25 - 04 - 2024

شاهد على العصر(9) مأمور السجن يحاول إدخالي الزنزانة وأنا عائد من القصر الرئاسي

شاهد على العصر(9) مأمور السجن يحاول إدخالي الزنزانة وأنا عائد من القصر الرئاسي

بعد اغتيال السادات، شعرنا ببعض الانفراج فى السجن، كنا نخرج من الزنزانة إلى فسحة مساحتها ٣ فى ٣ متر محاطة بالاسلاك الشائكة وذلك للتمشية والتشمس حتى لانصاب بالأمراض، ولكن لم تدم تلك الفرحة!. فى يوم الأحد ١٠ اكتوبر ١٩٨١ لم نغادر الزنزانة كما اعتدنا، وعند تغيير ما أصبح عادة نشعر أن هناك خطر ينتظرنا، جلسنا فى الزنزانة نضرب أخماسا فى أسداس، أنظر من نظارة الزنزانة الضيقة على الطرقة التى تفتح عليها أبواب الزنازين الـ ١٤ لا أجد شيئا يوحى بأى جديد، ولكن كان ينتابنى إحساس بأن هناك حدث خطير، وانا غارق فى هذا التفكير سمعنا صوت طائرة هليوكوبتر تحوم حول السجن حتى انتهى الصوت، زاد إحساسى بالخوف من المجهول، بعد دقائق كانت المفاجأة فتحت الأبواب الخارجية الرئيسية وباب الجناح الذى أنا فيه، كنت أشاهد من نظارة الزنزانة ورأيت ما لا أتوقعه، أدخلوا عشرة شباب ملتحين وكل شاب يمسك به عسكرى ووضعوا الشباب فى الطرقة أمام الزنازين، وبدأت عملية تعذيب فاقت كل الحدود، كل عسكرى يمسك بجذع شجرة به بروز طويل ويقوم بضرب الشباب فى كل الأماكن الحساسة وغير الحساسة وبكل قوة. كانت الضربة تلحقها اسالة دماء من مكانها، كان الشباب يصرخون بشكل لا يوصف حتى أنه كان هناك شاب مصاب بطلق ناري فى ساقه، فكان العسكرى ينشن على مكان الإصابة قائلا له: (اسكت يا ابن الكلب، ده انت قتلت مئات الغلابة) وكان الشاب يرد: اقتلنى أطلق عليّ الرصاص، هذا الشاب هو عاصم عبد الماجد منفذ جريمة مديرية الأمن بأسيوط (والذي حدث بعد اغتيال السادات  لمحاولة الاستيلاء على  السلطة) والتى قتل فيها عشرات الضباط ومئات من المواطنين أمام مكتب تموين أسيوط. كان النبوى اسماعيل وزير الداخلية حينذاك هو الذى ذهب إلى أسيوط واحضرهم إلى أبو زعبل بالطائرة. 

عشت فى رعب لا يوصف، فلم أكن قد عرفت شيئا عن هذه الأحداث، تصورت أن تعذيب زملاء لنا فى طرقة تفتح عليها الزنازين أمامنا هو نوع من التعذيب النفسى الأكثر إيلاما لنا وقد كان، فهذه اللحظات ظلت وستظل تمثل لى حالة نفسية غير طبيعية، الأسوأ أننى بعد معرفتى بالتفاصيل كالعادة من الحرس ومن الزملاء أبو العز وقبارى وعبد العظيم (أثناء الفسحة التى كنا نتحاور فيها ويفصلنا سلك شائك) قلقت بشكل أشد.. فالأحداث الخطيرة هذه تمت فى أسيوط . فماذا يا ترى كان رد فعل هذه الجماعات تجاه الأقباط تحديدا؟ وماهو الوضع فى بلدتى القوصية، خاصة أن الإخوان والجماعات كانوا يصلون العيد أمام منزلنا، ولا بد أن هذه الأحداث بكل دراميتها لابد أن تكون لها أصداء فى كل مكان. 

بعد وصول هؤلاء إلى أبو زعبل تراكمت الأعداد، وأصبح الوضع لايستقيم أن يكون الاقباط مع الإسلاميين، أحضروا والد خالد الاسلامبولى قاتل السادات فى نفس الجناح الذى أنا فيه، ووضعوه فى اخر زنزانة بالداخل. كنت أتسلل إلى زنزانته متخيلا أني سأستمع منه إلى شيء. كنت أكلمه من النظارة ولا يجيب ولا يتكلم. 

يوم ٢٤ اكتوبر ١٩٨١ تم ترحيلنا إلى سجن وادى النطرون بعد رحلة عذاب ممزوج بالخوف، حيث لانعرف لنا مصيرا أو نهاية، كان معتقلى أبو زعبل فى عنبر ومعتقلى المرج من الأساقفة والكهنة فى عنبر، العنبر كانت به أسرة من دورين ولذا مثَّل هذا انفراجة حيث لم تعد البطانية الممتزجة بالدماء، وصرحوا بالصحف الثلاث، كما أن الكنيسة كانت تحضر كل سبت وأربعاء مأكولات وملابس للأقباط، أما سجن وادى النطرون ففى الصحراء وأنا هنا لا طلت السماء ولا ظللت فى الأرض، نعم أحضرت شنطة ملابس لكن تم توزيعها على من يحتاج لمن جاء بالفانلة والشورت، ولم يتبق لى غير البيجامة الصيفى التي أرتديها، لم اكن محسوبا على الكنيسة فلم تحضر لى شيئا بل لم تتصل بأهلى حتى يرسلوا لى شيئا، كما لم يحسبنى حزب التجمع من بين معتقليه فلم تصلنى أي رسالة أو أى شئ من التجمع، حيث كان لا يهتم بغير القيادات العليا والشخصيات العامة وانا لم أكن قد أصبحت كذلك. دخل علينا الشتاء ونحن فى عنبر مفتوحة أبوابه على فضاء الصحراء ذات البرد القارس، وفى ليلة ليلاء أصبت بدور دوسنتاريا حادة نتيجة لملابسى الخفيفة وكنت أذهب إلى دورة المياه بل قل كنت مقيما فى دورة المياه البلدى التى لا تساعد على الراحة فى مثل هذه الظروف، لم يكن ألم المرض يمثل شيئا مقارنة بحالتى النفسية التى فاقت كل مراحل الألم،  شعرت بالوحدة والغربة والانكسار، فإحساسى وقناعتى أن المرض يتجاوز كل الأمور فى الإطار الإنسانى، وعندها شعرت أنني فقدت آخر حصن نفسى لإحساسي بضياع الإنسانية، شعر المعتقلون بذلك، فقاموا بمواساتى وحاولوا تقديم ملابس لي، رفضت ذلك بإصرار تحديا للموقف الذى أنا فيه، فلا أحد يشعر بى ولا يسأل عنى، لا أسرتى التى لا أعلم ظروفها، ولا الكنيسة التى لم أحسب عليها ولا حزبى الذى لم يسال عنى. 

مرت الأزمة وزادتنى صلابة فى مواجهة الشتاء ببيجامة نصف كم. وقعت أحداث فى وادى النطرون من بعض الأساقفة (الأنبا ويصا مطران البلينا) حيث كان مندفعا فدس عليه أحد المساجين، وكان يرسل معه رسائل لأحد تابعيه فى مطرانيته، ضبط المأمور الرسائل وتصادف وجودى مع المأمور الشرس أثناء استدعاء ويصا، أخذ المأمور فى التعنيف والإساءة لويصا، رفضت هذا حيث كان الجميع يتعامل معى على انى الوحيد السياسى بينهم، مر الموقف حيث كنت أتوقع رد فعل قاس نتيجة لمخاطبتى للمأمور. 

فى ١٧ نوفمبر ١٩٨١ تم ترحيلنا إلى سجن المرج، لم يكن لدى أى متعلقات، أصر المأمور على وضع الحديد فى الأيدي، وتساءلت كيف يمكن أن يحمل السجناء متعلقاتهم وأيديهم مكبلة بالاغلال؟ هكذا كان التفنن فى الإذلال طوال الوقت. 

