25 - 04 - 2024

شاهد على العصر (6) عبور النكسة ولحظة وفاة الزعيم

شاهد على العصر (6) عبور النكسة ولحظة وفاة الزعيم

 كانت النكسة نقطة تحول دراماتيكى ونقلة موضوعية ومرحلة مفصلية فى حياة جيلنا، فقد جعلت كل الامور تتداخل، وجد اليأس طريقه إلى نفوس كان الأمل لديها بلا حدود وعلى مدد الشوف، جعلت الحلم الكبير يقترب من كابوس ثقيل يحبس الأنفاس ويشل الحركة، الصورة أصبحت مشوشة والجو غائما واختلطت ظلمة الليل ببصيص أمل فى فجر قادم. 

بعد عودة عبد الناصر عن قرار التنحي استقرت النفوس قليلا ولكن لم تصل العقول إلى ما يجعلها تدرك تلك الأحداث بل قل تلك الكوارث، ولكن تسارع الأحداث فى ذلك المناخ وتلك الظروف القاسية جعلنى أدرك وأعى معنى تعبير عبد الناصر بأن الشعب هو المعلم. 

فخروج الشعب لم يكن مطالبة بعودة عبد الناصر فحسب، ولكن كان رفضا عالى الصوت للهزيمة، الهزيمة التى جعلت عبد الناصر يفقد الأمل بالفعل كما صرح فى خطابه أمام مجلس الأمة فى نوفمبر ١٩٦7. 

كان هذا الخطاب هو بداية طريق إعادة الأمل بعد التخلص من قيادة الجيش وتغيير القيادة بالكامل، فالأمل تولد من معجزة الجندى المصرى الذى قام بعملية رأس العش بعد النكسة بأقل من شهر بما يثبت أن الهزيمة لم تكن هزيمة الجندى المصرى ولكن كانت هزيمة لتلك القيادة الفاشلة. 

النكسة أعادت ترتيب كل الأمور، وفى إطار مبدأ النقد الذاتى الذى أخذه عبد الناصر مبدأ لا مراوغة فيه وعلى كل المستويات. 

هنا كنت ما أزال أعمل فى بنك صدفا ومسؤول تثقيف بمنظمة الشباب، وكان بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨ يعتبر بيانا دستوريا لإدارة مرحلة ما بعد النكسة وعلى ضوء ما تكشف من أخطاء وخطايا للنظام اعترف بها عبد الناصر. 

كان لابد من استفتاء للموافقة على هذا البيان، فى هذه الأثناء كان الإحساس بل الاصرار على التصحيح هو الروح التى كنا نعمل بها فى المنظمة، وأثناء ذهابى للاستفتاء كان أمين اللجنة هو أمين شباب مركز صدفا، كان هذا الأمين ممن يتوارثون المقاعد السياسية دون علاقة لهم بالسياسة. دورهم هو نفاق السلطة أي سلطة، فكان هذا الأمين ومن باب إعلان الوفاء يجعل المستفتى يعلم على الورقة، بعيدا عن الستارة التي تضمن السرية، وفى غالب الأحيان يقوم هو بالمهمة. 

فوجئت به يعطينى الورقة ويقول علِّم، هنا تجسدت أمامى النكسة وتصورت أن هذا الآفاق وأمثاله شركاء فيها، فما كان منى إلا أن ثرت عليه وبأعلى صوتى رفضت هذا الأسلوب الذى غمرنى باليأس من أي إصلاح مرتجى. وأخذت الورقة وعلمت سرا. الجميع تصور أنى رافض للبيان وأخذوا يحذرونى من النتائج. بالطبع لم يحدث شيء، بل انتهزت هذه الواقعة فى لجنة المحافظة كدليل إدانة على هذا الأمين معتبرا هذا الأسلوب لايبتعد عن الأساليب التي أوصلتنا للنكسة. 

نقلت من صدفا إلى فرع ديروط، وكانت إقامتي بالطبع في القوصية، مارست دوري كأمين التثقيف فى المنظمة بالقوصية، وكان هذا استمرارا لطريقى السياسى فيها والذى بدأ قبلها فى صدفا. كانت هناك انتخابات الاتحاد الاشتراكى كبداية لتطبيق الإصلاحات الواردة فى بيان ٣٠ مارس، ترشحت وكان هذا الترشح هو الأول فى حياتي، اعتمدت فى الدعاية الانتخابية على شباب الكنيسة لأنى ذهبت إلى صدفا وكنت أمارس نشاطى بين جدران الكنيسة مثل أى شاب مسيحى؛ ولأنى لم أمارس عملا عاما يعرفنى من خلاله المواطن، كان نجاحي مفاجأة وأصبحت عضوا فى الوحدة الأساسية للاتحاد الاشتراكى لبندر القوصية. 

مناخ النكسة كان ينشر جناحيه بعض الوقت مما يجعلنا نحاول القيام بأى عمل يشعرنا بالمشاركة فى المعركة، الشعار وقتها هو (يد تعمل ويد تمسك السلاح)، كانت المشاريع والاقتصاد والعمل وكل المجهودات تتجه إلى المجهود الحربي، دفع المواطن ثمن المشاركة بلا تمييز، كنا نحلى الشاى بالحلوى بدلا من السكر ونصنع الصابون فى منازلنا، ولا نعرف الترفيه. كما أن أهالى خط القناة كانوا قد دفعوا الثمن أضعافا مضاعفة، فقد تم تهجير أبناء محافظات السويس والإسماعيلية وبور سعيد إلى محافظات مصر، وكان من نصيب أسيوط والقوصية أبناء محافظة بورسعيد. 

تم تسكينهم فى المدرسة الابتدائية وراء المستشفى المركزى فى حجرات وكانت هناك أكثر من أسرة صغيرة فى حجرة واحدة، ناهيك عن دورات المياه المشتركة والأهم فقدان مصدر رزقهم، تم تسكين جزء منهم فى بدروم سراي زكريا مهران التى هدمت الآن، كان التعاطف الإنسانى مختلطا بالدور السياسى المطلوب. قمنا أعضاء وحدة الاتحاد الاشتراكى، وكنت مع السادة ثابت حسين ومصطفى عبد العال وفهمى خليفة رحمهم الله نجوب القوصية بشوارعها وحواريها وأزقتها، لكى نجمع أي تبرعات لهؤلاء الأخوة المهاجرين. كنا نجمع الخبز بأنواعه (بتاو.. عيش شمسى .. بصل.. ثوم ...أي شيء) وكنا نحمل هذه الأشياء إلى مكان الإيواء لتوزيعها عليهم. هذه التجربة الإنسانية قبل أن تكون تجربة سياسية شكلت وأثرت فى التكوين.  وكان المناضل العمالى البدرى فرغلى ضمن المهجرين الذين أقاموا فى قرية بنى قرة وظلت ذكرياته معها حتى الآن.  توطدت علاقتى بالشخصيات العامة وبشباب القوصية خاصة علاقتى بالمرحوم أبو الوفا الريس الذى كان أمينا لشباب القوصية، توازى مع هذا الانفتاح استمرار نشاطى بالكنيسة فتاقت نفسى إلى العمل المشترك الذى يزيل الحواجز الوهمية بين البشر، ففكرت فى عمل مسرحية فى الكنيسة لصالح المجهود الحربي ممارسة لهواية التمثيل والإحساس بعمل سياسى مهم لصالح المجهود الحربى ومشاركة للشباب فى مجال جديد.

المسرح والطريق إلى السياسة

كانت تجربة فريدة، التعامل مع المصريين من أهل القناة والذين اضطرتهم ظروف الحرب أن يتركوا منازلهم وأعمالهم ويهجرون إلى مناطق من الجمهورية، وكان منهم من جاء إلى القوصية وقراها من بورسعيد، حيث التعامل مع قطاع من المصريين لديهم بعض الاختلاف فى العادات والتقاليد، مما جعل هناك نظرة دونية لهم من بعض المنغلقين والمنكفئين على عاداتهم وتقاليدهم. ومع ذلك فالتعامل الإنسانى وعلى أرضية الوطن يزيل كل الشوائب وكل النقائص. وجدنا من إخوتنا الضيوف من امتهن مهنته مثل الساعاتى الذى كان يقطن فى سراى زكريا، حتى أنه بعد عودة المهجرين لم يغادر القوصية وظل بها حتى توفاه الله، وجدنا علاقات تزاوج ومصاهرة بين بعض عائلات القوصية وبعض بنات بور سعيد ولازلن يعشن فى القوصية بذريتهم التى تتبوأ مراكز مقدرة، كما أنه كانت هناك تعاملات على المستوى الاجتماعي، إحدى المهاجرات تقرأ الفنجان مقابل خمسة قروش، كنت فى سن الشباب المبكر وكانت هناك شبه حالة حب لم تخل من مشكلة فذهبت إلى من تقرأ الفنجان فأوحت لى أن حالة الحب ستنتصر، ولما كنت مهيئا لذلك، بل أتمناه أعطتنى هذه الكلمات المرتبة والمنمقة أملا، وكان الأمل وتحقق بالزواج، إضافة لمناخ المعركة التى وضعت بصماتها على مجمل الحياة بكل ماتعنى حالة الحرب واسترداد الأرض. 

أما عمل مسرحية فهذه حكاية لها جذورها التى نبتت أثناء حصولى على المراكز الأولى فى التمثيل فى مسابقات مراكز الشباب حيث كانت التصفيات تتم على مسرح قصر ثقافة اسيوط، والمبيت أثناء البروفات والعرض كان فى نادى الشبان المسيحيين. هناك اجتمعت مع شباب القوصية الذين كانوا يشاركون بمسرحية (الخوف) تأليف الصديق المبدع نصر الخياط المحامي، التقينا وتصادقنا وتحاببنا (نصر الخياط وفتاح الريس ومحمود المأمور) حاولنا الاشتراك في عمل مسرحي بمركز الشباب، واخترت حينذاك مسرحية (المسامير) لسعد الدين وهبة، وقمت بإخراجها وعمل بروفات ولكن لم تعرض المسرحية. عاودت المحاولة فى إخراج مسرحية (الممر) وكانت تتسق مع ظروف الحرب، وعرضنا المسرحية على مسرح سينما النصر ولكن لرداءة الصوت وإهمال إدارة المسرح فشلنا فشلا عظيما. هنا تلبستنى روح الفن المسرحى، وكنت قد ذاكرت منازل أولى وثانية ثانوى حتى امتحانات الثانوية العامة (فأنا حاصل على دبلوم تجارة) ولم أرد تأدية امتحان الثانوية العامة. فكنت أريد دخول معهد فنون مسرحية على غرار مافعل الصديق محمود المأمور حيث كان طالبا فى معهد فنون مسرحية قسم ديكور، وكان دفعة وصديق محمد صبحى ولطفى لبيب وصلاح رشوان، كان الجميع شبه مقيمين عند المأمور حيث كانت له شقة عزاب فى الهرم. 

كنت أسافر شهريا تقريبا إلى القاهرة للمشاركة فى هذا الجو الفني، حيث استبدلت الثانوية بدراسة خاصة لمنهج الفنون مسرحية من خلال الكتب والمراجع التى اشتراها لى المأمور، كنا نحضر عروض المسرح القومي، حيث كان صلاح رشوان يشارك محمود ياسين فى مسرحية (عودة الغائب) ونسهر بعد العرض فى قهوة الجمهورية التى تقابل مسرح الجمهورية مع حسنى البابا والد الفنانة سعاد حسنى والفنانة نجاة الصغيرة، كان حسنى البابا من أكبر الخطاطين فى العالم العربى وله معرض حينذاك فى العراق، وكان يعلم الخط لبعض أصدقاء المأمور مثل المرحوم فتاح الريس وحمدى الشريف. 

فى هذا المناخ اقتنعت بأن نقوم بعمل مسرحى لصالح المجهود الحربى فى الكنيسة، حيث بدأت فيها هواية التمثيل، فالكنيسة بشكل عام ولظروف تاريخية كانت تقوم بمثل هذه الأنشطة ليس فى مصر ولكن على مستوى العالم العربى، فمثلا نشأ المسرح العراقى فى أحضان الكنيسة العراقية. 

استقر الأمرعلى اختيار مسرحية من الأدب الألمانى باسم (جنفياف) وهو اسم بطلة النص، أخرجت المسرحية وقمت بدور البطولة وكانت الإيرادات لصالح المجهود الحربي، حدث هذا فى صيف١٩٦٩، أما فى صيف ١٩٧٠ فقمت بإخراج النص التاريخى لشكسبير (تاجر البندقية) ومثلت فيها شخصية شيلوك اليهودي.

حدث التلاقى  والتلاحم الانسانى الحقيقى بين شباب القوصية، العمل فى الكنيسة والممثلين من أبناء الكنيسة (وكانت الأدوار النسائية يقوم بها شباب)، أحضرت الأصدقاء محمود المأمور فقام بعمل الديكور على أسس علمية وقبل العرض سافر إلى إيطاليا وأكمل الديكور المهندس إدوارد عزيز، قام بعمل الماكياج عبدالفتاح الريس وقد غزل برجل حمار فأبدع الباروكات من فرو خروف، قام بإدارة المسرح نصر الخياط. الأهم أننى أحضرت ملابس من راهبات صدفا تخص القرون الوسطى مع إضاءة من قصر الثقافة (عم يونس)، أما الموسيقى التصويرية فكانت تسجيل بعض الجمل الموسيقية من موسيقى بيتهوفن، وقام بإعداد النص الدكتور فكرى صادق (وهو طبيب اسنان وأديب). 

ظلت البروفات لشهرين طوال الليل فتحول فناء الكنيسة وحجرات الخدمة إلى خلية نحل، ومن الظريف أنه كان معنا فى هذه الأمسيات الشيخ الجندي (وهو مقريء ومنشد ومطرب ويجيد العزف على العود). 

كان فى القاهرة يشار إليه بالبنان وأخنى عليه الدهر، كان فقيرا ماديا وغنيا نفسا، بالليل يلبس الكاكولا والعمامة والحذاء بلون الكاكولا، يسهر ويؤدى بعض الأغنيات فى الوقت الذى كان فيه القمص ميخائيل متى يقوم بالتوجيه فى بعض الأمور. ولعب بطولة العرض كامل ميخائيل الذى هو الآن كاهن الكنيسة. تم عرض المسرحية لليلتين وكان مسئول النظام المرحوم صلاح عبد الحفيظ ودكتور اسماعيل كامل. 

هذا هو المناخ الذى عشناه فى تلك الأيام، هل كان هذا التوافق نتيجة للإحساس بوحدة المصير ونحن فى حالة حرب؟ ام أن هذه هى طبيعة الشعب المصرى صاحب الثقافات المتعددة فى إطار الثقافة المصرية الجامعة. 

(صور لفريق التمثيل ومعنا الصديق نصر الخياط)

 رحيل الزعيم

عشنا بعد النكسة أياما بطعم الهزيمة وبأمل الانتصار وعودة الأرض، كان هذا الأمل يكبر وينمو فى نفوسنا ليس كمجرد أمنيات بعيدة التحقق، ولكن من خلال ظروف سياسية واقتصادية لا تعرف غير الاستعداد لمواجهة العدو، ظروف أنتجت مناخا اجتماعيا جديدا غير ماكان قبل النكسة، وغيرت كل الممارسات السياسية الحشدية والحماسية إلى ممارسة سياسية نقدية تعتمد على مبدأ النقد الذاتى، والذى بدأها ومارسها كان عبد الناصر. 

كنا فى منظمة الشباب نلملم أوجاعنا ونستلهم الأمل من قواتنا المسلحة التى تغيرت تغيرا يتواكب مع نتائج ماحدث لكى تحقق لنا النصر. 

كانت هناك دورة تثقيفية خاصة لمسؤولى التثقيف على مستوى الجمهورية فى معهد حلوان الاشتراكى بحلوان، ذهبت للدورة وكان الحال غير الحال والنفوس تصارع بين واقع أليم معاش وبين أمل لانملك غير تحقيقه. تميزت الدورة بالاستماع للدارسين أكثر من الموجهين، وكان شعارها الذى أبدعه الدارسون هو (امسك يا الشعب المسطرة.. خطط كفاية اللى جرى) 

جاء إلينا فى لقاء عام ضياء الدين داود عضو اللجنة التنفيذية العليا (أعلى سلطة فى الاتحاد الاشتراكى وكانت بمثابة مجلس رئاسى) وتناقشنا فى مناخ وبطريقة تختلف كل الاختلاف عماسبق من دورات. خرج أحد الدارسين ينتقد النظام فى جعل محمد حسنين هيكل الصحفى الأول والأوحد، وأن هذا لاعلاقة له بأى ديمقراطية. أجاب ضياء الدين داود إجابات تقليدية رفضها الدارسون وأخذوا يرددون أغنية (امسك ياشعب المسطرة.. خطط كفاية اللى جرى) إعلانا لرفض أي ممارسات أو تحليلات أو تبريرات للأوضاع. 

حاول ضياء تهدئة الموقف فلم يقبل أحد كلامه، حتى أنه توتر وأخذ يضرب المائدة بيده فأصاب كوب الماء وكان فى موقف لا يحسد عليه. 

حضر إلينا سعد الدين وهبه رئيس هيئة الثقافة الجماهيرية لمناقشة ثقافية، تحدثنا فى عملية الرقابة على الأعمال الفنية وكانت مثارة حينذاك مشكلة عرض أفلام (شيء من الخوف/ وميرامار)، أكد وهبة أن الظروف الآن تتجه إلى مزيد من حرية التعبير عن الرأي، بعيدا عن أي ممارسات كانت تتوافق مع ظروف ماقبل النكسة، وأكد أن قرار العرض كان من عبد الناصر شخصيا. 

كان الشعب قد تأقلم على مناخ الحرب والاستعداد للمواجهة، وكان عبد الناصر يدير الأمور السياسية لصالح تهيئة المناخ المناسب والمطلوب للعمل العسكرى .

فوجئنا بمشكلة الأردنيين مع الفلسطينيين مما يصب فى صالح إسرائيل مناخا وفعلا، عقد ناصر مؤتمرا عربيا فى القاهرة واستطاع أن يحل المشكلة فما حدث من وقائع بين الملك حسين وياسر عرفات بحضور ملك السعودية فيصل، أكد دور عبدالناصر العربي وقدرته على حسم كثير من الأمور المعقدة. 

ودع ناصر الزعماء العرب وذهب إلى منزله، كنا نتابع الأحداث والأخبار مما زاد إحساسنا وتمسكنا بعبد الناصر الذى سيحقق لنا النصر، بعد السادسة مساء فوجئنا بأن وسائل الإعلام تقطع الإرسال وتذيع القران الكريم، ظل ذلك طويلا والجميع يضرب أخماسا فى أسداس، ولكن لم يخطر على قلب أحد ماحدث. 

كنت فى منزل أحد الأصدقاء فى القوصية ننتظر سماع خبر، وكان هناك راديو فى قهوة مجاورة أسرعنا بالخروج للاستماع، وكانت الصاعقة التى أعلنها السادات وهى وفاة الزعيم عبد الناصر. 

لم اتمالك نفسى وتكرر ماحدث بعد التنحي، ولكن كانت نفسى غير قادرة على تحمل الكارثة واستيعاب الحدث أو تصديق الخبر، لأن هذا يرافقه سقوط الأمل وسيطرة اليأس، أسرعت ومعى بشر لم أدرك من أين جاءوا إلى الاتحاد الاشتراكي، تدفقت الجماهير، فمن جاء إلى الاتحاد ومن ذهب إلى محطة القطار ومن أوقف السيارات الخاصة والعامة والنقل الذاهبة إلى القاهرة ليستقلها بدون تفكير. 

قرر أمين الاتحاد الاشتراكى الذهاب الى أسيوط للمشاركة فى جنازة افتراضية، تتم يوميا إلى يوم الدفن، رفضت مغادرة القوصية وقمنا بعمل جنارة يوميا مع غلق المحلات التجارية حزنا على الزعيم. 

جاء يوم الدفن وكان العالم كله يرقب ويشاهد، قمنا بعمل الجنازة يتقدمها نائب رئيس المدينة وكان من الشعبيين وفى المقدمة من يحمل صورة الزعيم، لففنا مدينة القوصية وصولا للصوان الذى تمت إقامته أمام السينما لتقديم العزاء مساء حيث توافدت الجماهير من كل قرى المركز. 

كان رحيل الزعيم قد ترك جرحا غائرا فى نفسى نتيجة لارتباط من نوع خاص، ارتباطى بشخص جسد مباديء آمنت واستفدت بها، جسد أملا فى إعادة الأرض والكرامة ناهيك عن كاريزما لايختلف حولها حتى أشد المختلفين. ولذلك وبكل صراحة لم أستوعب وجود السادات بديلا لناصر، وذلك على المستوى النفسى ولم أكن أملك إزاءه شيئا. أصبح السادات رئيسا وجاء لزيارة أسيوط، كانت منظمة الشباب هى من يقوم بتنظيم استقبال السادات فى شوارع المدينة لضمان وجود جماهير، خاصة أن ناصر زار أسيوط عام ١٩٦٦. 

كان السادات سيمر بشارع الخزان وصولا إلى استاد الجامعة، محطات إذاعية محلية (كادر ومعه ميكروفون فى أحد المساكن المار أمامها) تقوم بتحميس الجماهير، كان التكليف أن اكون أنا وصديقى كمال جبر المسئولين عن أحد هذه المواقع، ولكن الذى حدث أننا كنا نتحدث بحماس لا نظير له عن ناصر وإنجازاته وشخصه ولم نذكر السادات بكلمة واحدة. مر السادات من أمامنا ولم نغير فى الخطاب، ذهبنا إلى الاستاد وحضرنا لقاء السادات وكان معه على صبرى وحسين الشافعي. 

كان هذا هو المناخ والأسلوب فى المنظمة، وهذا غير الاتحاد الاشتراكى الذى اعتبر تنظيما تقليديا لكل من يريد توريث المقاعد مع كل نظام (مات الملك عاش الملك)، كنت عضو لجنة مركز فى الاتحاد الاشتراكى، وهذا الموقع كان وسيلة للتواجد فى العمل العام والتعامل مع كل المواقع على أرضية أنى سياسى تعلمت العمل السياسى المنظم والعلمى فى منظمة الشباب. فخبرة المنظمة جعلتنا مميزين تثقيفيا عن أعضاء الاتحاد. كان هناك مايسمى بمجلس المدينة وهو يتكون من بعض أعضاء الاتحاد الاشتراكى مع مديرى المصالح الحكومية برئاسة رئيس المدينة ووكالة امين اللجنة التنفيذية للاتحاد، وكان حينذاك الأستاذ المرحوم خيرت رميح. ميزة هذا النظام أنه كان ينجز القرار بعيدا عن التوصيات، فلو كان هناك مشكلة فى الزراعة تطرح من الأعضاء وفى وجود مدير الزراعة الذى يصدر قرارا بحل المشكلة، كان هذا تحقيقا للحكم المحلى الفعلى وليس الصوري، هنا تم ترشيحي لحضور دورة موجهين سياسيين فى المنظمة بحلوان.
----------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

 

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان