19 - 04 - 2024

عبد الناصر

عبد الناصر

من كان منكم بلا خطيئة فليرمه بحجر.. هكذا كان تعليقي على المناقشات التى دارت حول الزعيم ناصر بعد خمسين عاما من وفاته، وهذه وحدها دليل على عمق أثره على الشعب المصرى، ممن عاصره ومن لم يعاصره وهو يرى المجادلات بين شيطنته وتقديسه، وكلاهما لا ينفع فى عالم السياسة، فهى صلة تحكمها المصلحةبسؤال بسيط هل أفاد شعبه؟ هل غير من حياته؟ هل أنصف البسطاء والمهمشين؟ هل انحاز إلى الأغلبية.. هل لبى حاجاتهم الأساسية فى ظل الظروف المتاحة والزمن الذى حكم فيه؟ هل مال ميزان إنجازاته أمام أخطائه، أم تساوت الكفتان وغفرت له؟

أسئلة لابد أن تكون قد مرت على بال غير المتخصصين، عندما يقيمون فترة حكم ما بعيدا عن النظريات السياسية المتقعرة، فالإنسان العادى يحكم على السياسي من خلال حياته اليومية. هل تحقق فيها ما يريحه ويعطيه الأمل فى غد أفضل له ولأولاده؟ هل وفر له الحاكم عملا بظروف كريمة؟ هل حريته مصانة وكرامته محفوظة؟ هل يعيش آمنا أم مرتجفا فى مجتمع الخوف.. يخشى أن تفلت منه كلمة  تلقيه وراء الشمس، لغياب القانون الذى يُعطى إِجازةً فى عصور الظلام. 

إجابة تلك الأسئلة هى التى تحكم على الحكام، والسؤال المعضلة: هل الأمان الاقتصادي والاجتماعي يعوض الحرية والكرامة؟

 ومع ذلك، أتصور أن أعظم إنجاز لناصر، أنه أعطى أملا للبسطاء في أن يرتقوا اجتماعيا واقتصاديا عن طريق التعليم، كوسيلة وحيدة للتمرد على ظروف النشأة. بأن تصبح شيئا مختلفا وأفضل مما وضعتك فيه الأقدار.. فالفقر لا يجب أن يكون قدرا، ولا الجهل ولا الظلم، وكما قال الزعيم محمد فريد أن الجهلاء لايستطيعون أن يطالبوا بحقوقهم، ومن ثم تم تأصيل الجهل فىى الدول الديكتاتورية، حتى يظل الشعب أسيرا خاضعا خانعا خائفا.. فالعلم والتعليم وكل روافد الثقافة تجلى العقول وتفتح مسام المعرفة، وتحفزك على التغيير وتشجعك على المطالبة بحقوقك وطرق الحصول عليه وهذا ما لن يسمح به أى نظام قمعى ديكتاتوري.    

فهل أصَّلَ عبد الناصر للجهل حتى يسيطر على الناس ويؤمن حكمه، أم جعل حق التعليم كالماء والهواء وأعلى من قيمة العلم والثقافة والفنون، ولولا تلك الفرص التى اتيحت للجميع لظلت شخصيات عرفت بنبوغها، أسيرة ظروفها الاقتصادية وضحايا لأوضاع لا يد لهم فيها  وإحساس بالقهر والظلم الاجتماعى يلازمهم جيلا وراء جيل!  

ذلك هو الظلم البين الذى أنقذهم منهم ناصر... خاصة العمال والفلاحين، فكرهوه وحاربوه من أجل ذلك حتى اليوم. 

لن أتكلم عن الصرح الصناعى الذى أقيم وتم بيعه فى عصور لاحقة، لنقع فى فخ الحاجة لسؤال اللئيم، حتى جاءت الجائحة لتوقف الاستيراد، وتثبت أن الدول التى أمنت غذاءها واحتياجاتها الصناعية كانت الفئة الناجية، بينما الأخرى وقفت على حافة المجاعات! حتى المشروعات الكبرى التى تم التشكيك فى جدواها كالسد العالي أثبتت الايام أنها أنقذتنا من الجفاف والفيضانات الكبرى على حد سواء! 

إذن لم يكن خياليا عندما قالها بصراحة إن من يملك قوته يملك قراره.. فكم من الدول العربية اليوم رغم ثرائها تملك قرارها؟ لإغفالها إنشاء صناعة وطنية وتنمية حقيقية واعتمادها كليا على الاستيراد، وهو ما تنبه له ناصر من خمسين عاما؟   

كل ماسبق لايعني أنه كان بلا أخطاء.. لأن الإنجازات الكبرى عامة ما ترادفها الأخطاء الكبرى. 

أما محاولة اقناعنا بفكرة الديكتاتور العادل.. مع أنها جملة متعارضة، فالعدل لا يستقيم مع الطغيان، وأكذوبة أن الزعيم هو الأب الذي إن مات تيتمت الشعوب. لا..  هو حاكم يمضي مدته ويترك غيره يكمل المسيرة، حتي لايتحول إلى إله لا يحاسب فتكون النتيجة هى هزيمة الدولة!

أتصور أن تلك كانت خطيئة ناصر الكبرى، فلو سمح بالتعددية والديموقراطية.. لما ترك عامر يرتاح على كرسى الدفاع، ويرتخى ويتسبب في الهزيمة؟ لو كانت هناك مجالس نيابية وتشريعية لنبهوا للخطر قبل أن يحدث.. لو لم يسمح لدولة المخابرات أن تستبيح الشعب وتفرض عليه الصمت خوفا وفزعا لربما بعدنا عن الهزيمة التى كشفت عورات سياسة الصوت وصداه!

وكلمة أخيرة.. الزعيم الذى بكاه الملايين فى مصر والعالم العربى وإفريقيا دون توجيه من أحد، ولكن حبا وعرفانا بالجميل، أنجز ما لم ينجزه أحد آخر حتى الآن،  وذلك يفسر ظهور صوره فى الثورات وفى المطالبات الاجتماعية، كأيقونة للعدل الاجتماعى، لذلك عندما تتذكرونه، ضعوه على ميزان الضمير دون محاسبته على من خلفوه.. فلقد رحل الرجل منذ خمسين عاما! 
---------------------------
بقلم: وفاء الشيشيني

 

مقالات اخرى للكاتب

عاصفة بوح | حسابات دقيقة وحسابات قبيحة





اعلان