25 - 04 - 2024

شاهد على العصر(7) انقلاب السادات على نهج عبدالناصر

شاهد على العصر(7) انقلاب السادات على نهج عبدالناصر

بدأ السادات عهده بتبجيل وتكريم عبد الناصر، لدرجة أنه عندما اقسم القسم الجمهورى فى مجلس الأمة كرئيس للجمهورية وقف أمام تمثال لعبد الناصر وانحنى للتمثال احتراما، كان ينعته فى خطبه بالمعلم والقائد والزعيم وأنه لا طريق له ولا سياسة غير طريق وسياسة ناصر. كان هذا طبيعيا نظرا لشخصية عبد الناصر وكاريزماه الطاغية والتى ظهرت أثناء التنحى وعند الجنازة. 

كانت الحرب وتحرير الأرض هى القضية الأولى والأخيرة للشعب المصرى بل للشعوب العربية، لكن ما لبث أن تخلص السادات من نظام عبد الناصر بالقبض على الوزراء والكوادر الناصرية فى الوزارة والمؤسسات جميعها تحت مسمى أنهم مراكز قوة وأنهم كانوا يخططون لانقلاب ضده ووضعهم فى السجون، وتحت ضغط الشارع دخل السادات المعركة معتمدا على التغييرات الجذرية التى حدثت فى الجيش وعلى خطة الهجوم واقتحام قناة السويس عن طريق المضخات تلك الخطة التى وضعت قبل وفاة عبد الناصر. انتصر الجيش المصرى بسواعد أبناء مصر وبصلابة الجبهة الداخلية والتضحيات الغالية التى قدمها كل المصريين . 

بعد نصر أكتوبر كان من الطبيعى أن يعتمد السادات على شرعية الانتصار، وأخذ يعلن عن سياساته وخططه التى تتناقض كل التناقض مع نظام يوليو شكلا وموضوعا. 

كانت البداية هي قانون الاستثمار تحت مسمى الانفتاح الاقتصادى الذى أطلق عليه أحمد بهاء الدين (الانفتاح السداح مداح)، هنا كانت الحملات ضد عبد الناصر تصورا أنها ستنسى الناس ناصر حتى يأخذ السادات وضعه كخليفة له وليس ظلا. أصبحت سياسات نظام السادات لا علاقة لها بنظام يوليو من قريب أو من بعيد، السادات الذى أعلن بأنه سيسير على طريق ناصر أصبح بالفعل يسير عليه باستيكة لكى يمسحه. هنا كان الاتحاد الاشتراكى هو التنظيم الأوحد ولكنه كان يضم مجموعه ممن هم مع كل الأنظمة، سايروا نظام السادات خاصة أنهم اعتمدوا على إعادة تشكيله بطريقة قبائلية من أمثال محمد عثمان اسماعيل الذى ساند السادات فى مواجهة ما سمى بمراكز القوة، اما منظمة الشباب فكانت تنظيما يعتمد على التربية السياسية والتثقيفية منهجا وفكرا، ورغم تصفية بعض كوادرها فى ١٥ مايو ظلت المنظمة متمسكة بايدلوجيتها المعتمدة على الاشتراكية العربية التى أرساها ناصر، أغلقت المعاهد الاشتراكية فى المراكز والمحافظات وظل معهد حلوان المركزى. 

كانت هناك دورة لإعداد موجهين سياسيين، رشحت للدورة واخترت ضمن خمسة عشر موجها من خمسمائة دارس وتفرغنا من أعمالنا تفرغا كاملا كموجهين سياسيين، كان معنا فى هذه الدورة فى حلوان الأديب إبراهيم عبد المجيد وسيد عبد العال رئيس حزب التجمع. كنا فى الصيف نقيم معسكرات عمل فى الوادى الجديد بمنطقة الزيات بين الخارجة والداخلة وكان إبراهيم شكرى محافظا للوادى. عملنا فى عمليات التعمير فى مدن القناة بعد أكتوبر، وفى الدخيلة ووادى النطرون لجمع العنب والبطيخ وفى المساء محاضرات سياسية ثم سمر. 

اما الدورات السياسية فى حلوان فكانت عشرة ايام تضم دارسين على مستوى الجمهورية، ومن جميع المهن والأعمال شباب وشابات، وكان ضمن مجموعتى كموجه  بعض أبناء القوصية مثل الصديق كمال جبر والمرحوم محمد عبد الحفيظ رميح . 

فى صيف ١٩٧٥ زارنا فى حلوان كمال شاتيلا رئيس الحزب الناصرى اللبنانى (لازال رئيسا للحزب ونلتقى فى مصر ولبنان) وشرح الموقف اللبنانى الذى كان قد أصبح على شفا حفرة، وأكد شاتيلا أن لبنان فى طريقها لحرب أهلية مؤكدة وبعد ثلاثة شهور كانت الحرب الأهلية اللبنانية التى استمرت من ١٩٧٥ إلى ١٩٨٩.

فى معهد حلوان كان يأتى دارسون من بلاد عربية تتوافق أنظمتهم مع الاشتراكية العربية، فكانت دورة من قيادات سياسية سودانية ومعهم فى الدورة دارسين مصريين لترسيخ التوافق العربى، وفى ليلة وكنت مسؤولا سياسيا عن المعهد جاءنى خبر أن أحد الدارسين من جنوب السودان صعد على الدور الثانى من الأسرة التى ينامون عليها وأخذ يقرأ اصحاحات من الانجيل فى العنبر الذي ينام فيه مسلمون ومسيحيون. أسرعت إلى العنبر واستدعيت الدارس وكان يتكلم العربية بصعوبة وسألته ماذا فعلت؟ فوجئت أنه مندهش لاستغرابي قائلا ماذا حدث؟ أنا بالفعل اقوم بالتبشير لمن يريد أن يؤمن. فقلت وهل بهذه السهولة ؟ قال ولماذا فأنا مسيحى ووالدتى مسلمة ووالدى وثنى (يؤمن بديانات قبلية أفريقية). هنا أسقط فى يدى وظللت متسائلا عن أوضاع لم أكن أعلمها من قبل، ودار حوار طويل عرفت من خلاله بعض العادات والتقاليد الأفريقية التى لا علاقة لها بأى دين إسلامى أو مسيحى. 

فمثلا عند الزواج يلتقى الولد والبنت ويتعارفان ويقومان بالتجربة الجنسية سويا، وإذا اقتنعا يعلنان للأهل الموافقة على الزواج، تقدم العروس المهر للعريس على هيئة عدد من رؤوس الماشية حسب القدرة المالية،  تقام الافراح عند العروسة لأسبوع واليوم الاخير عند العريس، إذا حدث الطلاق تعود الزوجة إلى بيت أهلها ومعها رؤوس الماشية التى قدمت مع ما توالدت من ماشية طوال مدة الزواج. 

كانت دورة سياسية غريبة حتى أننى عند زيارتي للسودان عام ١٩٨٦ فوجئت بأحد الوزراء حينذاك يخبرني أنه كان ضمن الدارسين فى هذه الدورة، عند ذاك لم يحتمل نظام السادات ما يتم توجيهه سياسيا فى المعهد بحلوان، حاول السادات عن طريق تعيين شاب أمينا للشباب وهو عبد الحميد حسن الذى حاول احتواء الموقف فلم يستطع، فقد كان تلميذا لأغلب الموجهين الذين لم يستطع إقناعهم. 

وفى أحد الدورات حضر حسنى مبارك نائب رئيس الجمهورية ومعه د. رفعت المحجوب (الأمين العام للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى، وكان المحجوب هو من صك تعبير القطط السمان على تجار الانفتاح الساداتي). حضر مبارك والمحجوب لتخريج الدورة فاستقبلهم الدارسون بأغانى عبد الناصر (ياجمال ياحبيب الملايين .. ياجمال يامثال الوطنية. . وهتاف ناصر ناصر ناصر)

تكهرب الجو وبدأ المحجوب فى إلقاء كلمته، ثار الدارسون وارتبك المحجوب فقال فى الكلمة (الحمار الديمقراطى بدلا من الحوار الديموقراطي)، حاول مبارك إلقاء كلمته فتعالت الاصوات والهتافات لناصر، انتهى المؤتمر وغادرا المعهد ووراءهم الدارسين يهتفون ويغنون، هنا قد وصلنا لآخر الخط مع نظام السادات، ولذا كان قرار حل الاتحاد الاشتراكى ومنظمة الشباب الاشتراكى استعدادا لاعلان ما يسمى بنظام المنابر السياسية . 

(صور من معهد حلوان مع دارسين ودارسات وموجهين)

المنابر والأحزاب

تم حل الاتحاد الاشتراكى العربى وكذلك منظمة الشباب الاشتراكى، وكان البديل هو إعلان المنابر السياسية. سميت منابر وليس أحزابا على اعتبار أن هذه المنابر هى منصات داخل الاتحاد الاشتراكى تعبر عن تعددية الآراء داخل الحزب الواحد. تم تقديم عشرات الطلبات لتكوين هذه المنابر حتى وصل العدد إلى أكثر من أربعين منبرا، اختار السادات ثلاث منابر، منبر يعبر عن اليمين باسم منبر الأحرار برئاسة مصطفى مراد (من الضباط الأحرار- الصف الثانى)، منبر الوسط باسم مصر الاشتراكى برئاسة ممدوح سالم (رئيس الوزراء وكان محافظا لاسيوط ثم الإسكندرية ثم وزيرا للداخلية)، منبر لليسارباسم التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى برئاسة خالد محيى الدين (عضو مجلس قيادة ثورة يوليو). 

وكان لكل منبر مقر فى مبنى الاتحاد الاشتراكى العربى على كورنيش النيل فى القاهرة، أى أن الاتحاد باق شكلا ويضم المنابر الثلاث كمظهر للتعددية الديمقراطية الموجهة، كان من الطبيعى بتكوينى السياسى الاشتراكى الناصرى أن أكون يساريا فى المقام الأول فى إطار هذه التربيطة السياسية المصنعة، هنا زارنى فى المنزل الأستاذ إبراهيم خلاف (من بوق مركز القوصية، يعمل بالاهرام، ماركسى من الرعيل الاول، حكم عليه فى الخمسينيات بالسجن عشر سنوات، قال للقاضى قبل النطق بالحكم: طلع الحكم من الدرج يادلدول). عرض على الانضمام لمنبر اليسار وقد كنت أنتظر هذه اللحظة فوقعت استمارة الانضمام، حضرت المؤتمر الأول للمنبر فى القاعة الرئيسية فى الاتحاد. 

شاهدت والتقيت فى المؤتمر كل الرموز والقامات السياسية التاريخية وعلى رأسهم خالد محيى الدين ورفعت السعيد واسماعيل صبرى وفؤاد مرسى ويحيى الجمل ...الخ، وقامات فنية منها صلاح ابو سيف ويوسف شاهين وعبد الرحمن أبو زهرة ومحسنة توفيق..الخ . وقامات صحفية مثل لطفى الخولى ومحمد عودة ..الخ، وكثير من الشخصيات العامة التى يشار إليها بالبنان. 

انبهرت بالموقف وأحسست بالنقلة النوعية فى ممارسة السياسة، خاصة أنه قد اتيحت لى فرصة التحدث فى هذا المؤتمر مما ولد لدي احساس وثقة فى النفس، وهذا هو الطريق الصحيح والحزبي لتربية الكادر السياسى، خاصة عندما ذهبت للسلام على خالد محيى الدين الذى حيانى وشجعنى. 

تحولت المنابر إلى أحزاب سياسية ثلاث بنفس الاسماء وذات القيادات فى نوفمبر ١٩٧٦، ولكن أعطى حزب الأحرار والتجمع مقار خارج مبنى الاتحاد الذى استولى عليه حزب مصر العربى الاشتراكى والذى أخذ عمليا مكان الاتحاد الاشتراكى العربى من حيث العلاقة واللهاث وراء السلطة، أى سلطة . 

تربيت حزبيا فى التجمع على أيدى كوادر ورموز سياسية وتاريخية سواء من الماركسيين أو الناصريين أو القوميين العرب، لأن فكرة التجمع كانت تقوم على تحالف سياسى بين هذه المنابع الأيدلوجية التى تتوافق فى الهدف الأساسى وإن اختلفت فى بعض الجزئيات. كونت لجنة الحزب بالقوصية والتى ضمت مئات الاعضاء فى وقت قصير، انتخبت عضوا فى اللجنة المركزية. اقتربت أكثر من قيادة الحزب، ولفتت الأنظار (خاصة خالد محى الدين) حيث أنى أعبر عن فكرتى وأرائى بحرية شديدة وباللهجة الصعيدية، حتى أن الاستاذ خالد كان يطلبنى على التليفون الأرضى قبل اجتماع اللجنة لكى ينبهنى بأن اتكلم فى موضوع بذاته. 

أصدرت نشرة أهالى أسيوط على مستوى المحافظة، كنت أشارك قيادة الحزب فى المؤتمرات الحزبية التى تقام  فى شتى المحافظات على مستوى الجمهورية، قاد الحزب المعارضة خاصة عندما عارض زيارة السادات إلى اسرائيل.  

عام ١٩٧٨ ترشحت حسب تعليمات الحزب فى اللجنة النقابية للعاملين ببنك التنمية الزراعي، كان محافظ أسيوط محمد عثمان اسماعيل عدوا لدودا لحزب التجمع حسب تكوينه السياسى الدينى وتبنيه للجماعات الإسلامية حين ذاك مساعدة للسادات فى مواجهة الناصريين واليسار. أصدر عثمان اسماعيل أمرا لقيادة البنك بعدم انتخابى وإسقاطى فى الانتخابات، قام الحزب بإمدادى بالنشرات الانتخابية إضافة لقيادة الحزب للمعركة مما أشعر المحافظ بفوزي، تم استدعائى إلى المدعى العام الاشتراكى للتحقيق معي فى القاهرة، ولم يخرج التحقيق عن تهديدى بعدم الاستمرار فى الترشح . 

تمت الانتخابات وفزت وكان هذا موقفا اعتبره المحافظ والأمن نوعا من التحدي، زاد التجمع من رفع درجة المعارضة فى الشارع، وأصبح الحزب العدو الأول السادات، وكانت جريدة الأهالى تقود الرأى العام المصرى حتى أن الإعداد التي تصادر أكثر من التي توزع، مما أعطى التجمع والجريدة المصداقية الجماهيرية. 

هنا كانت الهجمة التترية التى قادها صحفيا موسى صبرى رئيس تحرير الاخبار وصديق السادات الصدوق منذ أيام سجن السادات فى قضية الاغتيالات قبل يوليو، وكانت نهاية فكرة السادات بحزبية مصنوعة على مقاسه مع التجمع حتى أنه كان يعلن فى خطاباته أن حزب التجمع حزب شيوعى، مما أثار الفزع بين الأعضاء، فقام موسى صبرى بالمطلوب وكان ينشر يوميا استقالات بالأخبار لأعضاء التجمع عن طربق حصوله على الأسماء من الأمن. كان هناك استفتاء على تعديلات دستورية عام ١٩٨٠ تقضي بأن تكون الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، ومعها فتح مدد الرئاسة للسادات بدلا من مدتين يعنى هذا فى مقابل ذاك. 

قبل الاستفتاء وفى الساعة الثالثة فجرا فوجئت بحملة مكبرة من الشرطة تقتحم منزلى وأطفالى  الصغار نائمون، استيقظت فى فزع مع زوجتى التى نبهتهم إلى عدم الاقتراب من الأطفال. تم اقتيادى لمركز الشرطة مع ثلاث كراتين بداخلهم الكتب التى عثروا عليها. ظللت فى الحجز حتى الصباح وتم ترحيلنا إلى أسيوط وكان معى العم سعيد جمال الدين والاستاذ ابوضيف عبد الجليل من ساحل سليم. تم التحقيق معنا فى نيابة أمن الدولة وتوجيه تهمة النية لإفشال الاستفتاء، ووجه لى اتهام بأنى كنت سأقوم بهذا الدور فى مركز البداري!

لا نعلم  كيف تمكن المحقق والتحريات من معرفة أننا كنا ننوى مع العلم بأن النية لايعلمها سوى الله. أودعنا الحجز فى قسم أول أسيوط وهو عنبر كبير لايوجد فيه غير ثلاثتنا وارضيته مملوءة بمياه الرشح، لدرجة أن ملابسنا أصبحت سوداء اللون بمجرد الجلوس والنوم على الأرض، احتجزنا ثلاثة ايام  وبلا أي مساعدات سوى بعض المأكولات كان يرسلها المرحوم صلاح فراج أمين الحزب بأسيوط، حتى تم الإفراج عنا بعد انتهاء الاستفتاء.

زيارة خالد محيى الدين للقوصية

احتدم الصراع الحزبى غير المتكافيء بعد تحويل السادات حزب مصر العربى الاشتراكى إلى الحزب الوطنى الديمقراطى، والذى هرول فيه الأعضاء بكامل تشكيلتهم إلى حزب السادات الجديد والذى أصبح رئيسه. حل الحزب الوطنى بديلا للاتحاد الاشتراكى بكل ممارساته التى تعتمد على السلطة التنفيذية لاعلى جماهيرية الحزب أو كوادره. 

أخذ الجميع ينافقون الحزب باعتباره حزب الرئيس، كان مقابل ذلك حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوي برئاسة خالد محى الدين كحزب معارضة ولكن كان معارضا بنكهة تختلف كل الاختلاف عن معارضة ماقبل يوليو ١٩٥٢. نشط الحزب بعد كامب ديفيد وأعلت جريدة الأهالى من رتم المعارضة، وقام خالد محى الدين بزيارة إلى أغلب محافظات الجمهورية لعمل مؤتمرات جماهيرية وحزبية مما زاد رد فعل الجهاز التنفيذى الذى كان يمارس دورا رقابيا يمنع بالفعل أي تجمعات للحزب. 

مع بعض قيادات الحزب رافقت خالد فى زيارات عدة وكان أحد هذه الزيارات إلى محافظة قنا عند مصطفى بكرى حيث كان أحد كوادر الحزب، ذهبت أنا والاستاذ صلاح فراج أمين الحزب بأسيوط فى القطار ليلا، تقابلنا مع الاستاذ خالد وكان برفقته الدكتور ميلاد حنا والشيخ مصطفى عاصى والاستاذ محمد خليل، قضينا اليوم فى منزل بكرى فى نجع المعنى، بعد تناول الغذاء عند بكرى فى منزل متواضع جدا كان هذا موضع استغراب واعتزاز خالد محيى الدين (حتى أننى قررت مفاتحة لجنة المحافظة لطلب زيارة إلى أسيوط). 

تم عقد مؤتمر جماهيرى فى المساء وذهبنا إلى محطة القطار وفى أثناء انتظار القطار(وفى مثل هذه الفرص التى جمعتنى بالاستاذ خالد) اخذت الحديث معه عن موضوعات تاريخية سمعنا عنها فى الصغر، وحاولنا فهمها بعد ذلك حتى جاء الوقت الذى استمع فيه بشكل مباشر من الزعيم نفسه. كان الحوار حينذاك عن دور السادات فى الثورة؛ ثم تطرقنا إلى حكاية انضمام خالد وعبد الناصر للإخوان . كنت منبهرا ومزهوا بنفسى فى ذلك الوقت أن استمع لهذه الوقائع من أحد صانعيها المخلصين، حكى خالد  أنه ذهب هو وناصر إلى الاخوان كشباب معجب بالفكرة حيث كانوا منفتحين على كل التيارات السياسية. خالد كان فى حزب حدتو الشيوعي، والتحق ناصر بمصر الفتاة برئاسة أحمد حسين فى فترة  ما. 

وجاء وقت الانضمام بل قل أداء قسم الإخوان، ذهب خالد وناصر وفى غرفة شبه مظلمة وأمام المرشد إلذى وضع أمامه على مائدة القران الكريم وفوق القران مسدسا، تقدم كل منهم إلى المرشد واضعا يده على القرآن تاليا القسم الذى يقر فيه العضو تسليم نفسه إلى الجماعة مثلما تكون الجثة مع من يغسلها. ولكن تأكدوا فيما بعد أن هذه الجماعة لا ولن تكون هى الحزب الذي يتوافق مع أمانيهم الثورية فتركوها.  

تمتعت بحوار تاريخى مع أحد صناع التاريخ، عدنا إلى أسيوط واجتمعنا فى أمانة الحزب، وطلبنا زيارة خالد إلى المحافظة، جاء خالد فى ١٢ مارس ١٩٨١، نزل فى فندق عمر الخيام بشارع ثابت بأسيوط وهو فندق متواضع. كان الأمن يحيط الفندق ولا يدخل أحدا إليه إلا بعد أخذ كل المعلومات عنه، مما أثار رعبا حقيقيا، ولكن أعضاء الحزب كانوا كوادر حزبية بالفعل. 

عقد مؤتمر جماهيرى محدد المكان مع حشد أمنى فى البداري، وفى اليوم التالى كانت زيارة إلى القوصية تمت لمنزلى حيث لم نتمكن فى ظل الحصار والترهيب الأمنى أن نجد مقرا للحزب بالقوصية، كان محمد عثمان اسماعيل محافظا لاسيوط وكان صديقه وصنيعته عيون عبد الناصر رئيسا لمركز القوصية. اعتبر عثمان اسماعيل أن زيارة القوصية هى تحدى ليس للنظام فقط ولكن لعثمان اسماعيل الذى كان يؤكد للسادات أنه يدير المحافظة كعزبة خاضعة له وللسادات فلا كلمة لأحد ولا حركة لحزب غير الحزب الوطنى. استقلينا السيارة إلى القوصية وكان الاستاذ خالد يجلس فى الوسط بينى وبين الأستاذ محمد خليل كنوع من التأمين. 

عند وصولنا إلى الوحدة الزراعية فى مدخل القوصية وجدنا عساكر الشرطة على الصفين وبين كل عسكرى وآخر عسكرى حتى منزلنا أمام المدرسة الثانوية، دخلنا المنزل وعقدنا اجتماعا تنظيميا لأعضاء الحزب، ثم كان الغذاء.

 تصادف عند وصولنا إلى القوصية وفاة خالى الذى أخذوا يقيمون له صوان العزاء أمام منزلنا، بعد الغذاء فوجئنا بأن الشرطة قد أزالت صيوان العزاء بالكامل تصورا منهم أن الصيوان أقيم لعقد مؤتمر جماهيري. هنا انتابتنى حالة من الحزن والألم وإحساس عميق بالذنب، فخالى والعائلة لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالحزب، وأخذت الأسئلة تتدافع داخلى .. ماهو شعور أولاد خالى؟ وكيف يستقبلون واقعة إلغاء العزاء؟ وفى ذات الوقت أنا مهموم بالزيارة وترتيباتها بل ونتائجها، مع العلم أننى منذ البداية كنت أعلم الضغوط، فلم افكر فى عقد مؤتمر عام، ولكن كنت أرتب لعقد جلسة محددة فى المنزل  لبعض شباب القوصية السياسيين والذين لايعبأون بالتهديدات. حضر من حضر ووجدت من هم تابعين ومرسلين من قبل رئيس المركز ومعهم جهاز تسجيل بحجة استعماله كمكبر للصوت بديلا للميكروفون. ولكن كان هذا بهدف تسجيل الجلسة، علمت ذلك واعطيت الاستاذ خالد فكرة فقال هذا لايعنينا فنحن لانعمل عملا سريا بل نحن حزب رسمي. 

دار الحوار بين الاستاذ خالد والشباب وكانت القضايا المطروحة حينها قضية تسفيه كل عصر للعصر السابق عليه كموروث فرعونى، طرح موضوع الطائرة التى سقطت بأحمد بدوى وزير الدفاع مع مجموعة من قادة الجيش وكان الترجيح أن يكون الحادث بفعل فاعل. ثم تمت مناقشة مظاهرات فاليسا ذلك الزعيم العمالي فى بولندا والذى قاد الجماهير وأسقط النظام بل اصبح رئيسا لبولندا، وكان هذا نموذجا للتغيير الجماهيرى والثورى. 

انتهى المؤتمر أو الجلسة وأثناء المغادرة فوجئنا بمظاهرة قادمة من ناحية السوق وبعد صلاة العصر من عموم المساجد يقودها إمام مسجد يحرض الجماهير ضد خالد وضد الزيارة تنفيذا لأوامر المحافظ شخصيا حتى يثبت المحافظ ولاءه وقيامه خير قيام بدور السلطة القاهرة لأى معارض. 

فضت الشرطة المظاهرة وغادر الوفد إلى أسيوط وظللت أنا لحضور جنازة خالى التى كانت بلا صيوان. فى ذات الوقت كنت اتحرز من موقف والدى، ما رد فعله وماهو شعوره خاصة بعد المظاهرة وما صاحبها من تدخل الشرطة أمام المنزل خاصة أن والدى لم يمارس السياسة. كانت المفاجأة أن والدى كان سعيدا وفخورا بهذه الزيارة حيث كان يدرك مكانة خالد ودوره التاريخى فى ثورة يوليو، فى ذلك الوقت كان أحمد فرغلى الصحفى عضوا بمجلس الشعب عن حزب العمل الاشتراكى. علم فرغلى بموضوع المظاهرة وما فعله عثمان اسماعيل حيث كان عثمان قد فض مؤتمرا لابراهيم شكرى أقامه  فرغلى فى أسيوط، وكانت اوامر عثمان اسماعيل فض مؤتمر شكرى عن طريق البلطجية وبشكل مباشر. 

 (صور لزيارة الأستاذ خالد لأسيوط)

بعد الذى حدث لخالد فى القوصية كتب فرغلى فى جريدة الشعب مقالا قال فيه إنه كانت هناك محاولة لاغتيال خالد فى القوصية، هنا تحرك الرأى العام ونقلت وكالات الانباء العربية والدولية الخبر، حيث أن خالد ليس رئيسا لحزب فقط ولكنه قيادة مصرية تاريخية. هنا وضع النظام فى خانة اليك بالفعل، فكيف كان المخرج؟ تم ترتيب الأمور بأن يتقدم أحد  اعضاء مجلس الشعب بسؤال لوزير الداخلية النبوى اسماعيل عن عملية اغتيال خالد فى القوصية، وعقدت جلسة مسائية قدم فيها النبوى بيانا مطولا قال فيه إن خالد كان فى زيارة لبيت شاب عضو فى التجمع لتناول الغذاء حيث قامت الشرطة بحمايته ومنذ البداية وحتى المغادرة ولم تحدث اى مظاهرة على الاطلاق. وهنا أصبح احمد فرغلى نائبا يقوم بنشر اخبار كاذبة للتشويش على النظام وذلك يستوجب فصله من مجلس الشعب، وبالفعل تم فصل أحمد فرغلى بسبب المظاهرة التى دبرها عثمان إسماعيل تأكيدا لسيطرته على أسيوط وتصفية لحسابات سياسية مع أحمد فرغلى . 

وأضافت هذه الأحداث سخونة وخطورة على المناخ السياسى العام بين النظام وبين كل المعارضة. 
--------------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان