26 - 04 - 2024

هيكل في ظل عبد الناصر (3 من 3)

هيكل في ظل عبد الناصر (3 من 3)

لعل أكثر الذين يهاجمون هيكل هم في الحقيقة يطرونه بأكثر مما يقدحون فيه، خاصة هؤلاء الذين يرفعونه إلى دورالشريك لعبد الناصر في حكم مصر، فهو عندهم أصل، وعبد الناصر الظل، وأن علاقتهما هي علاقة الصوت بالصدى، ويعده بعض هؤلاء واحداً من الذين حكموا مصر، بل يتطاول البعض الآخر عليه وعلى عبد الناصر قبله بالقول:«بأنه كان يحكم عبد الناصر الذي كان يحكم مصر».

ولعلك لا تفاجأ إذا قلت لك أن أنور السادات كان هو الموزع الرئيسي لهذا اللحن رديء الصنعة والأداء، وظل يعزف على جملة موسيقية نشاز، هي أن «عبد الناصر رفع هيكل ليكون شريكاً له في الحكم»، أراد بحجر واحد أن يضرب مصداقية الاثنين معاً. وكررها من بعده أنيس منصور، ومن بعدهم جاء خلق كثيرون يرددون كالببغاوات.

أي إطراء لشخص ـ مهما علا قدره ـ يجعله شريكاً لأهم حاكم عربي في القرن العشرين. أي إطراء لشخص ـ مهما كانت كفاءته ـ يجعله مشاركاً في صناعة أهم أحداث القرن، في منطقة كانت، وما تزال، هي الأهم استراتيجياً في العالم.

ومثل هذا الحديث يطرح سؤالاً: هل كان هيكل «صانع سياسة» في ظل حكم عبد الناصر؟، والإجابة السهلة، وربما المستمدة من كتابات هيكل نفسه، ولا تعتمد على الوقائع الموثقة تقول: نعم، هيكل صانع سياسة في ظل عبد الناصر.بل أن واحداً في قيمة وقدر الدكتور جلال أمين الأستاذ بالجامعة الأمريكية يكتب أن هذا الوصف كان معروفاً، ومسلماً به في حياة عبد الناصر، وأنه استمر، وكان بمعنى مختلف فيما بعد عبد الناصر.

والحقيقة غير ذلك.والشهادات الموثوق بها لعدد لا بأس به من الذين تزاملوا مع هيكل في «خدمة» عبد الناصر، والتخديم على سياساته، تؤكد أنه وإياهم لا يمكن إطلاق وصف «صانع سياسة» على أيهم. ووقائع الأمور تشهد أن عهد عبد الناصر كان فيه «صانع سياسة» واحد، وهو أمر لا يتعارض ولا ينفي وجود «مؤثرات» عدة، و«تأثيرات» متفرقة.

كانت السياسة في زمن عبد الناصر من صنعه، واختلف معه من كانوا يملكون حق الاختلاف معه من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتقاعدوا. كانت كلما تتطور سياسة عبد الناصر إلى مرحلة جديدة، بأهداف متطورة، كانت بعض تلك القيادات التي شاركت معه في قيادة عملية التغيير في 23 يوليو سنة 1952 تغادر الساحة، تاركة له إكمال الطريق التي رسمها، والسياسات التي صنعها.وكان هؤلاء وحدهم أصحاب الحق في القول بمشاركة عبد الناصر في صنع السياسة، ولما اختلفوا افترقوا، واستمر من وافقه منهم على سياسته.

**

سياسات عبد الناصر التي صنعها، وصاغها، وقاد تحقيقها على أرض الواقع، يمكن إجمالها في عدة محاور أهمها:

ـ أن استقلال مصر، وحريتها يفرضان عليها ألا تنكفئ عن محيطها العربي، بل أن تكون مؤثرة فيه بما يحقق استقلال العرب ويمهد لوحدتهم.

ـ أن حرية المواطنين تبدأ من تعديل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يرزح تحتها الشعب في أغلبيته.

ـ أن تعديل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للأغلبية الكاسحة من أبناء الشعب لن يتم في ظل الظروف التي كانت قائمة إلا عن طريق التحول إلى الاشتراكية.

ـ أن معركة الاستقلال التي تدور في مواجهة الخارج (الاستعمار)، ومعركة البناء والتحول الاشتراكي التي تدور في الداخل (الرجعية وأذناب الاستعمار) لا يمكن لهما أن ينجحا في تحقيق استقلالاً وطنياً إلا في ظل علاقات دولية متوازنة، وسياسة خارجية تتحسب للأعداء، ولا تتنكب للأصدقاء.

من هذه المحاور مجتمعة، أو متفردة، يمكن لأي باحث منصف، ونزيه، وموضوعي، أن يفسر أي قرار، أو إجراء، أو سياسة، اتخذها عبد الناصر.

وهي محاور، وأفكار، وسياسات، توصل إليها عبد الناصر أولاً بأول، بدأت معه من «فكرة مركزية» ضاغطة في ظل الاحتلال الإنجليزي، وهي فكرة «التحرر»، وحلم «الاستقلال»، ثم قادته الأحداث ووقائع ما جرى في الطريق إلى الاستقلال إلى تبني التحول الاشتراكي، والتنمية المستقلة، والعمل على توحيد العرب في مواجهة المؤامرة الاستعمارية التي تستهدفهم.

وهذه المحاور لا يجد أي باحث في التاريخ مهما جنحت به عداوته أن لهيكل أو لغيره فضل في «صناعتها» غير فضل جمال عبد الناصر. ولا يمكن انكار أن لهيكل ولغيره أيضاً فضل الصياغات التي قدمت بها هذه الأفكار وتلك السياسات. وتجربة المؤتمر الوطني الذي انبثق عنه الميثاق الوطني في سنة 1962 دالة على ذلك ومؤكدة له.

**

وهنا نسوق قصة لها علاقة بما نقول جرت وقائعها في مارس سنة 1955 حيث صحب محمد حسنين هيكل رئيس تحرير مجلة «آخر ساعة» ومندوب جريدة «الأخبار» الرئيس جمال عبد الناصر إلى مؤتمر «باندونج»، ذلك المؤتمر ذائع الصيت، والذي وضعت فيه قواعد سياسة «عدم الانحياز»، وبرز خلاله الأقطاب الثلاثة الجدد على صعيد السياسة الدولية: جواهر لال نهرو زعيم الهند الكبير، وجوزيف بروز تيتو زعيم يوغسلافيا الفريد، وجمال عبد الناصر زعيم العرب الجديد.

كان عبد الناصر يقود خطى مصر، في تلك الآونة، إلى وضع دولي مميز، وجعلها صانعاً هاماً من صناع السياسة الدولية، وكان في طريقه إلى كسر احتكار توريد السلاح إلى المنطقة العربية، وإلى الاعتراف بالصين الشعبية، في مواجهة السياسة الأمريكية التي ترفض الأمرين معاً (كسر احتكار السلاح، والاعتراف بالصين).

في تلك الأثناء، لن تقرأ في تغطية محمد حسنين هيكل لهذا الحدث الكبير إلا تحقيقاً في «الأخبار» منشور يوم 25 مارس 1955 بعنوان «تعالى معي إلى باندونج»، وفيه يسخر هيكل من إندونيسيا، ولاحظ فيه «أن بائعات الهوى يزيفن بطاقات على أنهن طالبات في الجامعة»، ولن تجد كلمة واحدة في التحقيق الصحافي عن المؤتمر الذي أصبح علامة بارزة في العلاقات والسياسات الدولية، والذي ذهب لتغطيته.

ولم يكن ذلك الرأي من هيكل رأيا عارضاً، ولا كان خطأ صغيراً ويمر، ولكن وفي تحقيق ثان يوم 27 مارس سنة 1955 ستقرأ لهيكل:«لا يعنيني ماذا قرر المؤتمر، ولا كيف كان اتجاه المناقشات فيه، تلك كلها مسائل ثانوية»، وبعد ذلك يعترف هيكل أنه اكتشف أنه أخطأ التقدير، وأنه لم يفهم مغزى «باندونج».

بل واعترف أنه لم يكن متحمساً، لأن يحضر عبد الناصر بنفسه ذلك المؤتمر، وكتب ينقد نفسه ويقول:«إن الاستقبال الكبير الذي لقيه جمال عبد الناصر بعد عودته إلى أرض الوطن بعد مؤتمر باندونج المثير، وبعد الرحلة السريعة فوق بلاد الشرق الأقصى أثبت لي مرة أخرى خطأ كنت قد وقعت فيه، وأعترف بأنني لم أكن متحمساً لسفر جمال عبد الناصر، ولا الاشتراك بنفسه في مؤتمر باندونج».

ومن المفيد أن نتذكر هنا أن علاقة هيكل بعبد الناصر في تلك الأثناء كانت قد توثقت بعد انحيازه الكامل إلى جانبه في أزمة مارس سنة 1954، قبلها بعام كامل ورهانه عليه وسط تلاطم أمواج أزمةٍ كادت تعصف به وبمجلس الثورة.

**

السؤال المطروح على هؤلاء الذين يروجون إلى وصف هيكل بأنه «صانع سياسة» في ظل عبد الناصر هو: متى كان هيكل صانع السياسة في عهد عبد الناصر؟، وما هي القرارات الكبرى التي يمكن أن تصفه بهذا الوصف فيها؟

هل كان لهيكل تأثير يذكر في قيام الثورة؟ 

عندما كان عبد الناصر يخطط لقيام ثورة تجتاح الملكية وتغير وجه مصر، كان هيكل يقترح عليه ـ طبقاً لروايته ـ أن يذهب 200 ضابط يسجلون أسمائهم في سجل التشريفات الملكي تعبيراً عن عدم موافقتهم على حل مجلس إدارة نادي الضباط.

وأسأل: هل كان لهيكل أي تأثير يذكر في أحداث أزمة مارس سنة 1954؟، هل كان له أي تأثير في قرار تأميم قناة السويس؟، هل كان له تأثير في قرار الوحدة المصرية السورية؟

متى كان له تأثير في صناعة السياسة أو الأحداث الكبرى؟، هل كان له تأثير في صدور قرارات يوليو الاشتراكية؟

كان هيكل هناك لحظة تفجر الثورة، واستخدمه جمال عبد الناصر، وقصارى ما يقوله هو نفسه أنه كان هناك.كان هناك لحظة تأميم قناة السويس، و«كان مأخوذاً من جرأة الفكرة وقوة التصميم».وأكثر ما قاله تجرؤاً على عبد الناصر أنه طرأ له ـ بينه وبين نفسه ـ بعض ما فكر فيه عبد الناصر.

كان هناك في كل وقت، مقرباً من عبد الناصر، ولم يفرض نفسه عليه، باختيار عبد الناصر ليكون «شاهداً» قريباً من الأحداث، أراد لنفسه هذا الدور، وأراده له عبد الناصر «حتى يأتي يوم من الأيام يجلس فيه ليكتب قصة ما حدث».

**

لم يكن هيكل ـ بيقين ـ شريكاً، ولا أصلاً، ولا صوتاً.ربما كان صدى الصوت.ببساطة لأن طرف العلاقة الآخر هو جمال عبد الناصر، الذي يتحول الجميع معه إلى ظلال وأصداء، وفي أحسن الأحوال صوراً باهتة، أو مجرد منفذين.

هيكل ـ في نظرنا ـ كان أقل من «شريك»، وأكثر من «شاهد»، إذا جاز لنا أن نعبر بدقة عن واقع الحال كما كان، لا كما يتمنى هذا أو ذاك. وفي رأينا أن «الضعف الإنساني» كان يجذب هيكل أحياناً إلى رواية وقائع ما جرى واضعاً نفسه في منطقة «المشاركة»، وفي أحيان أخرى كانت رواياته تبتعد به إلى منطقة «المشاهدة». فكان «مشاهداً» حين تكون المشاركة محسوبة عليه. وكان «مشاركاً» حين لا تكون «المشاهدة» محسوبة له. وفي جميع الأحوال ظل هيكل ـ بذكاءـ يصر على كونه منذ البداية وحتى النهاية «جورنالجي».

قال لي أحد القيادات التنفيذية البارزة في زمن عبد الناصر إن هيكل لم يكن بأي حال «صانع سياسة» وأنت إذ تقرأ له تجد انطباعاً عاماً بأن دوره السياسي كبير، وأنه رجل Policy Maker، وأستطيع أن أؤكد لك أنه لم يكن هذا بالمرة.

لم يكن هيكل، ولم يدع هو، ولا ادعى أحد غيره ـ أنه مهندس اللحظات الفاصلة في عمر الثورة، وفي حياة عبد الناصر.

الأمر اختلف مع رحيل عبد الناصر، فقد تبدى دور هيكل في صناعة السياسة منذ لحظة اختيار السادات خلفاً لعبد الناصر، وهو دور اعترف به السادات لهيكل في البداية، ثم عاد لينكره بعد ذلك. واستمر هذا الدور بدرجات متفاوتة حتى ما قبل حرب أكتوبر سنة 1973.

لو أننا فرضنا (والفرض هنا نظري لتوضيح ما نريد) أن هيكل محذوف من معادلة قيام ثورة يوليو، ثم حسم الزعامة لجمال عبد الناصر على نحو ما هو معروف في مسيرتها بعد ذلك، هل كانت المعادلة التاريخية التي أنتجت بروز اسم ودور عبد الناصر قد تأثرت بهذا الحذف؟، نكاد نجزم بالقول: لا …

أما إذا حذفنا هيكل من لحظة بدء التفكير في تنصيب السادات، ومن ثم حسم المسألة لمصلحته كلياً بعد ذلك في مايو سنة 1971، هل كانت النتائج ستختلف؟، نكاد نجزم بالقول: نعم.والأحداث والوقائع والحوادث كلها شاهدة على ما نقول.

**

كان هيكل لا ينظر إلى عبد الناصر بصفته، ولكنه ظل ينظر إلى ما يمثله، وإلى ما يقوم به من دور «كنت مؤمناً بأن جمال عبد الناصر ليس الحكم أو السلطة، وإنما هو التجسيد الحي للوطنية المصرية وللقومية العربية.»

وهو أمر لا شك يعطي لطبيعة العلاقة بينهما مذاقاً مختلفاً، ووضعية مغايرة. كاتب صحفي موهوب يجد نفسه في لحظة تاريخية نادرة، مع شخصية لها هذا الحضور التاريخي الطاغي ووسط أمواج حركة التاريخ وفي القلب منها، يعيش عنفوانها، ويلمس بيديه ويرى بعينيه، ويسمع بأذنيه تدافع حركتها.

لم يكن عبد الناصر يحتاج من الصحافة «صناع سياسة»، ولكن كان في حاجة إلى مفسرين لسياسته التي يصيغها، كان يحتاج إلى معبر عن هذه السياسة يؤمن بها، ويتقن التعبير عنها، وكانت مواهب هيكل توفر الشروط المطلوبة.

**

كانت العلاقة بين هيكل وعبد الناصر أكبر من إجمالها، وأوسع من اختصارها، وأشمل من قصرها على أحد جوانبها، واحد من أهم هذه الجوانب نجده فيما كتبه هيكل: «عشت طول عمري صحافي أشتغل في الصحافة من موقف ملتزم، ملتزم بما أراه، وليس التزاماً مسبقاً برؤية حزبية معينة، حتى مع عبد الناصر طرحت أشياء، ولم يكن يوافق عليها، فعلاً تكلمت عن تحييد أمريكا، ولم يكن هو في هذا الرأي، ولم يكن يعترض على حقي في إبداء ما أشاء من آراء، لأني أتكلم من داخل التجربة، ومن موقف وطني،حتى وإن اختلفت مع رؤيته».

أعطاه عبد الناصر حريته في الكتابة عن آرائه، وقال له مرة: «ليس لدي اعتراض على ما تكتب، ولن يصيبك أحد بسوء طالما أنا على قيد الحياة، لكن لن أمنع أحداً من الهجوم عليك، دافع عن نفسك، وعن أفكارك» 

**

هيكل وصف علاقته مع عبد الناصر بأنها علاقة «صداقة وحوار» دام 18 عاماً هي الفترة التي عاشها عبد الناصر في السلطة.وهو «الوصف» الذي رفضه المثقف الفرنسي الكبير أندريه مالرو والذي عمل وزيراً للثقافة مع الرئيس شارل ديجول. في حوار بينهما جرى بعد وفاة عبد الناصر بأقل من أربعة أشهر[i]: قال مالرو: إننا نستطيع أن نجد «حديثاً» بين شخصية تاريخية وبين كاتب، ولكننا لا نستطيع أن نعثر على «حوار» كامل بين شخصية تاريخية، وبين كاتب». 

وقال هيكل: «هل أستطيع أن ألفت نظرك إلى أنني صحافي...»، قال مالرو بسرعة: «ليكن... ليكن، ليس هذا هو الموضوع.... كما قلت لك، هناك أحاديث منشورة بين شخصية تاريخية وبين كاتب، ولكن ليس هناك - فيما أعلم -حوار كامل متصل بينهما».[1]

رفض مالرو أن يقر هيكل على أن «حواراً» يمكن أن ينشأ بين الكاتب وبين الرئيس، وخاصة إذا كان بحجم ودور وقيمة و«كاريزمية» عبد الناصر في مصر، أو ديجول في فرنسا. وهو رفض ليس فقط أكثر حصافة، وأقل غروراً، ولكنه ـ في الحقيقة ـ أكثر واقعية من محاولات هيكل تصوير العلاقة بين الكاتب وصاحب السلطة بأنها علاقة «صداقة»، و«حوار»، كأنها علاقة بين أطراف متصارعة، أو كأنها علاقة بين أنداد.

**

كلام أندريه مالرو يدفعنا إلى طرح السؤال: هل كان هيكل صديق عبد الناصر؟

إجابة هيكل تقول:«إنني خلال الثمانية عشر عاماً الأخيرة حصلت على ما أعتبره أعز وأغلي شيء، وهو صداقة جمال عبد الناصر.»، وقال إن علاقتهما كانت علاقة صداقة وحوار.

السؤال وجهته إلى الكثيرين ممن كانوا بالقرب من عبد الناصر.

محمد فائق وزير إعلام عبد الناصر الذي استلم منه هيكل الوزارة وسلمها إليه مرة أخرى، (وهو من أكثر الذين يقدرون دور هيكل إلى جوار عبد الناصر) أجاب بالصمت أكثر من الكلام، وعندما صمت بدوري منتظراً إجابة، قال الأستاذ فائق كأنه يرفض الفكرة:صديق؟ ... أصل موضوع الصداقة مع رئيس الجمهورية موضوع......وصمت من جديد ثم عاد فقال:.. كبيرة جداً حكاية صديق.... حوار؟…. آه طبعاً.. لأن عبد الناصر هو الذي أمر أن يطلع هيكل على مجريات الأمور، لأنه اختاره كمعبر عنه، يكتب له أفكاره بطريقة ممتازة، لكنها أفكاره هو، يطلع هيكل عليها، وعلى ملابسات الوضع، كي يستطيع أن يعبر عنها بأفضل صورة، مراعياً تلك الملابسات.

أحد المقربين إلى جمال عبد الناصر وكان في دائرة صنع القرار بالقرب من الرئيس قالها لي صريحة[ii]:هيكل دائماً يكبر دوره، ويشعرك أنه هو محور كل ما يحدث، وهو ما لم يكن صحيحاً في ظل عبد الناصر، كان يقابل الريس لمدة عشر دقائق، يخرج بعدها ليكتبها على أنها عشر ساعات، وسوف تصدق أنها كانت عشر ساعات لأنه يكتبها «كويس» جداً.

سألت: إذا وافقنا معك أن «الصداقة» غير واردة في علاقة الرئيس والكاتب، فما هي في رأيك طبيعة العلاقة بينهما؟ خاصة في حالة هيكل وعبد الناصر؟

قال: ببساطة علاقة رئيس بحجم جمال عبد الناصر مع كاتب بحجم حسنين هيكل، لا أكثر ولا أقل، هيكل خدم مع عبد الناصر، وكان أحياناً يمثل بالنسبة إلى الرئيس «وجهة النظر الأخرى»، وكنت وأنا مع «الريس» نتحدث في موضوعات معينة وقبل أن ننتهي يقول:«خلينا نشوف رأي الضفة الأخرى»، ويضحك وهو يتصل بهيكل.

وقال محدثي، وهو يؤكد على كل حرف من كلامه:«لا تنس أن هيكل كان جورنالجي شاطر جداً، وكفاءة غير عادية، وعبد الناصر يحب التعامل مع هذه النوعيات، وقد حاول الاعتماد على غيره، فعل ذلك مع مصطفى أمين وخانه في النهاية، ولكن هيكل وطني، كان عبد الناصر يعرف أفكاره ذات الاتجاه الغربي أو الأمريكي، وكان ينظر إليه كنافذة يطل من خلالها على الرأي الآخر لدى الغرب، ولكنه كان دائم التأكيد على «وطنية هيكل»، وقد سمعتها منه بنفسي، ذكرها لي عبد الناصر أكثر من مرة: «هيكل معنا في نفس الخندق».

يواصل محدثي فيقول:أضف إلى ذلك أن هيكل كان مفيداً لعبد الناصر من ناحية أخرى غير كتابة أفكاره، فقد كانت له علاقات جيدة، وكان عبد الناصر يوجهنا إلى الاستفادة من العلاقات الاجتماعية غير الرسمية، وكان كلفني عندما كنت وزيرا بأهمية العلاقات الاجتماعية، وكان يرى أنها مفيدة جداً للحصول على معلومات، كما أن العلاقات الاجتماعية الجيدة تفيد في التعرف على حقيقة الآخر أكثر من العلاقة الرسمية. 

وأعود لأسأل: إذا وافقنا على صعوبة أن تقوم علاقة صداقة بين الكاتب والرئيس، فهل هل كان السادات صديقاً لعبد الناصر؟

ويجيب محدثي بسرعة وبتلقائية:السادات كان صديق عبد الناصر، آه طبعاً، وكان عبد الناصر يستريح إليه، ولماذا لا يستريح مع رجل يقول له: «صوتي في جيبك يا ريس»، واستطاع أن يقنعه أنه بلا أدنى مطالب أو مطامح في الحكم، وأنه صاحب مرض، وأنه مصاب بأزمة قلبية، وأنه يأتمنه على تربية أولاده، بعد ما يموت، ولعلك تلاحظ أن السادات اقترب أكثر من عبد الناصر بعد رحيل المشير عبد الحكيم عامر.

وتوقف محدثي ثم وكأنه يحدث نفسه:عبد الناصر والسادات أصدقاء. آه، إنما هيكل وعبد الناصر. ..

وسكت محدثي من جديد.وكان سكوته سكوت رفض.وليس من نوع السكوت الذي هو علامة القبول.
-------------------------
بقلم : محمد حماد*
* كاتب مصري، مؤلف كتابي الرئيس والأستاذ - دراما العلاقة بين الكاتب والسلطان‏ وقصة الدستور المصري ونائب رئيس تحرير‏ صحيفة العربي السابق‏

الحلقة الأولي

الحلقة الثانية

[1] في مقاله بصراحة ـ المنشورة في الأهرام بتاريخ 15 يناير سنة 1971 بعنوان «عن عبد الناصر في مناسبة عيد ميلاده».

[i]  في مقاله بصراحة ـ المنشورة في الأهرام بتاريخ 15 يناير سنة 1971 بعنوان «عن عبد الناصر في مناسبة عيد ميلاده».


[ii]طلب مني عدم ذكر اسمه، وسمح باستخدام المعلومة كخلفية بدون نسبتها إليه، وتمنى ألا تتغلب الصحافة على الأخلاق، ووعدته.


مقالات اخرى للكاتب

محمد حماد يكتب: خسائر إسرائيل في





اعلان