16 - 04 - 2024

شاهد على العصر (10) "الوطني" استولى على مقعدي والأبنودي "زيَّنَ" رحلة موسكو

شاهد على العصر (10)

مجلس شعب ١٩٨٤

بعد الإفراج عنا واستقبال رئيس الجمهورية المعتقلين – وأنا منهم - فى القصر الجمهورى، وبعد حديث مبارك كنوع من الاعتذار وفتح صفحة جديدة بين المعارضة والحكم. مثل اعتقالى والإفراج عنى بهذه الطريقة نقلة نوعية فى مسار حياتى السياسية، حتى أصبح تعريفى يشمل أني معتقل ضمن حملة سبتمبر1981 أفرج عنه مع زعماء المعارضة الـ٣١والأربعة عشر وزيرا سابقا.  بدأ مبارك استشارة الأحزاب فى كثير من القضايا فكان يستقبل رؤساء الأحزاب مع بعض القيادات الحزبية، وزادت علاقتى بالأستاذ خالد محيى الدين، خاصة بعد اعتراف الحزب بالتقصير أثناء اعتقالى، فالحزب لم يسأل عنى، لم يزرنى أحد منه أو يرسل إلىَّ مساعدات، بل إن هناك كتاب صدر عن الحزب، بإشراف خالد محيي الدين عن اعتقالات سبتمبر وذكر فيه أسماء المعتقلين من صفوفه اسما اسما، وأنا الوحيد الذى لم يذكر اسمه ضمن المعتقلين الحزبيين.

استمرت العلاقة بين الحكم والمعارضة فى حالة هدوء، فكان هناك محددات لهذه العلاقة كان قد ذكرها لى د. رفعت السعيد اثناء أحد لقاءات خالد ومعه رفعت مع مبارك، حيث كانت تلك المحددات ألا تتناول المعارضة الجيش أو أسرة مبارك، وذلك لأن د. حلمى مراد قاد حملة صحفية غير مسبوقة بجريدة الشعب على جيهان السادات أواخر أيام حكمه، رافضاً تدخلها فى شئون الحكم ورافضا تسميتها بسيدة مصر الأولى، حيث لاصلاحيات دستورية أو قانونية لتلك الممارسات العائلية فى الحكم، وكان هناك توافق وتفاهم بين فصائل المعارضة، فكانت هناك مؤتمرات حزبية بالتبادل بين الأحزاب وفى مقارها، مثل التجمع مع العمل بحضور محيى الدين وشكرى. 

هنا ظهرت بوادر النظام الانتخابى الذى ستجرى على أساسه انتخابات مجلس شعب ١٩٨٤ وكان بنظام القوائم النسبية، تلك النسبية التى تعطى كل حزب عدد مقاعد تتوافق مع عدد الاصوات الحاصل عليها الحزب مقسومة على عدد الأصوات التى تخص المقعد الواحد، ولكن كسور المقعد يعود لصالح الحزب الحائز على الأغلبية (الحزب الوطنى بالطبع)، كما كان هناك شرط معوق وهو ضرورة حصول الحزب على نسبة ٨% من إجمالى عدد الاصوات على مستوى الجمهورية وإذا لم يحصل الحزب على هذه النسبة، تكون مجمل الاصوات لصالح الحزب الوطنى أيضا!. 

كان قرار التجمع هو خوض هذه الانتخابات النسبية، وكنت عضو اللجنة المركزية وأمين تثقيف لجنة محافظة أسيوط، اتفقت الأمانة العامة للحزب (قيادة الحزب) أن أكون أول قائمة الحزب فى الدائرة الشمالية لاسيوط ، أو أن أكون الثانى على أن يكون الاستاذ صلاح فراج أمين أسيوط هو الأول، وإذا فاز الحزب بمقعد سيكون من نصيبى حيث أنى مرشح عمال، علمت بهذا القرار، ووافق د. رفعت على أن أحصل على إجازة بدون مرتب يدفعها الحزب، حتى ابدأ مبكراً الدعاية الانتخابية فى دائرة تشمل خمسة مراكز، كانت حكاية اول القائمة هذه لأن أسيوط بها نسبة تصل إلى ٣٠ فى المائة من المسيحيين، هنا تسرب إلى إحساس أن الحزب اختارنى كمسيحى فى أسيوط وهذا كان بالفعل، بدأت الدعاية الانتخابية قبل الانتخابات بثلاثة شهور ولكن على أرضية طائفية محضة بلا مواربة، الذهاب الى الكنائس، زيارة كبار الشخصيات المسيحية فى المراكز والقرى، والمدخل هم كهنة البلاد حيث كان يرافقنى كاهن صديق من القوصية، وكانت الدعاية مبنية على أنى مسيحى في أول القائمة، ولذا ستكون من نصيبى كل الأصوات التى تحصل عليها القائمة وبهذا سأحصل على مقعد لمسيحى حيث لايوجد تمثيل للمسيحيين فى مجلس الشعب.

ومن الأشياء المخزية طائفيا، أني ذهبت إلى إحدى قرى أسيوط التى لا أعرف فيها أحد، ودخلنا منزل أحد الاشخاص متصورا أنه لابد أن يكون مسيحيا، ولكن لم أجد أى مظاهر لذلك مثل وجود صور مسيحية مثلا، قلت لو كان غير ذلك لنبهنى مرافقى، دخلنا وأدرت الاسطوانة الطائفية أننى مسيحى ولابد أن نمثل ..الخ. 

هنا وجدت الشخص يقول طبعا إحنا إخوة طول العمر مسلمين ومسيحيين.. يا للهول (على رأى يوسف وهبي) والله حتى الآن أشعر بالخزى والطائفية من تصرفي يومها. 

جاء وقت ترتيب القائمة التى يجب أن يؤخذ فيها رأى لجنة المحافظة، كنت مقتنعا جدا بلا أي شك أننى الثانى بعد صلاح فراج، خاصة أن هذه رغبة خالد ورفعت وبعض أعضاء الأمانة مثل د. إسماعيل صبرى ود. فؤاد مرسى ولطفى الخولى، تصورت أن الأمر محسوم وفوجئت أن اللجنة رأت أن أكون فى الترتيب السابع!، بلا أي تبرير، بمعنى الستة الاوائل من هم؟ وما هى جماهيريتهم؟ وما الذى قاموا به من دعاية طوال المدة السابقة؟ اتصلت بخالد محيي الدين دون جدوى، فقد أصر على الترتيب الجديد، وفى أحد اتصالاته بى فى المنزل قال لى: "أنا مايتلويش ذراعى"، فقد كانت القائمة عشرة أساسى وعشرة احتياطى حيث يتيح القانون وقتها للحزب أن يقدم قوائم بأسماء من اى محافظة، وكان الاتفاق أن الحزب فى القاهرة سيمد أسيوط بالأسماء لعدم وجود مرشحين فيها، وعلى ذلك رفض خالد تكملة القائمة ولم يتقدم الحزب بأى قائمة فى شمال أسيوط، لا اريد أن أذكر أسباب التعنت غير أن أغلبية اللجنة فى أسيوط كانت من الماركسيين وأنا ناصرى!! حمدت الله على هذا حيث كان والدى يرفض رفضا مطلقا أن اترشح، ورأى أننا لسنا بتوع انتخابات، لانملك لا عائلة ولا عصبية ولا أموالا فمن سيحمى اللجان واليفط، وقال: "عندما تسقط - وهذا طبيعى فى رأى أبى- سيدخلون علينا المنزل ويحدث ما لا نتمناه"،  كان هذا تفكير أبى الذى عاشه وهذا هو الواقع الذى شاهده فى الانتخابات وممارساتها. كان المرحوم احمد فرغلى الصحفى فى حزب التجمع ولكنه ذهب إلى حزب العمل الاشتراكى، وكان عضوا بمجلس الشعب دورة 19٧٩ وتم فصله بسبب زيارة خالد محيى الدين لمنزلنا فى القوصية وكان من الطبيعى أن يترشح، ولكن لم تكتمل القائمة. 

زارنى أحمد فرغلى فى منزلى فى اليوم السابق لغلق باب الترشح، وطلب منى أن أكون الثانى بعده وأني سأضمن المقعد باعتبار أننى عمال، طلبت مهلة واتصلت بخالد محيى الدين تليفونيا أخبرته باقتراح فرغلى، قال ترشح تحت مسمى (ناصرى يترشح على قائمة حزب العمل الاشتراكى). بدأت الانتخابات، كانت بالفعل ساخنة وأكبر من قدراتى، جاء إبراهيم شكرى إلى القوصية، وعقدنا مؤتمرا انتخابيا حاشدا فى قرية فزارة التابعة لمركز القوصية، تناول شكرى طعام العشاء بمنزلى وكان يوما ولقاء مهما مع شكرى وقيادات الحزب سيد رستم وممدوح قناوى.

خضت الانتخابات بمجموعة من شباب الكنيسة الذين لاعلاقة لهم بالسياسة أو الانتخابات، فهذه محرمات لايجب الاقتراب منها، حشدت الشباب وأعطيتهم حالة من الثقة بالنفس. ابتدعنا ورقة مع المندوب لتسجيل عدد الناخبين، أحدثت هذه الورقة حالة من الارتباك للآخر وأخذ الشباب يثق فى نفسه. غزلنا برجل حمار فلا سيارات بل موتوسيكلات ودراجات. الأكل سندويتشات طعمية وسلطة. التعليمات أنه عند حدوث تزوير، ينام المندوب على الصندوق ويطلب الشرطة ويستميت. حصلت على خمسة آلاف صوت فى القوصية وأربعة عشر ألف صوت على مستوى الدائرة. فزت بمقعد، واستقبلت المهنئين، وزعنا الشربات. وفى اليوم الثالث اتضح أن الحزب لم يحصل على نسبة الـ ٨ %، فاقتنص الحزب الوطنى مقعدى وأصبحت عضو مجلس شعب تحت التنفيذ. 

(الصور مع شكرى والعائلة بالمنزل و فى مؤتمر ضم شكرى وخالد فى حزب التجمع)

إلى حزب العمل والاتحاد السوفيتى 

عدت إلى ممارسة العمل السياسى فى التجمع، حيث أنى لم استقل منه أثناء ترشحى على قائمة العمل، حضرت اجتماع اللجنة المركزية فوجدت أعضاء أسيوط ياخذون موقفا غير مبرر، بل كان تعاملهم معى غير لائق بالمرة وأعلمونى أنهم سحبوا منى موقع مراسل جريدة الأهالى بأسيوط. فقد كنت أول مراسل للأهالى لمدة تزيد على ست سنوات وكنت أصدر نشرة محلية باسم "أهالى أسيوط" وشملتني عمليات الاعتقال بسبب دورى الصحفى حينذاك. 

اجتمع معهم خالد محيى الدين وأوضح لهم أن لجنة أسيوط أخطأت حين لم ترشح جمال أول القائمة، حيث أنه حصل على مقعد فى الوقت الذى لم يحصل فيه التجمع سوى على مقعد خالد نفسه فى كفر شكر. أدرك خالد أني لا يمكن أن أتعامل معهم بعدما تغيرت نظرتي إلى الفصيل الماركسى الذى تعلمت منه الكثير، وفكرت فى المغادرة. 

كانت علاقتى قد توطدت بقيادات العمل الاشتراكى أثناء الانتخابات، فكرت فى الانضمام الى العمل، ولكن كان هناك احساس أن مجرد التفكير فى هذا هو خيانة لمبادئى. درست برنامج العمل دراسة مستفيضة وجدت انه لايتناقض مع مجمل قناعاتى الناصرية وان كانت هناك مسحة قيمية إسلامية لاتتناقض مع قناعاتى القيمية. 

جلست أكثر من مرة مع إبراهيم شكرى لمناقشة البرنامج وملاحظاتى التنظيمية، انضممت إلى العمل، تصادف حدوث انتخابات للجنة التنفيذية أي المستوى التنظيمى الأعلى فى الحزب. طلب منى الترشح، وفزت بعضوية اللجنة التنفيذية مع شخصيات عامة لها ثقلها مثل أبو الفضل الجيزاوي عضو الضباط الأحرار، د. حلمى مراد، وعبدالحميد غازى امين الفلاحين فى عهد ناصر ..الخ . 

أثبتت وجودى منذ البداية حيث أدركت أن الخبرة السياسية التى اكتسبتها من منظمة الشباب وحزب التجمع جعلت منى كادرا سياسيا وتثقيفيا وتنظيميا، عام ١٩٨٥ كان هناك مؤتمر عالمى للشباب فى الاتحاد السوفيتى، تم اختيارى ضمن وفد حزب العمل، عقد المؤتمر من ٢٧ يوليو إلى ٣ اغسطس ١٩٨٥ وكان السفر ٢٤ يوليو. لم يكن بإمكان موظف بالحكومة مغادرة البلاد بغير مايسمى بالكارت الأصفر وهو موافقة الوزارة، البنك الذي أعمل فيه تابع لوزارة الزراعة، كانت هناك إجازة عيد الثورة ٢٣ يوليو، فأسقط فى يدى وتصورت أن حلم الأحلام ضاع، فهذه أول زيارة خارجية فى حياتى وإلى الاتحاد السوفيتي، حلم حياتى السياسى قبل أن يكون الجغرافى، الاتحاد السوفييتي الذى ساعد فى بناء السد والذى كسر لنا احتكار السلاح وساعد في بناء المصانع ...الخ. 

تصادف مساء ٢٣يوليو أي اليوم السابق للسفر أن كان هناك حفل عشاء فى منزل إبراهيم شكرى على شرف الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات وكنت ضمن المدعوين، تقابلت مع د حلمى مراد وسألنى عن أخبار السفر، فقلت له طارت العصفورة من يدى يادكتور، عرف السبب فاتصل من منزل شكرى بأحمد رشدى وزير الداخلية الذى قال له: يذهب غدا للسفر ولن يطلب منه الكارت الاصفر!. سافرت مع الوفد ليلا وكانت المشاعر لاتوصف ليس لمجرد السفر ولا ركوب الطائرة للمرة الأولى، ولكن لأنى ذاهب إلى الاتحاد السوفييتى. 

قبل دخولنا المجال الجوى السوفيتى شاهدت ظاهرة غريبة وهى أن تنظر من يمين الطائرة تشاهد الليل، ومن شمالها تشاهد الصباح!!. تم الاستقبال ووصلنا الفندق، تم توزيع كارت به الصورة والاسم والدولة على أن يعلق طوال مدة الرحلة حيث أنه سيكون الكارت الذهبى فى ركوب المواصلات بالمجان وفى دخول المولات بعيدا عن الطابور الذى هو سمة طاغية فلا شئ يتم بدون طابور. 

تم تسكينى فى سويت بالفندق فى الدور ٤٣ مع الزميل ناجى الشهابى (رئيس حزب الجيل الآن).كان الوفد المصرى أكثر من مائة شخصية سياسية وفنية وصحفية مثل عبد الغفار شكر وأبو العز الحريرى ونبيل الهلالى وإبراهيم العزازى وجلال عارف وعبد الرحمن الأبنودى وعماد أبو غازى (وزير الثقافة الأسبق) والمخرج رضوان الكاشف والفنانة عبلة كامل والفنان سيد عبد الكريم، ومن لبنان الفنان مارسيل خليفة، ومن السودان محمد وردى مطرب السودان الاول. ...الخ. 

صباح اليوم الاول بعد الإفطار فى مطعم يسع ثلاثة آلاف نزيل تقدم لهم الوجبات فى وقت واحد، تلك الوجبات كانت من كل أصناف الطعام لدول العالم. إفطار انجليزي، غداء أمريكى، عشاء سودانى وكانت إحدى الوجبات مصرية عبارة عن ملوخية وأرز أبيض وشوربة عدس وخبز شمسى ناشف! والغريب أن إحدى الوجبات كان لسان من رأس الحيوان فقط!. 

شاهدت فى اليوم الأول بالفندق الأبنودى الذى لم اقابله قبل ذلك، سلمت عليه وعرفته بنفسى قائلا: (جمال أسعد)، هنا سحب يده بسرعة من يدى قائلا: (سامحنى يابيه والله ما عملت حاجة ) أحرجت واستغربت وأدركت أنه يهزر، فقد صورنى على أنى رجل أمن من طريقة إلقائى لإسمى (هكذا كانت طريقة الأبنودى الكوميدية). منذ تلك اللحظة ارتبطنا سويا طوال مدة المؤتمر وكان ثالثنا المطرب الثورى الشيخ إمام عيسى الذى كان يتعامل أيضا لأول مرة مع الأبنودى حيث علاقة الشيخ إمام بأحمد فؤاد نجم الذى لم يكن على وئام مع الأبنودي. 

تم توزيعنا على أتوبيسات ومعنا مرافق ومترجم، في اليوم الثانى وبعد التعارف السابق كان الأبنودي يقف على باب الأتوبيس ويستقبل كل من الأعضاء ببيت شعر يخصه! أقيم حفل افتتاح أسطورى حضره جورباتشوف الرئيس السوفيتى مع بعض رؤساء الدول، حيث كان الصراع لايزال محتدما بين السوفييت والأمريكان فى إطار الحرب الباردة حتى فى مثل هذه المهرجانات!. 

تم حقن الغيم حتى لا يسقط المطر وقت الحفل، شاهدنا عروضا فنية وأوبرالية عالمية وفنونا شعبية روسية وسط نظام يذهل، فهذه الآلاف تدخل الاستاد أو تخرج منه فى خمس دقائق. كانت هناك ورش عمل يتشارك فيها أعضاء من دول العالم، حضرت اجتماعا أنا ومجموعة مختارة من الوفد المصرى مع وزير الخارجية السوفييتي، وكان هناك اجتماع مع البرلمانيين وقد اعتبرونى برلمانيا حيث فزت فى انتخابات ٨٤ فشاركت فى هذا الاجتماع، وكان مع الرئيس السوفييتى جورباتشوف الذى كان وقتها حديث العالم لصغر سنه بالنسبة للزعماء السوفييت السابقين. 

فى لقاء جورباتشوف كان مقررا أن يتم إلقاء كلمة البرلمانيين أمامه، تم اختيارى لإلقاء كلمة الوفد المصري، قدمنى لإلقاء الكلمة الصديق سليمان شفيق كمنسق للوفد باللغة العربية، وقدمتنى الزميلة عزة الخميسى باللغة الروسية. كانت الكلمة تعبيرا عن الاعتزاز بمهرجان يضم شباب العالم تضامنا مع حركات التحرر والاستقلال فى مواجهة الاستعمار. نظمت لنا زيارات يومية للمعالم الروسية بدأت  بزيارة نصب الجندى المجهول، وهذا تقليد يحدث مع أي ضيف للبلاد، ثم زيارة مقبرة لينين قائد الثورة، المقبرة عبارة عن صندوق زجاجي ينام بداخله جثمان لينين بملابسه الكاملة وبملامحه الحقيقية حيث أنه محنط، هناك ممر يحيط بالجثمان للدخول والمرور بجوار الجثمان وآخر للخروج. الإضاءة توحى بالجلال والمهابة لدرجة أننى قد نسيت نفسي، وعند وصولى للجثمان قمت برسم علامة الصليب تصورا أننى فى كنيسة وفى حضرة قديس! 

(صور لحفل الافتتاح والختام للمهرجان، وصورة مع الأبنودى ومحمد وردى المطرب السودانى الشهير)

وأنا صغير كنت أقرأ الصحف الفنية (الكواكب والشبكة والموعد)، وأهتم بالفن خاصة فى الفترة التى مارست فيها التمثيل والإخراج، قرأت عن البولشوى وعن أوبرا بحيرة البجعة، وعرفت أن فن الأوبرا فى روسيا لايضاهيه فن فى أي مكان آخر، تمنيت أن أشاهد البولشوى قبل أن اتمنى مشاهدة دار الأوبرا المصرية التى احرقت ولم أشاهدها، تشاء الظروف أن يتحقق حلمى وأكون داخل مسرح البولشوى الروسي، والبولشوى هو من اهم المسارح الفنية والثقافية الروسية يقع بجوار الكرملين وافتتح فى يناير ١٨٢٥، شاهدنا أيضا السيرك الروسى أشهر سيرك فى العالم، ودخلنا مسرح التزحلق على الجليد، زرنا متحف الأرميتاج وهو من أشهر وأقدم المتاحف والمعارض الفنية والبشرية والتاريخية والثقافية فى العالم. حيث يمتلك ثلاثة ملايين تحفة فنية وخمسة عشر ألف لوحة من إبداع مختلف رسامى العالم، ويضم اثنى عشر ألف تمثال، وهو عبارة عن ٣٥٠ قاعة عرض. زرنا الكنائس التاريخية القيصرية حيث التاريخ مازال يحمل نفس السمات وذات الأسماء القديمة . 

كل ليلة كانت الجموع تتجول فى ميادين موسكو حيث المهرجانات والاحتفالات فى كل مكان وبكل الصور، مساء وبعد البرنامج اليومى فى الفندق يتم عقد أمسية شعرية للأبنودى ثم غناء من الشيخ إمام وفاصل غناء سودانى وطنى وثورى لمحمد وردي، حيث كانت ثورة بقيادة المشير سوار الذهب، قد أسقطت حكم النميرى المستبد فى السودان. وبالطبع لاتخلو السهرة من  شعر وأغانى للمقاومة الفلسطينية. 

فى كل مساء كان الأبنودى يملأ الجو بهجة، وذات مرة كنا نجلس سويا فى استقبال الفندق وكانت هناك حفلة رقص شاركت فيها أول مخرجة مصرية (أخرجت صاحب الإدارة بواب العمارة)، لم يعجب ذلك الأبنودى الصعيدي، كنا نجلس في مجموعة، فأخذ الابنودي في التريقة على المخرجة لنفاجأ بأن الشخص الذى يحكى له الأبنودى رأيه فى المخرجة هو شقيقها! انسحبت أنا والأبنودى صمتا وخجلا. 

