25 - 04 - 2024

شاهد على العصر(8) فتنة الزاوية الحمراء واعتقالات سبتمبر

شاهد على العصر(8) فتنة الزاوية الحمراء واعتقالات سبتمبر

بعد زيارة خالد محيى الدين للقوصية وماتبعها  من أحداث استغلت لإسقاط العضوية عن أحمد فرغلى من مجلس الشعب، كانت هذه الأحداث تمثل المرحلة المتقدمة لسياسات السادات والتى بدأت باحتضانه جماعات الإسلام السياسى وعلى رأسهم جماعة الإخوان، حيث كان هذا الاحتضان يهدف إلى إنهاء التواجد الناصرى واليسارى في الساحة السياسية، قاصدا أن يكون نظامه معتمدا على الشرعية الدينية. 

ولذلك شاهدنا تبنى السادات لمحمد عثمان اسماعيل محافظا أسيوط وتبنى عثمان سياسة انشاء وتقوية تيار الإسلام السياسى فكانت أسيوط هى العنوان الأول والأهم فى كل احداث الفتنة الطائفية فى ذلك الوقت، وظهر ذلك فى جامعة أسيوط التى سيطرت عليها الجماعة الإسلامية وكانت هى التى تحكم الشارع بكل ما تحمل الكلمة من معان بعيدا عن القانون والدولة، حتى أن السادات جاء إلى أسيوط وكان يوم أحد السعف للأقباط وتكلم عن هذه الأحداث بشكل تبريرى بعيدا عن أي حسم. 

وسمعت أن هناك شعارات وهتافات تملأ الشوارع (لا مسيحية ولايهودية إسلامية إسلامية)، ولم أكن قد سمعت هذه الهتافات فى القوصية بالرغم من وجود الإخوان .

هذا المناخ وتلك الأحداث خلقت شرحا عميقا بين نظام السادات وبين المعارضة بكل منابعها الفكرية والسياسية، حيث أن صحف الأحزاب جميعها كانت معارضة وبشدة لتلك السياسات التى تنذر بالخطر كل الخطر. 

وفى ظل هذا التوتر كانت هناك تحركات فى مجلس الشعب يقودها صوفى ابو طالب رئيس المجلس لتطبيق الشريعة الإسلامية، الشيء الذى جعل البابا شنودة يتحرك ويدعو إلى الصلاة والصوم الانقطاعى للأقباط بل ألغى الاحتفال بعيد القيامة وذهب إلى دير وادى النطرون معترضا ورافضا لهذا القرار طالبا عدم تطبيق الشريعة على الاقباط وتطبيقها على المسلمين فقط. 

هنا تحرك التيار الاسلامى بكل فصائله للتشهير بالبابا واتهامه بتهم تثير حفيظة المسلمين، وكانت خطبة السادات فى ١٥ مايو ١٩٨١ بمناسبة مايسمى عيد ثورة التصحيح التى قضى فيها السادات على رجال عهد عبد الناصر. 

فتح السادات النار على شنودة فى هذا الخطاب، فاتهمه بأنه يريد إقامة دولة للأقباط فى أسيوط، وان شنودة لا يكتفى بزعامته الدينية للأقباط ويريد أن يكون زعيما سياسيا لهم، وأضاف: وأنا اقول ليعلم شنودة أننى رئيس مسلم لدولة مسلمة، وزاد السادات من وتيرة الهجوم فتطورت اتهاماته إلى الاقباط أنفسهم، بأن قال إن هناك معلومات بالقبض على ثلاث أقباط مصريين فى لبنان يحاربون مع الميليشيات المارونية والتى كانت متهمة بالعمالة لإسرائيل أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.

هنا تكهربت الأجواء وعاشت مصر كلها أجواء طائفية غير مسبوقة وبامتياز، حيث كان هناك تواجد للإخوان فى الشارع لايشاركها فيه أحد، ويمكن أن نقول أن تيار الإسلام السياسى هو الذى كان يحكم بالفعل. فى تلك الاجواء ويوم ١٧/٦/١٩٨١ وفى حى الزاوية الحمراء وهو حى شعبى يوجد فيه أقباط من أصول صعيدية ويمتلكون الأموال والمشروعات، كان هناك خلاف على قطعة أرض بين قبطى يريد بناء كنيسة، فتم إقامة مصلية فى المكان مما كرس المناخ الطائفى فى وسط لا تبعد عن قناعاته عادة الأخذ بالثأر.

