26 - 04 - 2024

مدام بوفارى : رواية أم قضية؟

مدام بوفارى : رواية أم قضية؟

"مدام بوفاري" رواية ضخمة ورائعة، ونقلة نوعية في الكتابة، صدرت عام 1857، أبدعها جوستاف فلوبير (الكاتب الفرنسي الأشهر 1821 – 1885م)

يعتبر فلوبير أحد رواد الواقعية، وقد فرض على نفسه قيودا مرهقة في الكتابة حيث كان يقضى نحو ثمانية أيام، كادحا لكتابة صفحة واحدة يرضى عنها، بعد عناء شديد في الحذف، والمراجعة.

وروي عنه أنه أراد في أحد أعماله، وصف حديقة كرنب في ضوء القمر، فانتظر حتى اكتمل البدر، ثم حمل أوراقه وقلمه ليغشى حديقة كرنب غارقة في الضوء الفضي.

ويقال إنه قضى سبع سنوات كاملة في كتابة "مدام بوفاري" والتي تعد في طليعة الأعمال الواقعية التي ظهرت بعد انحسار موجة الرومانسية.

قدم شخصيته النسائية المحورية في الرواية وهي مدام بوفاري ببراعة، فرجع إلى الوراء وعرض تطور حياتها ومشاعرها والحالات النفسية التي استبدت بها في مختلف المراحل.

وقدم كذلك شخصية الزوج الطبيب شارل بوفاري، والتي رغم صعوبتها وتناقضها نجح في إبراز سلبيتها وترددها وضعف شخصيتها.

وقد تعارفا في ظروف غريبة، فشارل الذي فقد زوجته، استدعي لعلاج ساق والدها، وهناك تتعدد اللقاءات وترضى به زوجا.

لكنها تضيق بجو الريف الرتيب والكئيب، وتكره حفلاته المقبضة، حالمة بباريس حيث السهر والمنتديات والمراقص التي ترضى غرورها ونفسها المتوثبة.

ومثل تلك الشخصية القلقة، تبحث دائما عن التغيير، وفى مدينة صغيرة تلتقي بكاتب المحامى الرشيق (ليون)، فتجد فيه صنوها في الجموح والتكالب على المتع والولع بالبحر والرحلات.

وينمو شعور السأم من زوجها إلى حد الكره، ولولا عدم يقينها من حب ليون الماجن، لهربت معه، مولية ظهرها للشقاء.

ويظهر في الأفق السيد بولانجيه، صاحب إحدى الضيعات، وأدرك بخبرته سهولة الصيد، فقال لنفسه:

- إني أتصور زوجها غاية في الغباء، وهى من غير شك سئمت معاشرته، وأظافره قذرة ولم يحلق لحيته منذ ثلاثة أيام!

وهي بطبيعة الحال ترى أن معيشتها في هذه البلدة الصغيرة مملة، وتفضل أن تعيش في المدينة وترقص كل مساء، وهذه المسكينة لا بد أنها نزاعة إلى الحب، فإذا قال لها أي رجل ثلاث كلمات مهذبة فإنها ستعبده عبادة.

ويجرب معها معسول الكلام فينجح:

- إني لم أجد مثل هذه المتعة في الاجتماع بامرأة قبلك، ولكنك ستنسيني وأكون كخيال مر بحياتك، ولكن لا، من المؤكد أنني أمثل شيئا في حياتك وأفكارك.

ويتفقان على الهروب، لكنه ينكص ويتراجع، فتصاب بصدمة، وتفرغ حزنها في الاستدانة والإنفاق ببذخ، حتى عجزت تماما عن تسديد الصكوك.

وبعد شد وجذب تذهب إلى بولانجيه بقدميها، لكنها جاءت لتطلب مبلغا من المال، ويعتذر لضيق ذات اليد، فتنسل غاضبة وتشترى سما من الكيميائي لتنهي حياتها.

 اضطر شارل بعد موتها أن يبيع كل ما يملك من الأواني الفضية والأثاث ليسدد ديونها، وفتح ذات يوم درج مكتبها ليواجه بخطابات ليون وبولانجيه، فاكتأب وترك الطب، وكان يتمشى في الحديقة باكيا وصارخا كطفل، حتى عثرت عليه ابنته ميتا وفى يده خصلة من شعر أمها.

هذا موجز للرواية التي تعرض فلوبير بسببها للمحاكمة، وتحولت من رواية يستمتع بها الناس، إلى قضية تثير اللغط ويشترك فيها محامون وقضاة.

كانت التهمة هي الإساءة إلى الأخلاق العامة، وخدش الحياء والتهجم على قيم البرجوازية.

يبدأ مارى سينار محامى فلوبير مرافعته:

إن السيد جوستاف فلوبير متهم أمامكم بأنه قد وضع كتابا رديئا، وأنه أساء فيه إلى الأخلاق العامة والى الدين، والسيد فلوبير موجود بجواري، يؤكد أمامكم أنه وضع كتابا شريفا، ويؤكد أن فكرة كتابه منذ السطور الأولى وحتى الأخيرة فكرة دينية، ومن الممكن التعبير عنها بهذه الكلمات: التعبير عن الفضيلة ببشاعة الرزيلة.

ويأتي دور المحكمة، التي تبدأ تلاوة الحكم، بإقرار ما ذهب إليه الدفاع، لكنها توجه اللوم للكاتب، لأن مهمة الأدب تزيين النفس والترويح عنها وتطهير الأخلاق من الرذيلة، ثم تقر بوجود الهدف الأخلاقي في الرواية، لكنه كان من الواجب أن يكتمل بالتحفظ في التعبير..

وفى الطبعات التي تلت المحاكمة صدرها فلوبير بإهداء إلى محاميه المفوه قائلا: "فبفضل دفاعك المجيد، اكتسب كتابي هذا في نظري الخاص من الأهمية، فوق ما كنت أرجو وأتوقع".
-----------------------
بقلم: سمير المنزلاوى

 

مقالات اخرى للكاتب

وما تفنى العناقيد!





اعلان