 وصلنا سجن المرج، كل عنبر فى وادى النطرون أصبح فى عنبر موازي فى سجن المرج، ولكن كان العنبران متواجهين فكنا نشاهد بعضنا البعض ونتحدث طوال الوقت. زادت حالتى النفسية تعبا على تعب، حيث لازلت الوحيد الذى لا يسأل عنه أحد، فى ليلة ٢٤ نوفمبر الساعة الثامنة مساء تم استدعائى للمأمور، كانت المفاجأة أن أسرتى أرسلت لى ملابس بعد ذهابها للحزب الذي رتب لهم زيارة لم تتم بسبب اغتيال السادات. كانت الملابس بها جاكت شتوى وبنطلونا ...الخ. 

صباح ٢٥ نوفمبر ١٩٨١، خرجنا إلى ساحة السجن، كان الحلاق يأتى إلينا كل أسبوع ، وجدت طبيبا من سوهاج يجلس أمام الحلاق، فأمرته أن يقوم لآخذ دوره لأني لم أحلق منذ فترة، كان الأمر غريبا وغير معتاد فقام وهو مستاء. جلست أمام الحلاق وقبل أن اغادر الكرسى تم استدعائى للتحقيق. هنا تكهرب الجو ليس لى فقط ولكن للجميع حيث استبشر الجميع خيرا بعد اغتيال السادات، فلماذا استدعائى للتحقيق للمرة الرابعة، فى الوقت الذى لم يستدعى فيه للتحقيق اى معتقل مسيحى! استدعائي جعل الكل فى حالة نفسية سيئة، حاول البعض إحضار ملابس لي لكني أخبرتهم أن الملابس وصلت فى المساء. ارتديت الجاكت وكان يمكن أن أذهب إلى التحقيق بالبيجامة وبدون حلاقة ذقن.

تم وضع الحديد فى يدى وأنا فى حالة يأس بعد أمل، تذكرت أنى متهم فى قضية شيوعية، حيث كان التجمع يطلق عليه أمنيا "الحزب الشيوعي" رغم أنه يضم الشيوعيين والناصريين والقوميين العرب والتيار الدينى المستنير، ركبت سيارة ربع نقل مغطاة، وجدت ثلاث كوادر شيوعيين مكبلين بالحديد، جلسوا فى جانب وأنا فى الجانب الآخر، لم يتحدثوا معى بل نهروني دون أن أعرف الأسباب. أحسست أن فكرة الاتهام الشيوعى قد أصبحت واقعا لا تخيلا، فلم أعد قادرا على التفكير . 

وصلنا الى أحد ميادين القاهرة الذى لم أتعرف عليه نتيجة لحالة الارتباك، أنزلونى من السيارة وجدت جمعا من الجماهير اصطفوا لمشاهدة المعتقلين غير الوطنيين، وجدت شخص بملابس مدنية ينزلنى من سيارة الترحيلات ويفك الحديد من يدي، ركبت معه سيارة فولكس واجن صغيرة وبجواره فى الكرسى الأمامى، لا أعرف ماذا يحدث؟ ولماذا يتم هذا؟ وإلى اين المصير؟ هل هو طريقى للاغتيال؟ تسارع الأحداث جعل التفكير فى كل شئ وارد.

من سجن المرج لقصر العروبة

ركبت السيارة الفولكس واجن بجوار من يقودها والذى لا أعرف اسمه او موقعة أو مهمته ولا إلى أين نحن ذاهبون. ما شغل تفكيرى وأرهقه هو الانتقال من عربة ترحيلات يتقدمها ويخلفها حرس مدجج بكل أنواع الأسلحة ويداى مكبلتان بالحديد. وفى هذا الوضع وأمام الجماهير وفى أحد ميادين القاهرة يتم فك الحديد وأركب سيارة لا علاقة لها بأنواع السيارات التى ركبتها منذ الاعتقال.

سارت السيارة فى شوارع القاهرة التى بدت وكأنى أشاهدها لأول مرة، فى إحدى الإشارات المرورية تقدم متسول يطلب حسنة داعيا بفك أسرى، تألمت ولم أجب، نظرت إلى الشخص الذى بجوارى وجدت ابتسامة صفراء على وجهه مما زادنى ارتباكا. كان كل تفكيرى هو الخوف من التصفية الجسدية، أو الذهاب إلى حفلة تعذيب مثل التى شاهدتها فى سجن أبو زعبل. وأنا مستغرق فى هذه التخوفات وصلنا إلى مقر المدعى العام الاشتراكى الذى جئتهقبل ذلك ثلاث مرات للتحقيق. ولكن إذا كانت هذه المرة للتحقيق، لماذا لم أكمل بالسيارة التى جئت بها من سجن المرج؟ ولماذا تم فك الحديد من يدى، وقد كنا للحظة دخول غرفة التحقيق يكون فى يدنا الحديد؟ 

توقفت السيارة، نزل الشخص الغامض تركنى بمفردى فى السيارة! ماذا ياربى وما هو المصير بعد كل تلك الأفعال غير الطبيعية وغير المبررة. مر وقت ثقيل.. لماذا تركنى بمفردى هل يقصدون أن أحاول الهرب حتى يكون هناك مبرر للتصفية الجسدية التى تؤرقنى؟ نزل الشخص مع دكتور حلمى مراد (وهو وزير تعليم زمن عبد الناصر، وأول وزير يقدم استقالة ولايقال وكان الأمين العام لحزب العمل الاشتراكى حينذاك) فرحت جدا أن أكون مع هذه القامة السياسية التى كنت أسمع وأتابع مسيرتها حتى ولو كان مايكون، المهم ألا أكون بمفردي.

ركبت فى الكرسى الخلفى وأخذ الدكتور حلمي مكانى فى الكرسى الأمامى، سلم علىَّ ولم أكن قد قابلته شخصيا من قبل. دار حوار بين د. حلمى والشخص الغامض، عرفت من خلاله أنه ضابط وتصادف أن كان د. حلمى أستاذه فى كلية الشرطة (قانون).

مررنا إلى الأزهر ثم العباسية، عندها قال د. حلمى: إحنا رايحين العروبة؟ أومأ الشخص برأسه. لا أعلم ماهى العروبة هذه وماذا بها؟ دخلنا حديقة قصر غناء ومهابة، صعدت السيارة إلى مدخل القصر، وجدت لواء شرطة ممسكا بورقة فى يده فاتحا باب السيارة مرحبا بالدكتور حلمى،  ماذا يا رب؟ هل سأنزل مع د.حلمى ـم سأذهب إلى مكان آخر؟ 

هنا قال اللواء تفضل أستاذ جمال! أستاذ جمال وتفضل من لواء شرطة فى مكان مهاب لا أعلمه؟ كان من الواضح أننا كنا اخر من تنتظرهم المفاجأة. دخلنا صالونا وجدت فيه محمد حسنين هيكل، فؤاد سراج الدين، محمد فائق، أحمد فرغلى، د. ميلاد حنا، صافيناز كاظم، د نوال السعداوي، وغيرهم. سعدت كثيرا لأننى لن أكون وحدى، وفى زمرة الاستقبال والتحية لنا من الجميع فاجأتني السعادة، فمن أنا مع تلك القامات التاريخية؟. 

وأنا فى سعادة لا أعرف لها نهاية، فتح باب الصالون ووجدت فى الصالون المقابل حسنى مبارك رئيس الجمهورية الجديد. لا لا .. لقد زادت الأمور عن حد الاستيعاب. سرنا فى طابور وصولا للرئيس وهو يسلم على كل واحد مبتسما ومرحبا. جلسنا وجلس مبارك أمامنا وبجواره د. فؤاد محى الدين رئيس الوزراء. تحدث مبارك حديثا اتسم بالتلقائية عن السادات، وكيف أنه أخرج وربى التيار الاسلامى لكى يواجه اليسار والناصريين حتى خانوه واغتالوه. أعتذر لنا واصفا الجميع بأننا زعماء وأساتذته، ولابد من الاستفادة بخبرات الحاضرين. تحدث عن تسليم سيناء لمصر في أبريل ١٩٨٢. ثم ساد الجلسة المرح والنكت والقفشات خاصة من المرحوم قباري عبد الله الذى قبض عليه بالشورت فقط لاغير ولم يتمكن الا من ليس حذاء بوت برقبة. وضحك الجميع.

(صورة قرار الإفراج المشروط لـ ٣١ من زعماء المعارضة يوم الاربعاء ٢٥ نوفمبر ١٩٨٢)

خرجنا من القصر، وجدنا وكالات الانباء المحلية والعربية والدولية تأخذ تصريحات من الجميع خاصة من حسنين هيكل الذى كان يتحدث طوال الوقت باللغة الإنجليزية، وجدنا ضباطا فى انتظارنا لتوصيلنا الى أى جهة نريدها. ذهب الجميع إلى سجن مزرعة طره حيث كانوا لإحضار متعلقاتهم، طلبت الذهاب الى. سجن المرج لا لكى احضر متعلقات، ولكن لكى أخذ النقود القليلة التى كانت مودعة بالسجن حتى أتمكن من العودة إلى القوصية. وصلت سجن المرج، دخلت على مأمور السجن فقام قائلا: خذ المعتقل إلى الزنزانة! زنزانة إيه ياعم أنا كنت عند رئيس الجمهورية. قال: لاعلاقة لى بذلك أنت معتقل وخرجت للتحقيق، ولابد أن تعود إلى الزنزانة. قلت للضابط الذى أحضرنى: قول له حاجة، لم يستمع إلى كلام الضابط . لكن المأمور استشعر الحرج فقام بالاتصال برئيس مصلحة السجون الذي قال له: لا أعرف شيئا. الله الله. هنا أصر المأمور على عودتى الى الزنزانة، فقلت له بلهجة عنيفة: لا أنت ولا وزير داخليتك يستطيع إدخالى الزنزانة مرة أخرى. 

أثناء المشادة كان رئيس مصلحة السجون قد شاهد الإفراج فى التلفزيون، حيث كان يذاع طوال اليوم كأحد أهم انجازات مبارك حينها. هنا تغيرت معاملة المأمور وقال: اتفضل مبروك الإفراج. قلت: أريد النقود، فأجاب: الساعة الرابعة والموظف غادر. قلت له: شكرا لا أريد منكم شيئا، ركبت مع الضابط لتوصيلى الى الجيزة حتى أسافر إلى القوصية. عند العباسية لم أرد إتعاب الضابط، فطلبت منه ايقاف سيارة تاكسى لتوصيلى للجيزة،. أوقف تاكسي.. نزلت موقف الجيزة  فلم أجد سائقا من القوصية يعرفنى. كان الدور على سائق من ديروط قلت له أنا خارج من المعتقل ولا توجد معى نقود. فاخذت منه جنيها لسائق التاكسى. 

هنا وجدت تجمعا من حولي، حيث تعرف الناس عليَّ من مشاهدة الإفراج فى التلفزيون، بدأوا يغدقون عليَّ بالشاى والقهوة والترحيب المصرى التلقائى. هذه هى مصر وهذا هو الشعب المصرى الاصيل الذى يظهر دائما معدنه عند الشدائد ووقت اللزوم. 

حدث هذا الترحيب مرة أخرى عند نزولنا فى استراحة على الطريق. وصلت المنزل مساء. كان فى ذات اليوم الذي حصلت فيه زوجتى ووالدتى على تصريح بزيارة تأجلت للمرة الثانية. فعادت زوجتى وامى ظهر ذلك اليوم وهم فى حالة حزن. وعند نزولهم القوصية وفى شارع الرعاية أخذ الناس يستقبلونهم بالتهنئة. هنا تصورت زوجتى أن الأمر هو نوع من التريقة والاستهزاء فالنفوس مشحونة وليست فى حالة طبيعية، وصلا المنزل عندها وجدوا الحشود المنتظرة حيث أن الخبر قد انتشر فى وسائل الإعلام. 

عند وصولى إلى المنزل سلمت على والدى وقبلت يده، كنت أحس بمدى ما سببت له من ألم باعتقال وحيده. شاهدت الدموع فى عيون أبى ومعها نظرة فخر واعتزاز بين قبول النضال ودفع الثمن وبين الخوف على ابنه الوحيد، خرجت من من الزنزانة إلى القصر الجمهورى وكانت مرحلة هامة ومفصلية فى حياتى أسهمت فى تشكيل شخصيتى وفى دورى السياسى الذي تلى ذلك .
-------------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان