(1)
أن يراقبك – وأنت تكتب على الفيس بوك – جهازٌ أمني، أو أن يراقبك مديرك في العمل، فهذا هيّنٌ ويسير؛ لأنك ستجد ما تردّ به أثناء سؤالك أو استجوابك، ربما سيتفهم الجهاز الأمني، بسبب خبرتِه، بعضَ ما تردّ به، ربما سيكتفي مديرك بهز رأسِه .. وينتهي الأمر.
لكن الجحيم الحقيقي هو أن يراقبك بعض أهلِك وعائلتِك، هؤلاء الذين تنتمي إليهم - دون إرادةٍ منك – ولِدتَ فوجدتَ نفسك منهم وبهم وإليهم، بغضِّ النظر عن درجات الاتفاق أو الاختلاف بينك وبينهم .. وهُم أنفسهم هؤلاء الذين يظنون – بل يعتقدون – أنك ما دمتَ منتميًا إليهم، أو ما داموا منتمين إليك، فهُم أوصياء عليك، وعلى أولادك!
هل جربت من قبل أن تعجز عن التعبير بدقةٍ عن مشكلةٍ تواجهك؟
لا أقصد هنا عجزك عن التعبير الأدبي أو الفني، لكني أقصد عجزك عن التعبير العادي السردي الطبيعي، وهو أن تحكي ألمَك ووجعَك ... هل جربتَ هذا العجز؟
أنا أعيشه منذ فترةٍ كبيرة، منذ سنوات ... وكلما حاولت الكتابةَ وجدتني عاجزًا، فالفكرة لن تصل بسهولة، والفكرة أكثر تعقيدًا من أن تحيط بها الكلمات والجُمَل .. لكن المدهش أن المشكلة التي أعاني منها حوّلت حياتي إلى جحيم ... جحيم حقيقي، أعيشه وأقاومه بحِلمي وصبري وجَلَدي، والناسُ يرونني أكتب وأضحك، وأنشر كتبًا، وأسافر، يرون سعادتي بأصدقائي، وسعادةَ أصدقائي بي .. كثيرون يغبطونني على ما أنا فيه، لكنهم لا يعرفون شيئًا عن جحيمي!
مشكلتي هي أهلي .. أسرتي .. عائلتي .. أقاربي الذين أنتمي إليهم وينتمون إليَّ، مشكلتي أنني مختلفٌ عنهم، وأنهم مختلفون عني ... قد يكونون جميعًا على صواب، وقد يكونون محِقين في كل ما يذهبون إليه ... لكن تظل في النهاية نقطةٌ واحدة فارقة، أنا ألتفَتُّ إليها، لكنهم لا يلتفتون إليها ... وهي أنني لا أستطيع أن أكون مثلهم أبدًا، مصيبًا وعلى حق مثلهم، لا أستطيع ولا أريد، وفي الوقت نفسٍه لا أطالبهم بشيء ... لم يحدث أن طالبتهم بشيء، ولا حتى أن يكونوا مثلي!
بدأت المشكلة بالكتابة ... أنا رجلٌ أعيش الكتابة، وعندما أقول أعيش الكتابةَ فأنا أعني دلالاتِها كاملة، هي كل وقتي ... والمشكلة أنني أحاول الكتابةَ الأدبية والفنية التي تقوم على بعض مجازٍ أحيانًا، على تضفير الواقعي بالمتخيّل، للكتابة أدواتٌ وآليات يعرفها الأصدقاء والمتخصصون، ولا يعرفها الأهل ولا الأقارب ولا العائلة.
ومِن هنا بدأت المشكلات، وكَثر الغمز واللمز، وكَثر الطعن بالتأكيد .. وكل هذا قد لا يهم ولا يضير ... لكن الأذى يبدأ عندما يتحول كل هذا إلى ابنِك أو ابنتك أو زوجك، ومواجهتِهم بهذا الذي يكتبه أبوهم مثلا! لتبدأ محاكمات – تبدو لنا نحن معشرَ الكتّاب هينةً وسخيفة، لكن أثرها على بعض ولدِك أو زوجِك ثقيلٌ جدًا – كيف يَكتب أنه قابل امرأة؟ كيف يكتب أنه لم يُصَلِّ؟ كيف يذكر زوجتَه في القصيدة؟ كيف تتحمّلونه؟ لكن السؤال الأخطر يكون (كيف لا تمنعونه؟!)
لتبدأ مناشدات المقرّبين، أرجوك توقّف .. بلاش سيرة كذا! اللي بتكتبه عيب!
ناهيك هنا بتدخل أبناء عمومة أو خؤولة، يحدّثونك بوعيهم وثقافتهم، ويشتدون عليك في القول، بل يغلِظون أحيانًا، بينما أنت مفتقِدٌ أيَّ وسيلةٍ من وسائل الالتقاء والتواصل معهم، كيف يمكنك أن تشرح لهم ما لا يمكن أن يستوعبوه!
تخيلوا أن على الفيس بوك بعض أهلي وأقاربي الذين لا همّ لهم ولا شاغل إلا متابعة صفحتي، لا لشيء إلا لالتقاط المادة المكتوبة ومن ثم التواصل سريعًا مع أولادي وزوجي!
تخيّلوا أنني نشرت يومًا صورة ابنةٍ لي على الفيس بوك، فقامت القيامة!
كيف تعرّض ابنتك لأن يلتقط صورتَها أحدُهم؟!
استنفدت كل الطرق والوسائل في محاولة إقناع أسرتي الصغيرة أن الكتابة شيء بعيد عن الواقع، حاولت مرارًا وتكرارًا ... لكن ضغط المتابعين والمتربصين من عائلتي أكبرُ من قدرتي على إفهامِهم. أعرف أنهم يتأذون بالتأكيد!
لكن ما الحل؟ مستحيل أن أنصاع لهم ... لا أستطيع على الإطلاق.
وبقاء الحال على ما هو عليه مستحيل، فكان لا بدّ مما ليس منه بد!
(2)
بهدوءٍ وسلام، يمكنني أن أقول إنني ألتمِس عذرًا لأسرتي الصغيرة، لكن لا عذرًا لكثيرٍ مِن أهلي وأفرادِ عائلتي فيما يصنعون، لأن الشأن ليس شأنَهم.
أريدك أن تتخيل معي هذا الحوار، والذي هو دار بالفعل مع زوجي يومًا ومع ابنتيّ أيامًا، وأنا أحدّثهن عن أنني لم أترك لهن شيئًا، وهنّ يسألنني ماذا صنعتْ لك الكتابة؟ وأنا أجيبهن لا شيء، لكن ربما أترك لهن قيمةً أو معنى، وأكون حريصًا على استخدام "ربما"!
أريدك أن تتخيل معي وقْع الكلمة عليهن ... أي معنى؟! وأي قيمة؟!
إن المعنى والقيمة هذيْن هُمَا ما نتأذى الآن بسببهما من العائلة والأقارب!
في الدِّين أنت متهَم ... في حُسن الخلق أنت متهَم .. فضلا عما يقال عن غرورِك وكِبرِك وصلَفِك تجاه أقاربك وعائلتك، وهو ما يظهر عندهم جليًا في عدم مشاركتك مناسباتهم الاجتماعية، بل عدم تواصلك معهم فيما يخوضون من أحاديثَ لو اضطررتَ يومًا للجلوس معهم.
فعن أي معنى وأي قيمةٍ تتحدث إلينا؟
أنت تمارس الكتابةَ التي (تعيشها) كما تقول، والتي لم تَجنِ مِن ورائها مغنمًا يقِينا حتى حوادث الزمان، بينما لو فتحتَ حانوتًا أو متجرًا، وقضيتَ فيه نصف الوقت الذي تقضيه أمام جهاز الزفت الكمبيوتر، لكان لك معنى وقيمة .. فضلا عن تأمين حياتنا ومستقبلنا.
أنت (تعيش) الكتابةَ الوهم فقط؛ لأنها ترضي ذائقتك وغرورك، ولا بأس أن تفعل ذلك، ولكن ليس على حسابنا، نحن أسرتَك، وأهلَك، وعائلتك، وأقاربك، وليتها كانت كتابة في الدين أو الدعوة إلى عمل الخير، ليتها كانت كتابة في عزاء أحدهم، أو تهنئة آخر، لكنها كتابة تدعو إلى العجب والسخرية، وتسبّب لنا الحرجَ والأذى!
رضينا أن تترك لنا القيمة والمعنى، فهل القيمة والمعنى فيما يقول الناس، (لاحِظوا فيما يقول الناس هذه) في الكتابة عن الجنس؟ عن العلمانية؟ عن سبّ رجال الدين؟ عن آرائك الغريبة في كل شيء؟!
هذا الحوار ليس متخيلا، وليس مِن بنات أفكاري، لكنه دار ويدور، بألفاظٍ وكلمات مختلفة، يدور بأدبٍ ولطف، لكنه أيضًا يدور بحزنٍ وأسى يصيب القلبَ في مقتل!
وليتَه دار ويدور بيني وبين أفراد أسرتي الصغيرة فقط، لكنه يدور كثيرًا بيني وبين بعض أهلي من ناحية، وبين أسرتي الصغيرة وبعض أهلي من ناحية أخرى، لكنه في هذه الأخيرة يدور بشدةٍ وعنف!
----------------------------
بقلم: أشرف البولاقي*
* المقال نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك