20 - 04 - 2024

الكفر بالشعب أسوأ من تكفيره

الكفر بالشعب أسوأ من تكفيره

أتذكر هذه الأيام العبارة التي قالها رجل خبر المصريين طويلاً من موقع المحتل، وتكاد تكون هي حصيلة خبرته لأكثر من 30 سنة خدمة في مصر، هو اللواء "سير توماس ونتورث راسل" أحد كبار الضباط الإنجليز‏،‏ الذي احتل منصب حكمدار بوليس القاهرة لأكثر من ثلاثين سنة، وكتب العديد من التقارير السنوية عن الأوضاع الأمنية في المحروسة‏.

كان صاحب السعادة اللواء راسل باشا‏ يقول: "المصريون مثل رمال الصحراء الناعمة، تستطيع أن تمشى فوقها مسافة طويلة، لكنك لا تعرف متى تفاجئك وتتحرك، وتبتلعك"، وكأن راسل باشا يحذر كل حاكم من طبيعة هذا الشعب الذي يبدو ساكناً هادئاً غير مكترث ثم فجأة ينقض، وهي الحكمة التي صاغها شعراً الخال عبد الرحمن الأبنودي حين قال للسادات:

ممكن يعملها خروف أعجف

والدنيا ساعتها.. ما تعرفشي

طالعة علينا من فين

فجأة يكتشفوا الموضوع

فجأة يحسّوا الجوع

فجأة..

يصبح خرَس الأخرس مسموع

ويضيع صوتك في المجموع

وتقع في الظرف إياه

شفت الشاه

هذا زمنك

وده أول مرة وآخر مرة

حيبقى وطنك

اسرع..اسرع قبل الزحف المجنون

الشعب المصري لئيم جداً..

وماهوش مضمون..

هذه الأيام أجدني أوجه عبارة راسل باشا نفسها وكلام الأبنودي لكثير من المعارضين الذين راحوا يكفرون بهذا الشعب، ويستهزؤون بصمته البليغ، أو ينفرون من انصرافه عن دعواتهم له بأن يثور ويثأر لكرامته وأرضه، وعرضه، كأنهم أوصياء على الشعب، أو كأنهم في موقع من يُعلِّم هذا الشعب العظيم ما الذي يجب أن يفعله، وأن يحددوا له مواقيت ما يفعله.

**

عن نفسي أعترف أني مررت بمثل هذه التجربة في شبابي الباكر، وكانت تأتيني أحياناً تلك اللحظات من اليأس من أن يثور هذا الشعب على أوضاعه التي تتفاقم سوءاً من بعد سوء في كل يوم.

حين كانت شياطين اليأس تجتمع عليَّ، وتحوم حول رأسي غربان التشاؤم، كنت أبادر بالذهاب إلى أستاذي محمد عودة في شقته المتواضعة بحي الدقي، كان ـ يرحمه الله ـ يملك ملكة فطرية على التفاؤل، قادراً على بث الأمل، وبعثه من جديد، وكان تفاؤله خاصة بتغيير الأحوال يفوق قدرتنا على فهم دواعيه وأسبابه الخفية التي يحتفظ بخلطتها السرية لنفسه.

لم أجده خارج منطقة التفاؤل، حتى في أصعب اللحظات، وأحلك الظروف، وأسوأ الأحوال، كنتَ تجد محمد عوده قادراً على رؤية الجانب الآخر، ذلك الذي لا تراه العين العادية، العين التي لم تدرب على التقاط أشعة الأمل، تلك التي لا ترى بالعين المجردة، ولا يمكن قياسها بالأجهزة العادية لقياس الأشعة، ولكن عين محمد عوده المدربة على التقاط بصيص الأمل من بين ظلمات الواقع وظلاميته كانت دائماً ترصد لنا النور الآتي من بعيد.

حاولت أكثر من مرة أن أستجلي الأسباب التي تضعه دائماً أعلى فنارات مرافئ التفاؤل، لكنه بقي محتفظاً بسره حتى رحل، وحاولت مع كثيرين من محبيه أن نخمن الأسباب التي جعلته هكذا مدمناً على الأمل، متعاطياً للتفاؤل في كل وقت وحين، وذكر محبوه في ذلك أسباباً وأسبابا، وتنوعت إجاباتهم على تساؤلاتي، ولكنها كلها لم تقنعني، ولا هي استطاعت أن تفك لغز صديقي الراحل الكبير.

شيء واحد أتصور أنه هو المفتاح الذي احتفظ به محمد عودة ليشرع أبواب الأمل إذا أوصدت في وجه النخبة السياسية التي سرعان ما تفقد الأمل في إمكانية التغيير في ساعات الظلمة، هذا الشيء أنه كان يؤمن بثقة في قدرات هذا الشعب، كان يؤمن بعظمة الشعب وجدارته.

**

ولا زلت أذكر كيف كان يأخذني بدون مقدمات ولا أسباب ليطوف بي في شوارع مصر الفاطمية، أو يدفعني دفعاً إلى التجول معه مستنداً على كتفي في بولاق الدكرور، يمشي في شوارعها وحواريها، كأنه يتلقى الوحي من أنفاس الذين عاشوا داخل أسوار القاهرة القديمة، أو كأنما يتلقى الأمل من الذين يعيشون في أزقة الأحياء الأكثر شعبية، والأكثر فقراً، كان يحسب نفسه عليهم، لم أره يوماً ينظر من بلكونة شقته التي تطل على شارع الدقي، ولكني رأيته عشرات المرات وهو يتطلع إلى الجانب الخلفي لشقته الذي يطل على ناس "داير الناحية"، كأنه يطمئن على أهلٍ له هناك، أو كأنه لا يمل من النظر في وجوه أتعبتها مشقة البحث عن لقمة العيش.

درس محمد عوده الحقيقي، هو تفاءلوا بالشعب تجدوه، وكان يتهم النخبة بالتقاعس، ويحملها مسئولية الأوضاع المتردية في مصر، بأكثر مما تتحملها الحكومات العاجزة عشر مرات، وكان وعيه الحاضر دائماً بيننا هو الذي يقينا مصارع "الوعي المفقود"، وكانت ثقته في الشعب بلا حدود.

أقول لهذا النفر الذي يفقد ثقته في ناسه لدى أول خذلان لتوقعاته، لا تظلموا هذا الشعب، ولا تتعالوا عليه، اقرأوا كتالوجه وتعلموا منه، ولا تفرضوا عليه كتالوجاتكم ولا توقيتاكم، فحركة الشعوب لها قوانينها، وحركة الشعب المصري بالذات لها خصوصيتها، فلا تفقدوا ثقتكم في ناسكم، ولا تنعزلوا عنهم، ولا تكفروا بهم، وتفاءلوا بالشعب تجدوه، واعلموا أن الكفر بالشعب أسوأ من تكفيره.

---------------------
بقلم : محمد حماد*
* كاتب مصري، مؤلف كتابي الرئيس والأستاذ - دراما العلاقة بين الكاتب والسلطان‏ وقصة الدستور المصري ونائب رئيس تحرير‏ صحيفة العربي السابق‏

مقالات اخرى للكاتب

محمد حماد يكتب: خسائر إسرائيل في





اعلان