بدأت مشكلة بين شاب قبطى وأحد المصلين فى المصلى، وأجج الإخوان الوضع بالخطب فى المساجد لإثارة الجو، تحولت المشادة إلى معركة في إطار طائفي لم تشهدها القاهرة من قبل، تم اتلاف ١٧١ مكانا من الاماكن الخاصة والعامة. وكذلك سرقة ونهب محلات الذهب. وصرح وزير الداخلية حسن ابو باشا حينذاك للأهرام الدولى بأن القتلى كانوا ٨١ من الأقباط و٧ من المسلمين (مقال حدث ذات يوم لسعيد الشحات). 

حاولت أن أذكر بهذه الأحداث العامة حيث أنها ستكون الشرارة للأحداث الدراماتيكية فى مصر بعد ذلك، فى ظل هذا المناخ أخذت المواقف تتصاعد بين النظام وبين كل فصائل المجتمع . مع الأحزاب والكنيسة والإخوان والتيار الاسلامى حيث كان السادات قد أدرك متأخرا أن التيار استطاع تحريك الشارع ضد السادات شخصيا، بل كانت هناك محاولات لاغتياله. 

بعد أحداث الزاوية الحمراء عقد حزب التجمع اجتماع لجنته المركزية، والتى كانت تناقش مجمل الوضع السياسى الملتهب وطرح موقف البابا شنودة المعتكف فى الدير. اقترح د. رفعت السعيد تشكيل وفد لزيارة البابا فى وادى النطرون. اتخذت اللجنة المركزية قرارا بتشكيل الوفد من الاستاذ خالد محيى الدين ود. إسماعيل صبرى عبد الله ود. فؤاد مرسى والأستاذ لطفى الخولى ود. ميلاد حنا وجمال اسعد. كان يوم الاجتماع الجمعة والمقابلة يوم الاحد، ذهبت فى سيارة ميلاد حنا مع سائقه الخاص أثناء الاجتماع الساعة الواحدة ظهرا إلى وادى النطرون ومعى خطاب من الحزب بطلب المقابلة لتسليمه للبابا. تقابلت مع البابا وسلمته الخطاب ابلغنى شكر الحزب على هذا الموقف. 

عدت إلى القاهرة يوم السبت وكل مانشتتات الصحف يومها تنشر خبر أن البابا يريد أحداث فتنة طائفية فى مصر وأنه يحرض الأمريكان وأقباط المهجر ضد البلاد. هنا أدرك الحزب أن الأمور قد أصبحت على فوهة بركان، ظللنا ننتظر قرارات كارثية وفق كل التحليلات والدراسات، فكانت التصورات المتشائمة لانهاية لها. بالفعل كانت قرارات سبتمبر ١٩٨١ والتى اعتقل فيها السادات ١٥٦٣ معتقلا من كل الاتجاهات السياسية والدينية، سياسيين وصحفيين، مسيحيين ورجال دين اسلامى، مع ناشطين من التيار الاسلامى بكل فصائله. تمت عمليات القبض ابتداء من مساء ٣ سبتمبر. فى هذا المناخ، كان من الطبيعى أن أتوقع أن أكون أحد المعتقلين. جهزت شنطة الملابس (وكنت الوحيد الذى أخذ معه شنطة)، تم اعتقالي يوم ٤ سبتمبر، كان يوم جمعة وكنت فى شارع الجلاء بالقوصية، وفى أحد المحلات جاءوا وألقوا القبض على.

الى سجن استقبال طرة

قبلها بيوم واحد طلبت من زوجتى أن تأخذ الأولاد هايدى وماريان وجون (٦ سنوات و٥ سنوات و ٣ سنوات) إلى منزل والدها للمبيت حتى لا ينزعج الأولاد عند القبض عليّ مثلما حدث فى المرة السابقة وأن تجهز شنطة للملابس. باتت زوجتى والأولاد خارج المنزل، يوم الجمعة 4 سبتمبر١٩٨١ تم القبض على فى شارع الجلاء وصحبونى إلى مركز الشرطة، جلست فى غرفة المأمور واتصلت بالمنزل من التليفون الارضى وكان بجوارى شرطى. ردت ابنتى هايدى قلت لها خللى ماما تبعت الشنطة مع أي حد. قالت هايدى أنت رايح فين يابابا؟ قلت لها: القاهرة ياحبيبتي، قالت متنساش تجيبلى حاجة حلوة معاك. هنا لاحظت الدموع فى عيني الشرطي، تأثرت جدا وتماسكت. 

بدأ الاستعداد للترحيل، تم وضع الحديد فى يدى وركبنا سيارة شرطة من الخلف وكانت سيارة  حراسة وراءنا، عند مرورنا فى شارع الجلاء بالقوصية مرت السيارات أمام كشك محروس موسى (وهو قارئ ومثقف) ورفع يده لى بعلامة النصر قائلا: ربنا يستر عليك .  

ذهبنا إلى معسكرات تدريب الشرطة عند قرية بنى مر، أدخلوني عنبرا وجدت به المقبوض عليهم من المسيحيين، وكان هناك عنبر آخر للمسلمين. في اليوم التالي خرجنا للترحيل، ووجدت لواء شرطة يقول لى اطلع السيارة يازعيم الشيوعيين. ركبنا السيارة مسيحيين مع مسلمين وكانت سيارة ضخمة بلا مقاعد حتى التصقت أجسادنا، وكان لهذا الالتصاق فائدة حيث حمانا من السقوط على أرضية السيارة. فى الطريق توقفت الحملة المكونة من عدة سيارات تتبعها سيارات حراسة مختلفة الأشكال، طلبنا أن نأكل أي شيء حيث لم نتناول الطعام منذ ظهر اليوم السابق. وافق الضابط أن يحضروا لنا كل واحد رغيفا وقرص طعمية بفلوسنا. وصلنا إلى منطقة سجون طرة ونحن فى حالة إعياء، حيث لا نوم ولا أكل ولاراحة نفسية، كما أننا لا نعلم ماذا حدث وماذا سيحدث؟ 

نزلنا سجن الاستقبال وكنا أول معتقلين نفتتح هذا السجن، تم اسقبالنا استقبالا يليق. الشتيمة والإهانة بكل الألفاظ والأساليب، وأنا داخل من باب السجن الذى لايسع غير فرد واحد وجدت بالداخل ضابطا يضربنى على صدرى بعنف شديد قائلا: ادخل ماتتمنظرش علينا. استغربت كيف هذه المنظرة وأنا بيدى حديد الكلابش وألبس جلبابا (قصدت ذلك حتى أستطيع النوم فى أي مكان وبأى طريقة). أجبرونا على خلع الملابس كاملة (مثلما ولدتنا امهاتنا)، أخذوا ما معنا من نقود وبالطبع شنطة ملابسىى المتفردة حيث كنت الوحيد تقريبا الذى أخذ معه شنطة ملابس. تم توزيعنا على الزنازين. هنا كانت المفاچاة حيث تم حبسى حبسا انفراديا. الزنزانة لايوجد بها غير مرتبة اسفنج متهالكة وقديمة وسمكها لايتعدى ٣ سم، وجردلا لقضاء الحاجة وطبقا من الألومنيوم. شعرت بحالة قنوط وفقدان كل أمل، حيث أن وجود زملاء معى الليلة الماضية أثناء الترحيل خفف عني كثيرا. 

وقفت على الجردل لأتمكن من رؤية الخارج من نظارة علوية فى الباب، أدركت أنهم حبسوني انفراديا لأننى المسيحى الوحيد بسجن الاستقبال، فالمسيحيون رحلوا إلى سجن ابو زعبل، ولذا أصبحت مع المعتقلين من التيار الاسلامي، وقد شاهدت الشيخ كشك مارا من أمامى مرددا باستمرار كلمة السلام عليكم دون تحديد حيث أنه لايرى، رددت مساء الخير حيث لم أكن معتادا على السلام عليكم، توجه إلى صوتى منتهرا وقائلا أقول لك السلام عليكم، لا أقول المساء والصباح. اخذت استمع الى هتافات تهز الكون (لامسيحية ولايهودية إسلامية إسلامية) مع هتافات تسيء للأديان غير الإسلام. انتابتنى حالة رعب وخوف حقيقى حيث أننى لم أكن قد عشت بشكل مباشر أو شاهدت مثل تلك الهتافات فى القوصية. ظللت واقفا على الجردل أستمع لما يحدث، كانت مصر قد انتشرت بها إصابات قليلة بالكوليرا حينذاك. لاحظت أن الهتافات بدأت تطلب العون الطبى حيث أن هناك حالات إسهال متعددة فى أكثر من زنزانة، ورد إلى ذهنى فورا احتمال أن تكون هذه الإصابات مقصودة للتخلص منا بشكل غير مباشر. وأنا فى هذه الحالة النفسية السيئة أصابتنى حالة إسهال شديد. هذه الظروف فى يومى الاول من الاعتقال جعلتنى فى أسوأ لحظات حياتى، توقعت الوفاة وكان كل همى وتفكيرى فى أولادى الذين لاعائل مادى لهم سواي. وقفت على الجردل، مر من أمامى فريد عبد الكريم وهو من القيادات الناصرية التى تم القبض عليهم كواحد من مراكز القوى وقضى فى السجن عشر سنوات. خرج قبل القبض عليه معنا بثلاثة شهور ثم أعادوا اعتقاله، كان يلبس عباءة ويمشى الهوينى واثقا من نفسه، ولأنى أعرفه شكلا، كما أنه ناصري ، ذلك أعطانى ثقة فناديت عليه وقلت له عندى إسهال ماذا أفعل؟. 

قال لى أنت من أين؟ قلت من أسيوط، قال أجدع ناس، تركنى وذهب ليحضر لى أقراص للإسهال (سيكون لها أمر آخر فيما بعد). هذا الموقف أراحنى إلى حد ما، حيث تأكدت أن معى أحدا من غير الجماعات الإسلامية. أخذت الهتافات تزداد وتشتد وتم استعمال الأطباق الألومنيوم فى الطرق على أبواب الزنازين من الداخل، ولأن المكان جديد والأصوات ترن، تحول الأمر إلى زلزال بالفعل مما أزعج مأمور المعتقل، فطلب السكوت، ولكن من يسمع ومن يستجيب؟. 

طلب المأمور تكوين مجموعة تنوب عن المعتقلين للتفاهم مع المأمور، تم تشكيل اللجنة للحوار وحاول المأمور تهدئة المعتقلين حيث أن الأمور عادية والعلاج موجود. أيقنت أننى لا أستطيع الاستمرارفى هذا الوضع واستغلالا لما يحدث طلبت مقابلة المأمور، جاء المأمور بالفعل أمام الزنزانة، قلت له أننى سياسى وأريد أن أكون مع السياسيين لا مع الإسلاميين، قال لى سنبحث الأمر. 

اعتبرت أن هذا لن يحدث، قضيت الليلة ولا أعلم كيف مرت، أفكار متدفقة لا نهاية لها، إحساس بالظلم، خوف على أولادي، الأهم إحساس بلا نهائية الوضع. فى اليوم التالى جاء المأمور قائلا لا يوجد أماكن مع السياسيين، يوجد مع المسيحيين. اعتبرت أن هذا حل بدلا من اللا حل. 

يوم الاثنين ٦سبتمبر١٩٨١ تم ترحيلى، لم أكن أعلم إلى أين؟ أخذونى إلى مكتب ضابط فى مجمع سجون غير سجن الاستقبال، جلست على مقعد مقابل المكتب، تحدثنا فيما حدث، توسمت خيرا فى هذا الضابط وكان يتناول كوبا من الشاي، طلبت منه كوب شاى فقال لى اسف، صعبت عليّ نفسى وأدركت أن الأمور أكبر مما أتوقع. 

ركبت فى سيارة الترحيلات الكبيرة بمفردى وفى يدى الحديد، لا أستطيع الإمساك بأى شيء فلا يوجد شيء. أخذت السيارة تقذفنى إلى الأمام وإلى الخلف حتى أنى سقطت على أرضيتها مما أحدث خدوشا فى جبهتى، وحاولت القيام بصعوبة حيث الحديد فى يدى لايترك لى فرصة لهذا. وصلنا سجن ابو زعبل، تم الاستقبال المعهود وعلى مستوى أكبر من سجن الاستقبال. تم التفتيش بخلع الملابس بالكامل كنوع من الإذلال وأودعت زنزانة فى سجن التجربة. 

إلى سجن أبو زعبل

بعد رحلة مرهقة ومؤلمة وصلنا إلى سجن ابو زعبل. تم استقبالى كما يليق بالاهانات والشتائم ومد اليد على ما قسم، تفتيش ذاتى تكرر مرات ومرات أخلع فيه ملابسى بالكامل، تم استلام المتعلقات من نقدية وملابس، أودعونى فى سجن التجربة، يطلق عليه سجن السجن. أي يودع ويسجن فيه المساجين الموجودين بالسجن عندما يقترفون أخطاء أو جرائم.

بناه الإنجليز على شكل عنبرين شمال ويمين، كل عنبر أربعة عشر زنزانة تغلق على كل عنبر بوابة حديدية وتغلق على البوابتين بوابة ثالثة، الزنزانة مساحتها متران في متر. يوجد بها حنفية وحوض مياه ولكل معتقل جردلا لقضاء الحاجة. تسلمت بطانية قديمة وممزقة وعليها آثار دماء آدمية، تقززت بل ارتعبت أن أنام على هذه البطانية وبالطبع كانت المخدة هى حذائى الذى قام بهذه المهمة طوال وجودى فى أبو زعبل، كانت الزنزانة رقم ١٤ والتى كان مسجونا فيها شعراوى جمعه وزير الداخلية ضمن مراكز القوى. وجدت فى الزنزانة أربعة أشخاص من الصعيد بتهمة إثارة الفتنة الطائفية، كان من المستحيل أن ينام خمسة أشخاص فى هذه المساحة. فكان ثلاثة ينامون أرضا واثنان ينامان جلوسا. لم أكن أعلم أي أخبار عما يجري فى الخارج، كانت أول زنزانة ناحية البوابة يجلس أمامها الحرس من الضباط وضباط أمن الدولة الذين كنا فى عهدتهم وليس فى عهدة إدارة المعتقل. استمعت إلى أصوات تحت نافذة الزنزانة حيث كان معهم راديو ترانزستور.  

وضعت الجردل وصعدت فوقه حتى أكون قريبا من النافذة الوحيدة التى تطل على مكان جلوس الحرس، استمعت إلى مقتطفات من خطاب السادات الذى ألقاه فى مجلس الشعب يوم ٥ سبتمبر، وعرفت أنه سجن مصر كلها، بل أخذ السادات يكيل الشتائم والسباب للجميع (البابا شنودة.الشيخ المحلاوى. حسنين هيكل. فؤاد سراج الدين..الخ). 

هنا أدركت خطورة الموقف وأن السادات تصرف بجنون وعصبية لايعلم نتائجها غير الله، ولذا انتابتنى حالة يأس حقيقى لإحساسى أننى لن أغادر المعتقل ولن أخرج لأولادي، تمنيت أن يحكم عليّ ولو بالمؤبد حتى اعلم أن هناك تاريخا للخروج. عرفت أن باب الزنزانة لا يفتح غير خمسة دقائق فى الصباح الباكر للذهاب إلى دورة المياه المجاورة الزنزانة، خمسة دقائق لخمسة أشخاص يقضون حاجتهم أي عليك أن تقضى حاجتك فى دقيقة واحدة مع العلم أن هناك استحالة التبرز فى الزنزانة فالبول يصرف فى حوض المياه، ثم تغلق الزنزانة ولا تفتح إلا عند رمى الأكل أرضا مرتين فى اليوم وفى مواعيد غير معلومة بالمرة. ففى يوم أكلنا الرغيف ووجبة الفول أو العدس فقط الساعة الثانية ظهرا، جاءت الوجبة التالية الساعة الثالثة ظهر اليوم التالى أي لم نر الطعام طوال خمسة وعشرين ساعة. لا تفتح الزنزانة بعد ذلك إلا بعد الثالثة ليلا، وعند فتح البوابة الرئيسية وسماع صوت السلاسل والمفاتيح وهى تصدح فى سكون الليل تكملة لفتح البوابة المباشرة للجناح انتظارا لفتح باب الزنزانة، نقوم مذعورين يتملكنا الخوف من المجهول ذلك المجهول الذى لم يغادرنا إطلاقا طوال مدة ابو زعبل، بعد فتح الزنزانة نؤمر بالخروج الى الصالة المواجهة للأربع عشرة زنزانة. 

يتم خلع الملابس بالكامل فى هذا التوقيت تحت مسمى التفتيش وهو بالقطع بهدف الإذلال لا غير . فهل يمكن أن يجد  النوم طريقا لعيوننا بعد ذلك؟ ظللنا فى هذه الحالة البائسة وغير الإنسانية والتى يكملها الناموس الذي كأنه رُبِّي لأداء مهمة يعلمها، فالناموسة لاتخرج بغير الدماء، حتى أننى أصبت بحالة نفسية حتى الآن من صوت الناموس فقط !. 

ليلة السبت ١٨ سبتمبر وفى الثالثة فجرا، سمعت أصوات البوابات والزنازين تفتح، تصورت أنه تفتيش، فتح الزنزانة ضابط اسمه مجدى كان لاعلاقة له بأى إنسانية ولا أخلاق يستحسن ويعشق التعذيب، قال: جمال اسعد أخرج بره حبس منفرد. لماذا المنفرد؟ أجبت  فقال لي: إنك متهم فى قضية التفاحة. سألت: وماهى التفاحة هذه؟ قال: هى قضية تجسس لصالح الاتحاد السوفيتى. 

أودعنى زنزانة فى الجناح الآخر الذى كان قد رحل إليه أبو العز الحريرى وقبارى عبد الله، وهما زملاء لى فى حزب التجمع مع عبد العظيم مناف. طبعا لم استطع الحديث معهم مثل ماكنت أفعل عند خروجى لدورة المياه لكى استفسر عن قضية التفاحة هذه. 

دخلت الزنزانة بمفردي، دارت بى الدنيا وتملكنى اليأس وسيطر على الإحباط ، كنت غير مستريح أن أكون مع المسيحيين حيث أنى لا أقبل أن أتهم بالفتنة الطائفية، فما بالك الآن وأنا متهم فى قضية تجسس؟ تباطأ الوقت وأظلمت الحياة ولم أعد أرى أى بصيص أمل، فقد ضاعت حياتى السياسية التى أشرف بها بل أشرف بالاعتقال بسببها، فهل هذه هى النهاية، أكون جاسوسا وخائنا؟ 

مرت الثوانى وكأنها دهر، تباطأ الصباح وتأخر ضوؤه وكنت أنتظر هذا الضوء وكأنه المنقذ. في الثامنة صباحا أخرجونى من الزنزانة وجدت رئيس مصلحة السجون ينتظرنى قائلا: أنت خطير للدرجة دى؟ أنت أول معتقل يذهب للتحقيق. اشرف اللواء على حلاقة ذقنى فلم أحلقها منذ الاعتقال، ركبت السيارة والحرس أمام وخلف السيارة وصولا إلى مقر المدعى الاشتراكي. 

دخلت التحقيق وأنا خائر القوى وكأنى داخل إلى غرفة الاعدام، فتح التحقيق وفوجئت أن التهم هى محاولة إفشال الاستفتاء الذى اعتقلت سابقا بسببها وتهمة أننى ضد كامب ديفيد وكتابة مقالات تسئ إلى رئيس الجمهورية. هنا أحسست أننى قد عدت إلى الحياة فلا جاسوسية ولا طاىفية بل تهم سياسية وهذا عظيم. استمر التحقيق ثلاث ساعات، عدت إلى أبو زعبل وكانى قد أفرج عني. ارتفعت حالتى المعنوية، وكان كل صباح يمر من يدخل دورة المياه أمام الزنزانة ليسالنى كسياسي متى الخروج؟ فهم لا علاقة لهم بالسياسة بل لاعلاقة لهم بأى شيء.

كنت أتعامل مع المعتقلين خاصة صغار السن بطريقة تريح أعصابهم، جاء عيد الأضحى وسمعنا أن هناك أمرا بالزيارة، هنا سرت الدماء فى عروقنا وأخذت النفسيات تهدأ والخيال يتسع على من الذى سيزورنا ومن سنرى من الأهل والأولاد؟ وفى لحظة تعيسة سمعنا خبر إلغاء الزيارة. تملكنى القرف فما السبب فى الإلغاء؟. 

ليلة  ٧ أكتوبر١٩٨١ حاولت كالعادة الاستماع إلى ضباط الحرس فكانت المفاجأة المذهلة وهى اغتيال السادات. تملكنى  الخوف أكثر من الفرحة، فمن الذى اغتاله؟ اليسار وما سيفعل بنا؟ التيار الاسلامى.. فماهو الوضع فى الخارج الآن ؟ وما مصير الأولاد وماذا تم معهم، خاصة إذا كان الفاعل الجماعات الإسلامية؟ كلها أسئلة لانهاية لها تربك ولا تريح. تأكد الخبر من سماع صوت المساجين الذين يمارسون الحياة فى السجن بمشاهدة الكرة والتلفزيون، وهم يتحدثون عن اغتيال السادات. هنا كانت مرحلة أخرى.
-------------------------
بقلم: جمال أسعد عبد الملاك

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان