10 - 05 - 2025

حول مصير مصر!

حول مصير مصر!

تملك مصر تاريخًا عظيمًا لا يقل عن سبعة آلاف سنة، وتملك جغرافيا عظيمة كأنها "الجنة" وسط قارات العالم القديمة. وتملك شعبًا ذا حس تجريبي عظيم ترك معجزات ماثلة لليوم.

وفي معظم مراحل التاريخ ظلت مصر مطمعًا لكل الغزاة من الفرس إلى اليونان والرومان وصولًا إلى الأتراك الذين حلبوا ضرعها لأكثر من أربعة قرون.

حاول بعض حكام مصر الاستقلال، واستعادة وجهها الإمبراطوري الذي كثيرا ما امتد إلى معظم بلاد الشام وما بعدها أحيانا، وإلى منابع النيل جنوبًا.

من أهم تلك المحاولات محاولة شيخ البلد علي بك الكبير الذي دحر الجيش العثمانلي وطرده حتى من الشام، وقضى على النزعات الانفصالية الداخلية (مثل شيخ العرب همام). كما قضى بالغدر والاغتيال على معظم زعماء المماليك، وكان قاب قوسين أو أدنى من تأسيس دولة قوية مستقلة.

 ما فعله شيخ البلد علي بك الكبير، فعله بعد ثلاثين عامًا الباشا محمد علي. الفروق الأساسية بين التجربتين، أن محمد علي قضى على المماليك (شلل المنتفعين واللصوص والسمسرة والخونة والطابور الخامس) دفعة واحدة وليس تدريجيا. كما أتيح له وقت أطول في الحكم للانتقال من طور إلى طور، بدءًا من مهادنة العثمانلية، ثم تقوية نظام الحكم، ثم مواجهة العثمانلية. هذه المراحل حرقها علي بك في وقت قياسي جدًا. يُضاف إلى ذلك أن محمد علي مع تثبيت إمبراطوريته لفت أنظار الدول الاستعمارية الكبرى التي سعت لتقويض مملكته مثل إنجلترا وفرنسا والأتراك طبعا.

 مع شيخوخة محمد علي الطاعنة ووفاته هو وابنه إبراهيم باشا ذراعه الأيمن، في غضون أشهر قليلة.. فقدت الإمبراطوية "العقل المدير" لها.. وبدأت في أواخر حكمه عملية تقليص النفوذ والتدخل في إدارتها.

حاول الخديو إسماعيل الحفاظ على إمبراطورية جده وأبيه، وجعل مصر "قطعة من أوروبا". لكنه ارتمى في أحضان الغرب (على طريقة صندوق النقد الدولي) وهؤلاء تلاعبوا بالديون والفوائد وتقريبا تم رهن مصر لسداد ديوان هائلة.

حاول عبد الناصر مواجهة الاستعمار الذي ركع مصر ومعظم دول المنطقة.. تشبث ب "القومية العربية" كأيديولوجيا وبعض القيم الاشتراكية.. ومع إصراره على توسيع نفوذه، خاض حروبا كثيرة لم يكن مستعدًا لها. وانهزم في معظمها.

خلاصات هذه المحاولات على مدى 250 عامًا، أن أي محاولة لبناء مصر قوية محكومة بالفشل لأحد الأسباب التالية:

•  التمحور حول طموح شخصي (علي بك، محمد علي باشا، الخديو إسماعيل، عبد الناصر)

•  الاعتماد على الولاء وليس الكفاءة (علي بك اعتمد على تلميذه وخانه مقابل الجلوس على الكرسي، والباشا اعتمد على نجله ونجله مات، وعبد الناصر اعتمد على السادات وعبد الحكيم عامر)

•  ضعف التمثيل الشعبي (علي بك اكتفى ببعض الحلفاء من المماليك، الباشا كان يكره المصريين عموما وفضل إبعادهم عن السلطة، إسماعيل فضل الفرنسيين، عبد الناصر فضل ضباطه الأحرار فولاهم كل شيء لإدارة مصر كأنها عزبة لهم، مبارك فضل ابنه وأصحاب ابنه، وصغر مقاس العزبة أكتر)

•  عدم تقوية المؤسسات (معظم المحاولات التي أشرت إليها اكتفت فقط بتقوية المؤسسة العسكرية والأمنية، لكن الدول لا تنهض بذلك فقط.. فهناك حاجة لمؤسسة قضائية قوية، برلمان قوي، نظام صحي قوي، نظام تعليم قوي. لذلك انتهى كل هؤلاء من علي بك إلى عبد الناصر بكل سهولة، بهزيمة عسكرية فادحة)

•  الدروشة الدينية (أبو الدهب حرض الناس على علي بك بحجة خيانة خليفة المسلمين وموالاة الروس الكفرة، لحية الملك فاروق خليفة المسلمين القادم، مزايدة حكام جمهورية يوليو على أنهم أكتر تدينا من الإخوان، ترك مبارك السلطة الرمزية كلها تديرها جماعة الإخوان وغيرها، واكتفى فقط بأن معه خزنة الفلوس وقرار الجيش) والنتيجة أنك لا تستطيع لليوم منع أو تقييد التعليم الديني بكل خزعبلاته.

•  شوفينية المصريين، هناك نبرة تعال مهيمنة على وعي المصريين عموما.. دا أحنا اللي ها نجيب الكورونا للكورونا.. دا احنا أم الدنيا.. دا أحنا اللي دهنا الهوا دوكو.. وبالتالي احنا أمام وعي منغلق ومتعال بذاته وعاجز عن إدراك الأزمة .. فمعظم المسؤولين يتحدثون عن مشاكل هم أنفسهم جزء منها وليسوا جزءا من الحل.

•  غياب "النموذج".. الباشا محمد علي تبنى روشتة عكس حفيده الخديو إسماعيل.. عبد الناصر تبنى نموذج عكس قيم ثورة 19 والسادات عكس عبد الناصر.. ومبارك تعامل بمنطق "احمدوا ربنا إني هاكلكم واشربكم".. تحولنا إلى حقل تجارب حسب مزاج كل حاكم. مع إنه لو بعتنا عشرين خبير لدراسة النموذج الماليزي أو السنغافوري أو الهندي.. وضمنا أن يعبر النموذج عن التمثيل الشعبي والمؤسسات حتى لا يظل مرهونا بمزاج شخص زائل. ساعتها نستطيع أن نقيس خطوات التقدم وننقد التجربة ونطورها. لكن كل فترة نعيد اختراع العجلة.. "حاكم عاوز يرمي إسرائيل في البحر وحاكم عاوز ينام في حضنها.. طيب والشعب دوره أيه يا كابتن؟" ومرتبط بالنموذج جودة المعايير. اللي على أساسها تختار أستاذ الجامعة ولاعب الكرة والطبيب وموظف البنك (بالتأكيد ليست معايير الواسطة والرشوة والمحسوبية).

•  النظرة الجزئية، بمعنى أنه "لو الحاكم مهتم بمشروع فاشل اسمه توشكى تلاقي كل البلد لا تفعل أي شيء سوى تأليف أغاني لتوشكى.. ولو مهتم بحفر أنفاق.. الناس كلها تلاقيهم حفارين".. لكن الحقيقة لا يمكن الاهتمام بتقوية الجيش مع قطاع صحي مهلهل.. لأنه ببساطة عدوى مثل كورونا كفيلة بسقوط الجميع.. ولا يمكن عمل انفتاح اقتصادي بدون تقوية مؤسسات الديمقراطية وإلا سيكون فهلوة وتهليبا.. ولنأخذ النموذج الألماني الذي خرج من الحرب العالمية الثانية مدمرا تماما.. لن تجد الألمان نجحوا في بناء مؤسسة عسكرية وتركوا السياسية تعرج.. أو في الاقتصاد وتركوا المنظومة الصحية أو الرياضية حسب ظروفها.

•  تجفيف الثقافة و الإعلام (السلطة والاخوان غالبا مبسوطين من الموضوع دا) .. من المفترض أن ما يسميه البعض "القوة الناعمة" هي بمثابة التزييت.. والتليين.. لا تستطيع أن تحكم بقرارات عسكرية.. وسحل الإرادة والأرواح.. للثقافة والإعلام قوة مضافة قادرة على اختراق حتى الأعداء في عقر دارهم.. قادرة على الإقناع من دون قطرة دم أو حبس الآلاف في السجون. (كان عبد الناصر واعيا بشكل جيد لدوريهما) مسارات الثقافة والإعلام هي المسؤولة عن تمرير أيديولوجيا مقنعة، ومعبرة عن أحلام الناس، وإصلاحات السلطة ورؤية المستقبل. وهي من تقوم بالأدوار الرقابية لضمان تحقق العدالة والكرامة الإنسانة وصون الحريات وتكافؤ الفرص للجميع.
_______________
بقلم: د. شريف صالح*
* نقلا عن صغحة الكاتب على موقع "فيس بوك"

مقالات اخرى للكاتب

حول مصير مصر!