشجن اللي في صوت عيلة الحجار بأكملها، لكن كتير من أغاني أحمد تحديدًا فيها نبرة تفاؤلية، ففي «الأحلام» دويتو مع علي، «لو أحبابك خانوا غيابك، ارمى عذابك يملى بحور، دوس أوجاعك خلى شراعك، يطوى رياح وجراح وآلام».. 

وفي أغنية «لملمت خيوط الشمس» ورغم أن المحب بيقول للمحبوبة «وناديتك مسمعتيش، ولأمتى الرد سكوت؟»، لكن الأغنية نفسها مليانة بهجة ويصر المحب على أنه يعزف لبكرة وينتظر ما يحمل من وعود «لملمت خيوط الشمس، علشان أغزلك شال، وعزفت حروف الهمس، وفي أجمل غنوة اتقال»..

لو عدينا ورصدنا التفاؤل في الأغاني، هنبقى عايزين كتابة مطولة، فاكر «بين الفرج والضيق».. دي مش عايزة أي كلام.. دي التفاؤل بيور.. خام.. محض تفاؤل.. جرعة مكثفة من الأمل..  القصد أن التفاؤل شغل أحمد الحجار الشاغل، والسمة الغالبة على أغانيه... 

في «عود»، يلجأ الحجار إلى مقام «البياتي» سواء في المطلع أو الآهات أو المذهب، وده اختيار طبعًا ذكي، ورغم محدودية معرفتي الموسيقية، بس ذكاء الاختيار تنبع في أنه ورغم أنه مقام متقلب المزاج، وفيه اتفاق بين الموسيقيين أنه مقام الشوق والحب والعتب، ويحمل إحساس النداء والانتظار واللهفة.. النداء.. نقف هنا ..

ولتأكيد علاقة المقام بالنداء تقدر تراجع معايا أغاني «على بلد المحبوب وديني» «هذه ليلتي» لأم كلثوم، و«كل ده كان ليه» و«لما أنت ناوي» لعبد الوهاب، و«ياريت منن» لفيروز.. هنا البداية.. النداء..

وبالنداء.. يطلب المنادي من «آخر» العودة، تعال يا مولانا، ممكن الأمور تبقى أحلى، والابتسامة قريبة، لا وهنتشارك فيها كمان.. وعند «عود.. الوهم مات» يمد عووووود حبتين.. المد ده مش بس علشان يحسسنا بالمسافة بينه وبين المنادى، لا.. أعتقد أنها كانت تنبيه للعبارة اللاحقة، وهي العبارة اللي هيرددها الحجار بعد كل كوبليه «الوهم مات» وما أعظمها رسالة!!

وطالما الوهم مات، يبرز الماضي، اللي غالبًا عند الفلاسفة المتفائلين نقي ومُشرق، يظهر الماضي في صورة الذكريات.. وما تحمل الكلمة من حنين لتؤكد الرسالة «حبك بالوجود».. لسه قائم وكائن وممكن ومتاح.. بس ياريت تعود.. 

التركاية التانية في الانتقال من بيات إلى مقام حجاز، بخاصة لما يجي يقول «إحنا زمان كنا الزمان»، اسمع معايا الكوبلية ده- وتعالى نسأل عن الحجاز.. فبعد النداء والانتظار واللهفة في بيات.. يجي مقام ممكن يتلعب شرقي وممكن يبقى غربي.. ويحمل اسمه تراثًا مقدسًا .. ده كمان مرتبط جوانا بأشهر نداءات الصلاة/ الأذان، وأشهر قراءات القرآن.. 

يعني الحجاز، نقدر نقول إنه في جانب منه مرتبط في الذهنية العربية بشيء من القداسة، واتساعه لأنه يتلعب شرقي وغربي ده خلاه عابر موسيقيًا للثقافات.. بالتالي ف أغنية الحجار هيشيل جملة في مضمونها نقدر نقول بتقدس الإنسان، بترفع من شأنه.. تعليه من الإنسان الأدنى إلى الإنسان الكامل، إلى الصفة الربوبية!! إزاي؟

«إحنا زمان كنا الزمان»، وبالبديهي، تتقاطع العبارة مع موروث إسلامي يرى في الذات الآلهية الزمن نفسه، والدهر ذاته، ومن ثمّ نقدر نؤول «كنا الزمان» إلى ارتقاء البشر إلى خالقهم، باعتبارهم «عيال الله».. وده مقبول جدًا، ففي الإنسان منذ البدء شيء من روح الله.. ومن هنا نفهم «إحنا زمان» في الزمن الأول، حين كنا مجرد كلمة!!

يدعم التأويل السابق، مختتم الكوبليه «كنا الأمان من غير حدود»، فيفتح حدود الإنسان إلى حدود القوى العليا، غير المحدودة، لا يحده حد، وكأننا بالنفخ فينا منذ القدم صرنا منه وإليه.. 

بالحجاز، يسمع المستمع العربي الكوبليه وكأنه بيسمع الآذان، لتنزل الجملة الغنائية عليه بحمولات المقدس فيآمن طوالي بأن بني الإنسان هو الهوى دون الهوان، وأن بني البشر بإمكانهم أن يجدوا الآمان، أو بالأحرى أن يستعيدوا سيرة الأمان الأولى!!

التفاؤل مش معناه إنك تنكر وجود الشر، بل الصح أنك تقاوم وتتغلب عليه، وزي ما بدأنا بـ«ليبنتز» والإيمان بأن قدرة الإنسان الخيرية أكبر من الشر ذاته، تختم الأغنية بالتأكيد على نفس المعنى.. فجملة «عمري اللي راح سماح سماح»، تقرّ ضمنيًا بأن ثمة ما يعكر صفو الخير، والإقرار ده تدعمه كلمتين راح وسماح، فمن المؤكد أننا لا نسامح إلا في الخطأ.. 

نرجع للبيات، ونقر بوجود الشر، لكنّ هذا الوجود غير نهائي، فالحب أكبر وأعظم، تذكر معي أن الله نفسه هو الحب، وكأن من خلال هذه الطاقة الربانية نستعيد السيرة الأولى «رجع عبيرك للورود»، لنوقن في المحصلة أنه بإمكاننا أن نفعل كل شيء على أفضل وجه نتمناه!!
---------------------
بقلم: مدحت صفوت *
* نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك

مقالات اخرى للكاتب

العروسة.. من أين يتسلل الحزن للإيروتيكا؟





اعلان