وفى ميادين موسكو التى كانت تعج بالفتيات الروسيات الجميلات جدا وفى إطار مجتمع غربى تختلف سلوكه وعاداته عنا، كان معى ناجى الشهابى وأحد أعضاء وفد العمل ويعمل أستاذا فى جامعة طنطا، لاحظنا أن الفتيات الروسيات يردن الاحتكاك بنا، كان أستاذ الجامعة يجيد الروسية، قال لنا تعالوا سنذهب مع هذه الفتاة، كنت قد طلبت من هذا الاستاذ الذهاب إلى إحدى الاسر الروسية لأتعرف على نمط المعيشة لكى تكتمل الصورة، تصورت أننا سنذهب مع الفتاة لهذا السبب. ركبنا سيارة مرت فى شوارع قليلة الإضاءة وتكثر فيها الأشجار الضخمة مما أشعرني بعدم ارتياح، دخلنا شقة لم أجد فيها أحدا. أدركت أن فى الأمر شيئا آخر، انتابنى الخوف من المجهول، لم أفكر في الجنس ولكن تركز كل تفكيرى فى أن هناك من يراقبنا، خصوصا أن السيطرة الأمنية السوفييتية على المواطن ضمن الأفكار المسيطرة. "ياداهيه دقي" هنرجع مصر بفضيحة. هنا تذكرت موقف الذهاب إلى السيدة فى ديروط وانا فى أولى ثانوي تجاري. عدنا إلى الفندق وكنت أتصور أن هناك أحد يسير ورائى ليراقبنى. 

ومن الأشياء التى تذكر أنى اخذت معى ثلاثمائة دولار كان الدولار وقتها بسبعين قرشا، أحضرت بها بدلة وقمصان وكرافتات وبالطو موهير لزوجتى وبالطو بالفرير الروسى لهايدى ومريان لايزال يتبادلهم الأطفال وبدلة لجون وكرتونة لعب أطفال بالريموت الذى لم نكن قد شاهدناها من قبل وأوكورديون ومكنسة كهربائية تعمل إلى الآن وكاميرا زينت ألمانى إضافة إلى كرتونة أدوات مدرسية، وأشياء أخرى لا أتذكرها. هنا أكد لى الأستاذ عبد الغفار شكر أنه زار الاتحاد السوفييتى عام ١٩٥٨وأن الأسعار ذات الأسعار. ركبنا مترو الأنفاق الذى انشيء فى الحرب العالمية الثانية وهو عبارة عن ثلاثة أدوار تحت الأرض، محطة المترو تمثل متحفا بمعنى الكلمة، بها لوحات فنية لكبار الرسامين العالميين وتماثيل ونجف لم أكن رأيت حجمه ولا مثيله قبل ذلك، أما المساكن التى تسمى شعبية فالشقة بها واسعة تضم أفخر الأثاث والنجف فى كل الحجرات. 

وأخيرا أقيم حفل الختام الذى كان أروع وأكثر إبهارا من الافتتاح، حيث الفتيات طائرات فى الهواء! وكنت أجلس بجوار الأبنودى والشيخ أمام وتولى الابنودى شرح ووصف المشهد للشيخ الضرير. كان الابنودى عندما ينبهر بالمشهد يقف زاعقا قائلا: (حق الحمار راح يامحمد). بعد الحفل كان الهتاف الأساسى للمهرجان (مير دروجما فيستيفال) أي سلام وصداقة للمهرجان .

ولكن من إفيهات الأبنودي أن استبدل شعار المهرجان بـ ( جمال اسعد فيستيفال)، وكان الوفد المصرى يردده وراء الأبنودي، وفى الطائرة أخذت الأفكار تتتابع وتتعمق حول هذه الدولة التى تلعب دورا تحرريا وتنمويا على مستوى العالم وفى مواجهة أمريكا، الشئ الذى جعل ماحدث بعد ذلك غير مبرر سياسيا واقتصاديا، غير أنه الاختراق فى المفاصل الضعيفة لأى نظام سياسى مهما كانت قدراته، وصلنا بسلامة  الله إلى أرض الوطن فى رحلة كان من نتائجها سبع فوائد، وصداقات تاريخية.
---------------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

 

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان