مشهد محزن، لم يكن الأول والأكثر إيلاما أنه لن يكون الأخير.. قسوته لا تحول دون تكراره ليتجرع كل من يعيش تفاصيله، مرارته دون أدنى أمل فى أن ينتهى المشهد ويغيب عن أعيننا لغير رجعة.
يقفالمحصل فى الأتوبيس أو القطار، يمر على الركاب.. يمارس عمله الروتينى بلا صخب، ثم يتوقف فجأة عند أحدهم، يبدو الحوار فى البداية هادئا ثم ترتفع وتيرته تدريجيا.. فيلتفت بقية الركاب للضجيج الذى يفتعله المحصل بتعنته في المطالبة يثمن التذكرة، بينما يبدو العجز وقلة الحيلة على الراكب البسيط، يتلعثم، يرتبك، يتصبب عرقا، يتمتم بكلمات غير مفهومة محاولا تبرير عدم تمكنه من دفع ثمن التذكرة، يتذرع أحيانا بأنه سينزل فى أقرب محطة، أو يفتعل النسيان فيفتش فى جيوبه عله يقنع المحصل بأنه فقد التذكرة، أو يشخص بصره إلى المجهول عل السماء ترسل له عونا ينقذه من ورطته تلك.. لاتفلح كل محاولاته البائسة، بل على العكس تزيد المحصل قسوة وصلابة وتعنتا وغلظة فى المطالبة بثمن التذكرة.. لا يدرى من يتابع ذلك المشهد المهين ما إذا كان يفعل ذلك تنفيذا لواجبه أو امتثالا للأوامر أو أن الأمر سيعود عليه بمكافأة إذا مازادت حصيلة الغرامات التى يوقعها أم أنه يعود لغلظة قلب وافتقاد للرحمة وعدم تقدير الظروف القاسية التى تجبر البعض على الهروب من دفع ثمن تذكرة لأنه ببساطة لايمتلك ثمنها، أو ربما لأن زيادة تلك الحالات، بعدما عصف الفقر بالكثيرين، زاد من غلظة قلوب المحصلين تماما مثلما يفعل الأطباء بعدما تعودوا على سماع صرخات المرضى ففقدوا الإحساس بالتعاطف معهم.
لكن المؤكد أن إحساسا بالمرارة والألم والحزن يسكن كل قلب إنسانى رحيم قدر له متابعته ومعايشة تفاصيله والتعاطف مع حال الراكب البسيط والشفقة على حالة العجز وقلة الحيلة والضعف والهوان التى يمر بها.
صحيح أن هناك من يصم أذنه ومشاعره ويتنحى جانبا ويضع أذنا من طين وآخرى من عجين مبتعدا عن تفاصيل يرى أنها لا تخصه ولايستطع المشاركة فيها، ربما لأنه يرى أن حاله لاتختلف كثيرا عن ذلك المأزوم بثمن تذكرة، أو لأن شعورا بالسلبية بات هو المسيطر على كل ردورد أفعاله يمنعه المشاركة حتى بالكلمة الطيبة ومحاولة تهدئة الموقف.
تلك السلبية بلغت ذروتها ليشهد الجميع موت أحد الركاب وإصابة آخر بعدما أجبرهما محصل القطار على القفز منه ولم ينتظر وصوله للمحطة.. فى واقعة شهيرة لم نكد ننسى تفاصيلها، حتى داهمتنا واقعة أخرى مستفزة ضحيتها مجند بسيط لم يملك مثل كثيرين غيره ثمن التذكرة ليقوده حظه العثر لمحصل سليط اللسان غليظ القلب، وينتهى المشهد هذه المرة بتدخل سيدة رحيمة آثرت أن تدفع ما يعجز عنه المجند وتعيد له جزءا من ماء وجهه المهدر وسط صمت وسكوت الجميع.
للأسف لا يفجر تكرار المشهد المؤسف قدرا من المرارة قدر ما يدفعنا للغضب، غضب أن يصل الحال بالكثيرين للعجز عن دفع ثمن تذكرة، والمؤكد أن أعداد هؤلاء قابلة للتضاعف بعد إرتفاع ثمن تذاكر الاتوبيس والمترو والقطارات، وربما لن يجد الفقراء والعاجزون من يتولى عنهم دفع التذاكر، ليس لغلظة فى القلوب ولكن لشح الجيوب والفقر الذى بات يضرب الجميع بلا رحمة، حتى كاد ينزع عنهم ورقة توت الستر التى تقيهم شر السؤال والعوز والإقتراض.
تكرار المشهد لا يفجعنا بقدر مايكشف لنا الذنب الذى ترتكبه الحكومة كل يوم فى حق المطحونين، بعدما فقدت بوصلة الرشد، وفتحت الباب على مصراعيه للقيام بمشروعات الطرق والكبارى وتغاضت عن أن للشعب أولويات أكبر وإحتياجات أشد، فملايين لا تملك قوت يومها ويصعب أن يملؤها زهوا بمدنا جديدة وفنادق عظيمة ومنتجعات فخيمة تعلم تماما أن قدمها لن تطؤها يوما، وأن عيونها ستحرم من مجرد رؤيتها حتى يوارى أجسادها الثرى.
لن تحل مشكلة المحتاجين بان ينوب بعضنا في تحملها، تماما مثلما لا تجد التبرعات لبناء المستشفيات، فللدولة دور من المهم ألا تغفل فى القيام به وللمواطن اولويات لا يجب غض الطرف عنها مهما كانت وجاهة المبررات.
من الظلم أن نسرف فى بناء الطرق وننسى حق من يسير عليها، ومن الخطأ أن نتباهى بمنظومة جديدة للنقل وأساطيل حديثة من الأتوبيسات والقطارات بينما نغض الطرف عن مواطنين لايمتلكون دفع ثمن تذكرة.
-------------------
بقلم: هالة فؤاد