للخبز قدسية، تشى بها دلالات كثيرة، فهو ليس مجرد طعام يسد المعدة.. لكنه الحياة.
أطلقنا عليه العيش واعتبرناه "النعمة" يرفعه البسطاء على عيونهم يقسمون به تأكيدا على صدقهم، ويعدونه دليلا على قوة الرابطة وعمق الصداقة والمكانة لكل من قاسمهم يوما تناوله، فللعيش والملح حرمة وعهد وعشرة والتزام أخلاقي لا يخل بوفائه إلا قساة القلوب، يفزعهم كسرات منه يصدم أبصارهم وهى ملقاة وسط الطريق فيهرعون بجزع ليحمونها من دهس أقدام المارة لأقرب مكان آمن.. بينما يقوم آخرون بتقبيلها قبل أن تهم أفواههم بالتهامها.
هو الحاضر الدائم على موائدهم، حتى في أحلك الظروف، تكفى لقيمات منه مع قطعة من الجبن أو طبق من الفول أو قرص من الطعمية لترتفع الأكف بالحمد والشكر.
وربما تفننت الأمهات اللاتى أضناهن ضيق الحال بالتحايل على صغارهم محاولات إقناعهم بتناوله وحده لعجزها عن تقديم "غموس" لهم، فتربت على أكتافهم هامسة "العيش الحاف بيربى الأكتاف" مستعينة بموروثنا الشعبى من أمثال تظل دوما حاضرة مهونة علينا كثيرا من قسوة أيامنا العجاف.
سنوات صعبة لم تمنع الوجهاء من المسئولين "الرحماء" أن ينقضوا على رغيف الخبز لينتزعوا قضمة منه ربما لاتشكل من وجهة نظرهم شيئا يذكر، لكنها تعنى للفقراء الكثير .
فقرارهم لم ينتقص من وزن الرغيف سوى 20 جراما فقط، لينخفض من 110 جرامات إلى 90 جراما فقط. المستفز في القرار ليس فقط أنه يعنى زيادة في سعر الرغيف بشكل غير مباشر لكن تلك المبررات التي ساقها المسئولون بوزارة التموين لخفض الوزن من أنها تصب فى صالح المواطن ويضمن تقديم رغيف خبز بجودة عالية، فضلا على أنه يساعد على مد مظلة نظام التأمين لقطاع كبير من المواطنين إضافة أن خفض الوزن جاء لزيادة تكلفة التشغيل.
التبريرات الواهية أثارت من السخرية والغضب أكثر مما أثارته من الرفض، فالحكومة تريد أن تقنعنا أن خفض الوزن أو بمعنى أكثر صراحة زيادة سعر الرغيف لايهدف سوى تقديم رغيف جيد للمواطن.. وكأنه لا حق للمواطن في هذا الرغيف إلا إذا تحمل مزيدا من رفع الأسعار، تماما مثلما يفرض عليه زيادة في أسعار تذاكر المترو محاولة إقناعه أنه لابديل عن ذلك لإستخدام وسيلة نقل مناسبة، ومثلما ترفع أسعار فواتير الكهرباء بحجة تحسين الخدمة، وتزيد من أسعار المياه والغاز والوقود، مدعية في كل مرة أن ماتفعله لاهدف منه سوى مصلحة المواطن.
لكن لم يسأل الوجهاء من أصحاب قرارات الرفع التي أوصلت رقابنا لحبال مشانق الغلاء، هل تكفى مرتباتنا الهزيلة لمواجهة تكاليف تلك الأسعار التي تقفز بلا رحمة؟.. هل تتحمل دخولنا البسيطة تلبية أبسط متطلبات الحياة الآدمية، أم أنها تضيف في كل مرة أعدادا أخرى للمطحونين لينضموا لملايين غيرهم، ويهبط آخرون درجة من سلم الوجاهة الاجتماعية ليصبح حال الأغلبية اقرب للرثاء، بعدما انقض الغلاء على طبقتهم الوسطى حتى كادت تتلاشى بفعل هذا الصب المجحف الذى أطاح بورقة التوت الأخيرة التى كانت تحميهم من ذل السؤال.
من الصعب أن نطلب قليلا من الرحمة، بعدما باتت كلمة عصية على الفهم، لكننا ننصح بقليل من التعقل والتريث والحكمة في التعامل مع أبسط حقوق الشعب المطحون.. فالجوع كافر ومن الصعب كتم صراخه إذا ما تعالت صرخته.. ومن المستحيل كبت جنونه مهما أحكمت من حوله القضبان.
كان المفترض قى ظل أحوالنا الصعبة أن يكون رغيف الخبز خطا أحمر لا يجوز المساس به، لا بخفض وزنه ولا رفع أسعاره، لكن للأسف ليس هناك حدود ولا خطوط حمراء توقف سياط ولهيب وجنون الغلاء التي تكوى بلا رحمة جيوب وأرواح البسطاء.
------------------------
بقلم: هالة فؤاد