28 - 03 - 2024

من وحى نزهتى اليومية

من وحى نزهتى اليومية

كلما وصلت في رياضتي إلى عزبة يوسف، أقف مذهولا وتتوالى دقات قلبي كلحن شجي.

لا زالت أطلال مملكة الحاج محمد عطية في مدخلها، تروى قصتها الطويلة، التي استغرقت نصف قرن أو يزيد.

لم يبق من الدكان والظلة التي كانت أمامه، سوى أحجار وأخشاب متناثرة، تكاد تختفي في جوف العدم.

هنا كانت محطة للراحة، يجلس فيها المارة اتقاء وهج الشمس.

يجلس بينهم صاحب المكان، الحاج محمد بجلبابه الأبيض، معتمرا طاقية من نفس اللون، بينما يحتفظ وجهه الأسمر البرئ بابتسامة عذبة يقدمها للجميع.

أعرف رواد المحطة بالاسم، فهم يأتون من العزب المجاورة: الجاهل والشعراوى والسبكى وعلام ومجاهد وعوض الله والسيد عبد السلام.

كم دارت بينهم حوارات حول السياسة والزراعة والطرائف والمشكلات والأوجاع والأشواق والمعجزات والفشل والموت.

وكم ارتفعت ضحكات دافئة بالحب والمودة، وزفرات محملة بمشقة انتظار الآمال البعيدة.

يهب صاحب الدكان كلما قدم زبون ليمنحه احتياجاته، ثم يعود ليستأنف فرحته وألمه.

كانت تقف خارج المحل الصغير ثلاجة بدائية حمراء من الخشب، مكتوب على جدرانها: اشرب كوكاكولا، مليئة بالزجاجات وبعمود من الثلج المحطم فوقها.

عندما يتصاعد الصهد من حلوق الرجال، وتقف الشمس فوق رؤوسهم عنيدة حارة، تمتد أيديهم إلى المفتاح الحديدي الصدئ المعلق في الثلاجة.

ترتفع أصوات فتح الزجاجات وخروج الهواء المختزن كالطلقات، وقبل أن تفور وتفقد الصودا، يقذفون محتوياتها بلهفة مستمتعين بالطعم الحريف والغازات التي تخرج من أفواههم.

بعد وصول الكهرباء، جاءت ثلاجة حديثة أكبر حجما، كانت تصدر أزيزا منتظما طول اليوم ، وتبرد الزجاجات دون الحاجة إلى عمود الثلج.

أمام الدكان على شاطئ الترعة ثمة توتة تطرح ثمارا شهية بيضاء، وترسل نسمات رخية محملة بليونة الماء.

يترك الحاج محمد غلمان الناحية يصعدونها حتى ينتهي الموسم، ويشعر بوحشة الخريف وتساقط الأوراق صفراء ذابلة، فتختفي أرجل الأحبة الصغار.

يظل الدكان مفتوحا حتى المغرب، ثم يركب جحشته المربوطة طول اليوم، تأكل وترهف أذنيها لما يقال.

على بعد خطوات يقف الجامع الذي بناه صاحب العزبة، جليلا مزخرفا كتحفة إيمانية ومعمارية، تتردد فيه أنفاس طاهرة، ودعوات عميقة، وأمنيات مشبوبة.

لم يصبح شئ من ذلك كله موجودا.

الحاج محمد عطيه الجميل، مرض وأغلق المحل بالدرفيل والقفل، ثم رحل في صمت.

رحل من بعده بالتتابع معظم الرواد الطيبين المسكونين بالحنين والشغف والصبر.

أهمل المكان فلعبت به يد الزمن لعبا ذريعا، لم يعد سوى الخواء والفراغ والنفايات تتلاعب بها الريح.

أغلق المسجد أيضا أبوابه، حيث تسلخت جدرانه وتضعضع سقفه، وران عليه سكون ثقيل، فانطوى على نفسه يجتر الهمهمات القديمة الحلوة، وروائح الأحبة العالقة بالحصير الممزق.
---------------------
بقلم: سمير المنزلاوى

مقالات اخرى للكاتب

وما تفنى العناقيد!





اعلان