14 - 05 - 2025

اِسْقِنِي منْهُ .. وَخُذْ كُلَّ جُيُوشِي

اِسْقِنِي منْهُ .. وَخُذْ كُلَّ جُيُوشِي

 التفاحة قبل النضوج، تفاحة، ولكنها فجة حامضة لا تشترى بمليم.. ثم يجري فيها سر أعظم، فإذا هي تستدير كوناً مترعاً تنشرح له الصدور، وتنفتح له النفوس، والجيوب أيضاً، وبهذا السر العالي وحده، تستحق التفاحة تلك القيمة التى نعرف، وتستحقّ هذا المعنى الذى نحب ، فواحدة منها كل يوم، تغنيك عن طبيب كما يقولون . 

الذي حدث داخل التفاحة هنا – عزيزي القارئ - هو كوْنٌ غيرُ مرئيّ، لكنه راح يشكل كوناً مرئياً، يتجاوز البصر إلى البصيرة، وينقلك من الطبيعة المادية المحدودة للتفاح، إلى ما وراء هذه الطبيعة من عميق المعاني، فإذا أنت بإزاء مَدىً من القدرة الإلهية لا يحيط بأوله وهْـم. التفاحة هنا، هي عند التأمل، متجاوزةٌ لذتَها ومنفعتها للجسم الإنساني، وتلك مقاصد مهمة بطبيعة الحال، لكن التفاحة في حقيقة من حقائقها الأهم، هي بطاقة جميلة شديدة الاختصار، تجيئ دعوةً حميمة، أنْ تَعالوْا أيها العقلاء، إلى الجمال المطْلَق، ذلك الذي لا يمكن اختصاره، وكأن التفاحة هنا – شأنها شأن مظاهر الكون، من أصغر ذراته إلى أعظم مجراته - ليست أكثر من "زرٍّ" تبدأ به الحركة - إن صح التعبير- ليتصل المحدود الذي هو الإنسان، بغير المحدود الذي هو الله الخالق سبحانه، وكأن الكون بموجوداته جميعاً، ليس إلا معراجاً إلى ملكوت السموات، لمن يريد أن يرقى بالخالد فيه عبْرَ الفاني منه ، فإذا تحقق هذا الاتصال، اندفق في القلب الإنساني نهرٌ من اليقين، يجد بردَه وتفيض به نفسه، حتى تمتلىء به جوانحه، ولكنه إذا همَّ لحظتئذ أن يتوضحه، لا يرى منه شيئاً، وإذا أراد عليه حجةً ، لم يستطع الجلاء عن بيانه بكلمةٍ واحدة، وإذا الْتمس التعريفَ به، لم يجد إلا هذا الذي يشرق في قلبه، ويمضي نوراً في سائر جوارحِهِ . 

نهر اليقين هذا – عزيزي القارئ - هو سرُّ الأسرار في المسألة كلها، هو رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، إذا حضر حضر كل شيء، وإذا غاض غاض كل شيء، وهو الذي يجعل أسعار الصمت تقفزُ إلى مؤشر غير مسبوق، حين تزدحم الأسواق بالثرثرة الفارغة، فيقل الكلام، ويتوقف البحث عن البراهين، ويبدأ غير المحدود، عمله في المحدود، فإذا القوانين المستقرة في عُرْفِ الناس، تستدير إلى الاتجاه المعاكس، لتبدأ عملها في خدمة أصحاب هذا اليقين، مؤتمرة بإرادة القوة العظمى التي ركَزَتْ قوانين الأشياء في الأشياء فإذا هى تعمل، وهي وحدها القادرة على تعطيل هذه القوانين، أو إطلاقها في الاتجاه المعاكس عند الاقتضاء ، " وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بيْنَ الْمَرْءِ وَقلْبِهِ .." فعْـلُ هذا اليقين في الحياة –عزيزي القارئ-، تُقدِّمُ عليه الحياةُ نفسُها من قديمها إلى حديثها، مئاتِ الأدلة التي يكفي بعضها لإعادة الأمن إلى أفئدة الذين تلوِى بهم رياحُ الأحداث كل يوم، حتى يظنوا بالله الظنون، أو يبيعون قضاياهم بالثمن البخس إذا اضطروا إلى ضيِّق المذاهب، وكانوا – لو شربوا من نهر اليقين- على مد الذراع من شواطئ السلام . 

ولنا أن نتذكر هنا بالإجلال كله، طرَفاً منْ حادثِ مريمَ الْعذراء ساعةَ أجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلى جِذْعِ النخلة، وحصَرَهَـا الْفَـزعُ على سُمعتها فى بني إسرائيل حتى كادتْ أضلاعُها تنخلع، فتمنَّتْ أنْ لو كانت في الذاهبين نَسْياً منسياً، مع أن المَلَكَ أخبرها " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا " ولكنها الطبيعة البشرية في الموقف الصعب، لم يكلفْها اللهُ أن تخرج عن بشريتها بالكلية، وهو يعلم أمرها كله، ولذلك عطل لها القانون الذي درج عليه البشر في موعد نطق الأطفال ، فإذا بعيسى وهو ابن اللحظة – صلى الله عليه - يناديها من تحتها "ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريّا "، فإذا هي فجأة ً والسلام ينسكب في روحها، تبدأ طوراً يجاوز طبيعة البشر، ولا سيما في مثل هذه الحال، فمتى كان لامرأة في مخاضٍ أن تهزَّ غُصناً، فضلاً عن أن تهزَّ جذع النخلة لتساقط عليها رطباً جنياً؟ 

ولنتذكر هنا أمراً مهماً جداً، فإن السماء وهي قادرة وحدها على فعل كل شيئ، أرادتْ أن تعلمنا الأخذ بالأسباب وبذل الممكن كله، قبل أن تتدخل هي لتمنحنا مفاتيح المستحيل، ولو أن مريمَ لم تشرب من نهر اليقين في ربِّها، لاستدرجها الشيطانُ إلى مبادئ المنطق، الذي يسلم في هذه الحالة باستحالة فعل شيء كهزِّ النخلة، ولكن الله سبحانه أراها رأىَ العين ويقين القلب، درساً مصحوباً بوسائل الإيضاح الإلهية، حتى تلقى بني إسرائيل غير محتاجة إلى الدفاع وهم يتناوشونها بالألسنة الحداد " ما كان أبوك امرأ سوْء، وما كانت أمك بغيَّا ً"، وحين تخبرهم أنها لن تتكلم، فقد نذرت للرحمن صوماً، تتدخل السماء ليعمل قانونها هي، فيجيبهم الله على لسان الطفل، بقوله: ".. إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً،.." وهنا يأخذ بني إسرائيل ما يأخذهم من الصدمة والدهشة والعجب وكل ما تعرف لغات الأرض من هذا الباب. 

موقف مريم هنا – عزيزي القارئ - لم يكن ينفع فيه الجدل، ولا يحله المنطق، ولا يجدي فيه إلا أن تتدخل قوة غير معتادة بحل غير معتاد، وهذا الحل غير المعتاد، ليس مطروحاً في الطريق، إذ هو غراس لا ينمو إلا في نهر اليقين، ولا يُوهبُهُ إلا أناسٌ ارتووْا من هذا النهر، فلم يعودوا يظمئون إلى غيره أبدا ً. 

وليس موقف مريم هنا واحداً ولا أول، فقد أبطل الله سبحانه لنبيه "موسى" ، " قانون الإغراق "الذى هو في طبيعة الماء، وأبطل لإبراهيم قانون الإحراق الذى هوفي طبيعة النار، وأبطل لمحمد صلى الله عليه وسلم قانون الزمان والمكان في ليلة الإسراء والمعراج، وأبطل له قانون القوة يوم " بدر" فغلبت الفئة القليلة أضعافها من العدد والعتاد، فكان من أمر قريش ما كان.

 لم يكن ذلك – عزيزي القارئ - إلا لأن القوة الفانية المحدودة، "أيقنت" في القوة الخالدة التي لا تحد، فعرفت الطريق، فزاد يقينها – إذ سلكته - بأن ما عند الله هو أطيب مما عندها، وما في يده هو أقرب مما في يدها، وأن وعده حق، وأن لقاءه قريب، ومن هنا راحت تطبق بوعي وقصد، جميع ما بلغها من أوامره، وراحت "تصدق" جميع ما وعدها على رسله، وهذا "التصديق" الذي يصاحبه " التطبيق " هو سر الأسرار في الأمر كله، كما رأينا. 

وقد يقول بعضنا –عزيزي القارئ- هذه الأمثلة السابقة، من أنبياء لهم خصوصية فلا يقاس على أحوالهم ... ونجيب بما هو معلوم من أن مسألة "اليقين" التي هي موضوعنا، لا يختلف فيها ناس عن ناس فهي نهر متاح لكل الواردين إلى يوم الدين، فاليقين هذا، هو أصل العقيدة، فإذا غاب، غاب كل شيئ، فالإيمان لا يقوم على مجرد "رأي"، أو على قيام "برهان"، ولو أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه، سأل محمداً صلى الله عليه وسلم يوم الإسراء برهاناً واحداً على صدق ما حدَّثَ به أهلَ مكة، لانصرف كثيرون من أتباع الدعوة الناشئة عن نبيهم. 

السؤال المهم هنا هو: هل كان الصديق يملك دليلاً واحداً على صدق محمد، غير هذا الذي يجده في قلبه؟ وهل ترك هذا الذي يجده مساحة في هذا القلب، لسؤال أي سؤال مما تطرحه قريش، أو يطرحه العقل المعاصر المتفذلك ؟ ربما زعم زاعم – عزيزي القارئ - أننا بالدعوة إلى هذا اليقين، أمام قضية غامضة، يلغى فيها العقل، وتهمل فيها الأسباب، ويصادر فيها المنطق، ويدعى الناس إلى حالة من "الدروشة" التي تعجز عن صناعة الحياة، وتعطل معطيات العلم وثورة المعلومات والانفجار المعرفي، إلى غير ذلك مما يزعم المرجفون، ونعوذ بالله والعقل واليقين من هذا الذي يرجفون به. 

وأظنك –عزيزي القارئ- لم تنس بعد، أن صدر هذه المقالة، أكد ما أكدته كل لافتات الإسلام الصحيح، إذ قررت أن الكون كله من أصغر ذراته إلى أعظم مجراته –وليس حديث التفاحة إلا مثلاً- هو دعوة إلى الفهم والتفكير واكتشاف التدبير الإلهي العالي، وإلى استثمار هذه المعطيات في عمارة الأرض إلى أبعد مدى، لأن كل كشف عن سر الله في خلقه، هو كشف لدرجة من درجات السلـَّم الذي يرفع إلى الله، ويبني راسخ اليقين فيه والتوكل عليه، وإلا فأين نذهب بقوله تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء"؟ وهل يكون علمٌ إلا بعقل، وهل تكون عمارة إلا بهندسة وتكنولوجيا؟ وهل يكون نفاذٌ في أقطار السموات والأرض إلا بسلطان؟ إن دعوتنا هنا هي إلى إيقاظ "اليقين" في نفوس الشباب، وربط أهدافهم المحدودة في الأرض، بغاياتهم غير المحدودة عند خالقهم، وبناء هذا الربط على فكرة الفرح به والثقة فيه، حتى ينبعثوا للبناء وحماية حرماتهم بأعزِّ ما يملكون، لأنه في غياب هذا الربط، يضعف العزم، وتقومُ الحسبةُ كلُّها على القوة المادية وحدها، وليس من المصلحة في شيئ، أن نخرج من غيابة العقل التي نحن فيها الآن ، لنسقط في غيبوبة الروح، فلا يجدي علينا يومئذ ما وجدناه بأرْواحنا ولا ما وجدناه بعقولنا، خصوصاً أن الأمم من حولنا قد سبقتنا في العلم والبناء بمسافات لم نعد نرى أوائلها، إن مثلاً واحداً من أمثلة كثيرة معاصرة ينتصب الآن دليلاً حياً ومدهشاً، على جدوى اليقين في صناعة الحياة مهما قلَّت الإمكانات، في هذا المثل البسيط جداً، نهدي هذا الهروب الإسرائيلي الذي سجلته عدسات الدنيا، في ساعات الانكسار المذل من جنوب لبنان، أمام شباب المقاومة الراغبين في الشهادة "يقيناً" بوعد ربهم، نهدي هذا المشهد إلى كل "المهرولين العرب" والمطبعين والمطبلين والمرجفين ممن زحموا الأرض العربية بالجيوش التي لا يخافها العدو، كما يخاف شخصاً واحداً، يوقن أنه مستعد للموت، وإذا كان "الفضل ما شهدت به الأعداء"، فلنرفق مع هذه الهوية شهادة "رون بن شاي" من صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية يوم 24/5/2000، حيث يقول: "سينتابنا الإحساس بالخجل طويلاً، من الصورة غير المشرفة التي تم فيها الانسحاب "، وشهادة زميله "أمير أورون" صحيفة "ها أرتس" في 25/5/2000: "لو كان هذا العالم عاقلاً لوجد السبيل لاستنساخ ملايين النسخ الباردة لـ"باراك"، فالصورة – يقصد الانسحاب - أقوى من كل كلام يرافقها، فهي صورة الهزيمة لباراك ولجيش الدفاع الإسرائيلي!! ". 

إن الإسراف في دفع كل هذه الملايين لشراء الأسلحة، ثم الإسراف في الإعلان بأن العرب ليس لديهم إلا "خيار السلام"، ثم إسراف العدو في رفض ترسيم حدود أي حدود، ثم إسرافه في هدم المقدسات والبيوت والأحلام العربية، ثم معرفتنا الأكيدة بحقيقة الغدر والخسة الإسرائيلية التي أكدها القرآن .. تلك التي استخدمت جيش لبنان الجنوبي قفازاً حقيراً خمسة وعشرين عاماً، ثم ألقته قفازاً قذراً في ساعة الشدة، كل هذا – عزيزي القارئ - هو في الحقيقة إسراف في إهانة ذكاء العقلاء في الشارع العربي. 

ومن حسن الحظ أن هذا الإنسان رأى بعيني رأسه كما يرى العالم في جنوب لبنان، ما جعله يعيد حساباته في المسألة، ليدرك جدوى اليقين الذي يقهر كل الأسلحة ويكسر أنوف الجبابرة، ويجعله يعيد ترتيب أموره لتنهض على هذا "اليقين" الذي يتدفق في شرايينه دماً حراً، وفي صدره إرادة لا تلتفت إلى فلاسفة التطبيع، ولا تقبل ببعض الحق، ولا تبحث عن نصر هزيل، ولا بأس عليها ولا عتب، إذا هي عجزت الآن عن حقها كاملاً، أن تتركه كاملاً لمن لا يعجز عنه غداً إن شاء الله. ترى – عزيزي القارئ - لو ا فترضنا أن الأوطان الصحيحة، تبني حسابات الأرباح والخسائر، على أن أصحاب " اليقين الصحيح" هم الأرقام الحقيقية في عملياتها، أفلا يصبح مهماً، بل حتماً، أن ندعم ميزانيتنا بقوة غير معتادة، حتى يمكن لها أن تخرج من غرفة العناية الحرجة ؟

 ذلك – عزيزي القارئ - لأن العدو قد أدرك منذ زمان أنه إذا انتصب اليقين في صدور المسلمين، فلن يصبح له وجود، وهو لذلك عازم على ألا يدع أرض المسلمين، إلا كبقايا بيت محترق، إذا لم تكن قد احترقت وذهبت، فقد احترقت وبقيت. أم أنك – عزيزي القارئ - مازلت تحسب أن هذه الحرائق في الخريطة العربية والإسلامية، تقعُ مصادفة؟ وهل يمكن بعد ذلك، أن نظل تفاحاً حامضاً، أو مأساة مسافرة تحرسها الأسلحة الهائلة التى نشتريها كل يوم ؟.
----------------------
بقلم: د. سعيد شوارب

مقالات اخرى للكاتب

اِسْقِنِي منْهُ .. وَخُذْ كُلَّ جُيُوشِي