"العلم" في انطلاقته المثيرة المعاصرة، يذكرك بفرس مغرورة، تبلغ حوافرها كل مرة إلى مدى أبعد من بصر العلماء، فهى لا تلبث أن تنتج وراءها مسافات هائلة من الإنجاز المتسارع والأفكار التي تدخل في ما يشبه الخيال عند الكثير من المتابعين.
فالعلم لا يكف عن سحق المكان واختراق المجموعات الكونية، والغوص داخل نواة الذرة والخلية، واكتشاف دخائل النفس الإنسانية، بل إن العلم يسحق الزمان ذاته كما يسحق المكان، على نحو يبدو هو الآخر أشبه بالجنون، وما هو من الجنون في شيء، والفلاح المصري الدكتور "أحمد زويل" يحول "الثانية" الزمنية في اكتشافه المذهل الذي نال عليه جائزة "نوبل"، إلى أجزاء يسميها "الفمتو ثانية" وهو عبارة عن (واحد على ألف تريليون من الثانية) ليبني على هذا الاكتشاف آلة تصوير أسطورية السرعة، تستطيع التقاط ما يجري داخل جزيئات النسيج البشري، بما يترتب على ذلك من ثورة كبرى في الطب والعلاج وأشكال التكنولوجيا الحيوية، وما لهذه التكنولوجيا من استخدامات عسكرية مرعبة، يصعب على الخبراء أنفسهم التكهن بما تفضي إليه، ولذلك نجد إسرائيل مثلا تسرع إلى دعوة الدكتور "زويل" إلى لقاء مع أعضاء الكنيست ليشرح لهم في جلسة مطولة تلك الأبعاد العلمية الهائلة وإمكانات توظيفها.
والتكنولوجيا في تنوعاتها المختلفة ولا سيما تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، هي دائما عالم يقظ مستعد للوثب اللحظي وراء العلم، تجسد أفكاره وتحيلها آلات وأدوات وأجهزة، فما يكاد "أحمد زويل" مثلاً يعلن عن اكتشافه، حتى تنتفض الشركات والخبراء والفنيون ليجعلوه شيئاً فاعلاً في الحياة، شىء بعيد التأثير في تغيير مفاهيم الناس وتوجيه سلوكهم وتنظيم خططهم، بل إن التكنولوجيا لتجعل العلم نفسه يلهث وراءها أحياناً، وهي تضيف إلى رصيدها كل يوم جديداً يخلط اللامادي إلى المادي، ويجمع الواقعي إلى الخيالي، حتى أصبح للخيال نفسه هندسة وكائنات رقمية وحياة بعيدة التأثير في حياة الإنسان، واسأل في ذلك خبراء الإنترنت، وأصحاب المحلات الخيالية التي تبيع كل شيئ حقيقي عبر عالمها الوهمي.
جميل طبعاً أن يقفز العلم كل يوم، وأن تثب التكنولوجيا، وأن تتفجر المعلوماتُ حكوماتٍ إلكترونية وخدمات آليةً وشلالات من المعرفة، وكأن البشرية تعوض بهذه الكشوف المثيرة أحقاباً ممتدة في كهوف الملالة والبطء والجوع المعرفي، وكأنما كان الإنسان كائناً غافياً كسولاً هتف العلم به فصحا ومضى وثباً، ومشى مرَحا.
ولكن... هذا التقدم المدهش في العلوم والتكنولوجيا بما له من آثار إيجابية مدهشة، كانت له آثاره على جانب السلب، مدهشة أيضاً بل مفزعة فعلاً، وإن كان العلماء وأهل التكنولوجيا يحاولون إخفاء ذلك وتجاهله عبر الوعود المسرفة بأن العلم والتكنولوجيا والمعلومات والإنترنت هي الطريق الوحيدة إلى الجنة المفقودة، فهي نبع الحلول ونبع بدائل الحلول لمشكلات الإنسان، وهي الطاقة الممتدة التي لا تتعرض للنضوب مثل الطاقة المعتادة، وهي رفاهية الغذاء والكساء والثقافة والتربية والترفيه، وهي المتعة بالصحة والجنس والعمر الممتد بلا ملل.
فإذا قلت: قفوا لحظة أيها "التكنوقراط"، وانظروا إلى خرائب البيئة وخرائب الروح وخرائب الاجتماع، أشاروا إليك في غضب مستخفٍّ، بأن حل مشكلات التكنولوجيا، ليس إلا مزيداً من التكنولوجيا نفسها، ثم اتهموك بالخلط بين تكنولوجيا الصناعة، تلك الهمجية العنيفة التى عصفت بالعمال واستغلت الأطفال وأظهرت الفساد في الأرض،وخرقت الأوزون، وخلقت نسخاً كثيرة من "نيرون"، وبين تكنولوجيا المعلومات تلك الدقيقة الطيبة التى لا تعرف الزيوت ولا الدخان، فهى رقيقة مثل رقائق برمجياتها، متسامية مثل موادها الخام، غنية كالكنوز بالمعلومات والبيانات، متدفقة كالأنهار بالمعرفة.
يقولون ذلك في ثقة وكبرياء،مثل كبرياء تكنولوجيا المعلومات المتوقدة الذكاء، ثم يلتفتون عنك في زهوة المنتصر.
لقد ذهل هؤلاء في حميا النشوة المعوماتية التى تأخذ بعقولهم،عن حقيقة كبيرة تأخذ بخناق حياتنا المعاصرة، وهي أن الآثار المدمرة لتكنولوجيا الصناعة، لم تظهر إلا بعد أكثر من نصف قرن من بدئها،ولا يمكن الحكم الآن ببراءة تكنولوجيا المعلومات إذن، مادمنا لا نزال عند البدء، مع أن البدء نفسه كثير المخاطر، فلا شك أنك-عزيزى القارئ- سمعت التحذير مما يسمى "إدمان الإنترنت"، وما يسمى ب" العنف الترفيهي" الذي يتفشى في الأطفال والشباب من متابعة الألعاب العنيفة والبرامج الدموية، وما يسمى بالطبقية المعلوماتية أو المعرفية، التى لا تعبأ بالفقراء، وما يسمى بالحروب الكونية التى ستدور رحاها حول مصادر المعلومات، لا مصادر المواد الخام، إلى غير ذلك مما علمنا ـ عزيزى القارئ ـ وما لم نعلم .
الذى يزيد المشكلة تعقيداً، هو ذلك الغرور الذي يصاب به العلماء والخبراء وقد غرتهم النتائج الباهرة لما يصنعون من أفكار وآلات مذهلة الدقة، حتى بدا أن الكون في نظرهم خاضع لعقولهم منقاد لإرادتهم، وأن ماكشفوه من قوانين الطبيعة قادر على تفسير ما لم يُكشف، وهذا في تصوري مدى من الغرور المفرط، بل المفزع، الذى يمكن أن يدفع بالأرض وسكانها إلى ما لا تحمد عقباه، خصوصاً إذا تذكرنا ما نشرته وسائل الإعلام من أن العلماء يفكرون في سحب الكرة الأرضية بكاملها، إلى موضع في الفضاء أقل تلوثاُ من موضعنا هذا، لأن تكنولوجيا المعلومات في المستقبل سوف تجعل هذا أمراً قابلاً للتنفيذ .. هكذا يظنون، وأخشى ـ عزيزى القارئ ـ أن يكون هذا الغرور التكنولوجى الفاحش هو مبادئ الحالة العجيبة لنهاية الأرض وأهلها، تلك الحالة التى أشار إليها القرآن الكريم في سورة "يونس" حين قال "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازَّيَّنَت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً، فجعلناها حصيداً، كأن لم تغن بالأمسً"
ولنا ـ إن كان ممكناً ـ أن نهدهد خوفنا الآن من غرور العلم والتكنولوجيا ونتائجها البعيدة على مصير هذا الكوكب. وأن نحصر تفكيرنا فيما يجري حولنا وما سوف يجري في أجيالنا القريبة القادمة، فضلاً عن البعيدة، من أثر التكنولوجيا التي يفرزها التقدم العلمي على بناء الشخصية الإنسانية، وحسبنا ما يتردد اليوم بقوة حول المشكلة العالمية الساخنة، فيروس كورونا ،أو "corona covid19” ، والتسلل إلى إعادة هندسة الجسم البشرى للتحكم فى سلوك البشرية وفى عدد سكان الأرض .
التكنولوجيا مادية بحكم الميلاد، موضوعية بحكم قوانين الفيزياء، ونتائجها مؤكدة أذا تأكدت صحة مقدماتها، فإذا أنت أدخلت المعلومات إلى الكمبيوتر على النحو المطلوب، خرجت إليك الشاشة بالمطلوب لا محالة، كما توصل في الكهرباء سالباً بموجب، ليخرج إليك التيار لا جدال، وهكذا، خبير واثق، وإجراءات صحيحة، يعنى نتائج يقينية، وكل العلوم التجريبية وكل أشكال التكنولوجيا، تقدم هذه الثقة التى كانت هي منزلق الغرور عند الكثير من العلماء والخبراء، ثم انتشرت بغرورها نفسه عندما انتشرت بين الأجيال ولا سيما في الغرب المتقدم تكنولوجياً.
وهذا التقدم العلمي التكنولوجي المتسارع كما نرى، هو تغذية يومية متسارعة للشق العقلي وحده في الإنسان، حيث يترسخ عنده اليقين كل يوم من معطيات العلم، فيترسخ عنده تبعاً لذلك حالة من "التوكل على العلم" وآلاته المنضبطة، تلك التى لم تخذله مرة واحدة، ولا بأس في ذلك طبعاً، ولكن البأس كله في أن يجئ هذا التكثيف العقلي ذو النشأة المادية، زحفاً أسود على الشق الروحى المضئ في الإنسان، فيصيبه بحالة مأساوية من الخمول والإنطفاء والتشقق، في الوقت الذي لا يجد ما يرطب وقدته وتشققه من أشكال تنعش الوجدان، وما يبث في روحه مشاعر الرضا وظلال السكينة عندما تعصف به رياح الحياة المرعبة أحياناً، وهذه المعادلة تقوم بينه وبين الله حاجزا، كجدار سميك ذاهب في الارتفاع، بل هو لا يشعر أصلاً بالحاجة إلى الله، كما كان يفعل أسلافه قبل العلم والتكنولوجياعندما ينقطع الغيث، فإذا هم يدخلون في صلاة وتضرع متوسل، والمؤسف أن الشباب لم يصبح فقط فريسة مادية للعلم ولسيْل التكنولوجيا في بركان ثورة المعلومات المعاصرة، مع أنها وحدها تهدد الروح بالتصحر، بل انحسر الخطاب الديني أمام المد العلمي، وصاح غلاة العقلانيين في رؤيتهم الأحادية للإنسان بأن الدين هو أفيون الشعوب، إذ هو ظاهرة لا عقلانية بحتة، وسوف يدهسها عما قليل قطار العلم والحسم العقلي، وبأن عالمنا هذا هو شئ واحد مكتفٍ بذاته، منطوِ على قوانينه التي يكفى كشف بعضها لتفسير ماتبقى طى الغيب، وأن الحضارة التي قدمت مراكب الفضاء وحكمت ظلمات البحر وغزت الكواكب، لم تعد بحاجة إلى إله .
وتتقدم تكنولوجيا المعلومات والآلات الذكية، ومعها "العولمة"، فإذا هي تنذر الإنسان بالمزيد من ظلمة الروح وجفاف الوجدان، فتقرر ألا شئ ثابت في هذا الكون، فكلها احتمالات لا نهائية، وأننا مندفعون إلى طريق مجهول تاهت فيه المعالم بين النظام والفوضى، والفواصل بين العام والخاص وبين الواقعي والرمزي، والإنترنت نفسها مثال على غياب هذه الفواصل (انظر في ذلك: الثقافة العربية وعصر المعلومات ـ نبيل علي).
وتتكفل وسائل الإعلام بتأزيم وتعتيم ما تبقى من مساحة الروحى، ليصبح الإنسان وقد تخشب وتقزم داخل الإنسان .
وبعد، فكأنما تعيدنا مادية "العلم" وثورة المعلومات وتكنولوجيات الصناعة والاتصال، إلى نوع جديد من "العصر الحجري"، فكل شئ مادة، الأفكار مادة، الحياة مادة، المعرفة قوالب، كل شئ ينتهي إلى ثنائية الصفر والواحد في لغة الكمبيوتر، حتى الخيال أصبح هندسة وكائنات رقمية، والإنسان في قوانين علمه ومعلوماته وأجهزته سادر في ماديته لا يلوى على شئ، حتى أنه لا يلتفت إلى المعاني الكبرى التى زرعها الله على طريق البشرية، إن الله أراد أن ينقذ الإنسان من غطرسته وغروره بقوانين العلم، فأبطل لإبراهيم عليه السلام قانون الإحراق في النار، وأبطل لموسى قانون الإغراق في البحر وأبطل لمحمد قانون الزمن وقانون المكان يوم الإسراء والمعراج، ليقول للإنسان، إن خطراً هائلًا سينفجر فى وجهك،إذا توكلتَ على قوة قوانين الفيزياء وحدها، فإذا أردت السعادة الحقيقية ، فليس من سبيلٍ إلا التوكل الحقيقى، على الذي أودع الفيزياء قوانينها.
إن أعراض الجفاف الروحي المرعب ، مع التقدم العلمي المذهل، جعلت الإنسان المعاصر، ولا سيما الشباب ، يبدو أقرب شبهًا بأشجار المقابر، إذا تأملتها بدقة، فسوف يدهشك أنه قد ماتت فيها روح الحديقة .
لكنه من حسن الحظ أن الأرض لم تزل تحتفظ بالكثير ممن يؤمنون بأن السبل لم تزل متاحة إلى عودة الروح؟ .
-----------------
بقلم: د. سعيد شوارب