29 - 03 - 2024

وما تفنى العناقيد!

وما تفنى العناقيد!

بعد أن انتصر الناصر بن قلاوون على خصومه، ودانت له مصر بالولاء للمرة الثانية، أراد أن يقضى على الفساد. 

أشاع رجاله ومعاونوه أنه سوف يطهر البلاد، ويمعن في التطهير، حتى لو أصاب أقرب الناس إليه.

كان سبيله إلى تحقيق ذلك هو استخدام عدد كبير من الوشاة والبصاصين، فانتشروا في ربوع القاهرة وضواحيها، يبحثون ويستقصون عن الثروات الحرام المخبأة في سراديب وأقبية القصور.

وبدا للعامة من قوة الدعاية، أن اللصوص قد وضعوا أيديهم على مقدرات البلاد بشكل مخيف، واستهتار بالشعب المسالم.

بدأ قلاوون بالأمير سلار، ويقال انه كان منافسا له على السلطة، وأن موضوع الفساد كان مجرد تجميل، للصراع المستعر بينهما. 

فأرسل إليه وحبسه ليخبر عن ثروته، التي نهبها وكدسها، بينما لا يجد الناس لقمة يأكلونها.

ولما شعر بالخطر على حياته وأن اللعبة صارت على المكشوف، أرشد عن سرداب تحت البيت، فأخرجت منه سبائك من الذهب والفضة وأكياس من الجلد، بكل كيس عشرة ألاف دينار. فحملوا من ذلك السرداب خمسين حملا من الذهب والفضة، ووجدوا غرفة خشبية أخرجوا منها سبعا وعشرين خابية مملوءة بالذهب، ثم أخرج ألفى سرج مطعمة بالذهب والجواهر، وألفى قلادة من الذهب. 

وقد حبسه السلطان ومنع عنه الطعام والشراب، فمات يشتهى رغيفا، ولم يمنعه ما اغتصبه من دم الفقراء. 

وبعد وفاته وجدوا له من الأموال ما يكفى لحمولة خمسة آلاف بغل، ووجد له خيل ثلاثمائة فرس، ومائة وعشرون قطار بغال، ومائة وعشرون قطار جمال، هذا عدا الأبقار والجواميس، والأملاك والمماليك والجواري.

ودل أحد مماليكه على مكان مبنى في داره، فوجدوا حائطين مبنيين ـ بينهما أكياس دنانير لا يعرف عددها، وفتح مكان آخر فوجد فيه فسقية، ملآنة سبائك ذهبية منسكبة بلا أكياس.

هذه ممتلكات فاسد واحد في العصر المملوكي، والعجيب أن صاحب كتاب النجوم الزاهرة، الذي أورد الخبر، صمت تماما بعد ذلك، ولم يشف غليلنا بالقبض على بقية اللصوص.

فليس من المنطقي ولا المعقول، أن يتمخض التطهير والتبشير به عن مصادرة سلار فقط.

لابد أن آلافا غيره يكنزون المال والجوهر في أقبية وخزائن وسراديب، لكنهم لا ينافسون قلاوون ولا يهددون عرشه.

إذن ما هلل له ابن تغرى بردى، وقدمه على أنه ثورة على نهب المال العام، ليس سوى تصفية حسابات بين الكبار.

وقد استمر انتقام السلاطين من أتباعهم ينصب على تجريدهم من كل ما أضاعوا عمرهم في جمعه، ولا أدرى الحكمة من هذا التكديس، ثم تركه بعد الموت، وفى غالب الأحيان يمنع الورثة من التصرف فيه، ويحمل إلى حيث لا يعرف أحد.

وقد بث الجبرتي في كتابه الثمين، طرقا شيطانية لانتزاع اعتراف المغضوب عليهم، بأماكن كنوزهم.

فكانت هناك طريقة عصر الأكعاب وهى من أقسى العقوبات، التي تنتزع آهات تخلع القلوب.

كان هناك أيضا خلع الأظافر، ونتف اللحى، وخطف حلمات الأثداء بالملاقط الملتهبة، وإجبار الشخص المعذب أن يأكلها.

لم يبحث الحكام آنئذ عن أسباب ظاهرة النهب، ومحاولة إيقاف التغول والهيمنة على خلق الله، بإقامة نظام للمراقبة والمحاسبة.

بل كانوا يتغافلون طالما لم يقترب الخطر من عروشهم، فإذا أحسوا باقترابه، يخرجون الأوراق ويستقدمون القضاة والمحتسبين، وتنقلب الدنيا رأسا على عقب، لأن شخصا مثل سلار، نازعته نفسه في ساعة نحس، أن يحلم بحكم مصر.
----------------------
بقلم: سمير المنزلاوى

مقالات اخرى للكاتب

وما تفنى العناقيد!





اعلان