19 - 03 - 2024

حين بكيت غربة نفرتيتي

حين بكيت غربة نفرتيتي

بكيت حين رأيت تمثال نفرتيتي في متحف برلين على الرغم من أني كنت مهيأة نفسيًا لهذا اللقاء. أعلم أن التمثال في الأسر منذ سنوات طويلة وأن محاولات استعادته باءت كلها بالفشل، وحين عبرت التمثال في القاعة التي تضم الآثار الفرعونية وجدت نفسي أمام تمثال أعشقه وأعرفه باسم أخت آتون وأشتري نسخًا منه لكل الأصدقاء العرب والأجانب الذين أحبهم حين يزورون مصر أو وأنا التقيهم في بلاد أخرى.     

بكيت منهارة من وقع المفاجأة لم أكن أعلم أن الأصل في برلين، مع أصول عديدة لتماثيل أخرى بكيت غربتهم وعزلتهم حتى لو كانوا يتواصلون مع آخرين بإعجاب شديد حتى وهم يحظون بهذه الفنية والفخامة في العرض، التي تتيح سهولة الرؤيا والتأثير بالإضاءة والموسيقى وتناسق ودقة الفراغات وتوزيعها، فالوطن لا يشترى بأشياء مهما كانت قيمتها. 

انزعج مرافقي الألماني بشدة وراح يتساءل عن السبب، وأنا لا أستطيع أن أشرح ما أشعر به، ولأول مرة لا أخجل من دموعي.    

تماسكت قليلاً وأخبرته أنه تمثالي المفضل، ثم قرأت ما كتب تحت التمثال:  أميرة فرعونية.   

مجرد أميرة بلا هوية استمعت إلى معلوماته عنها ونظرت إلى عينيه لم يكن أكثر من شاب تخصص في المتاحف وقرأ ما يكفي كي يقدمه للزائرين ولا يملك هذا الاتصال الروحي بالحضارة المصرية القديمة وبالمواطنة التي تجمعنا حقيقة لا مجازًا، حتى لو كانت الإنسانية تجمعنا بصورة أخرى. 

وحين قال إن الزوار يأتون من كل بلاد الدنيا كي يشاهدوا جمال تمثال نفرتيتي. سألته هل تعرف السبب وراء فرادة هذين التمثالين على وجه التحديد؟    

تكلم عن الندرة والكتلة والتوازن وهي عناصر حقيقية. لكني أخبرته أن العلم لم يكن وحده هو من صنع التوازن في النسب بين كتلة التاج فوق الرأس عند نفرتيتي وكتلة الرأس البيضاوي عند أخت آتون وجسم كل منهما الذي يحمل الكتلة فوق رقبة شديدة الرفع وأن الهندسة لا تصل لهذه النتيجة وحدها ولكن الذي وصل إليها هو الحب:  وقع المثال في حب الشخصية وتأملها طويلا وأحب التمثال في النهاية ولهذا وصل لهذه النتيجة المبهرة. 

وأنا أظن أنه نفس المثال الذي صنع التمثالين. رأس أخت آتون بيضاوية في استطالة ناعمة الملمس وبلا شعر، ورقبتها من الرفع حتى آخالها ستنكسر في كل مرة أنظر فيها إليها على الرغم من أنها تعيش معي في البيت طوال حياتي. 

تذكرت هذا الحوار الذي ضمنت جزءًا منه إحدى رواياتي، وأنا أشاهد تمثال مصر تنهض. وتابعت غضب المثقفين الذي أراه نابعًا ليس من هذه الواقعة وحدها بل من القبح الذي يحاول البعض فرضه وبشكل منظم في ميادين وربوع مصر. 

تبارى المثقفون في نشر عشرات الصور على صفحات التواصل الاجتماعي لتماثيل مرعبة حظيت بموافقات من فنانين وأكاديميين وكبار موظفين ومنهم تمثال لكليوباترا، وهي مذهولة منتفخة الأوداج مما جرى لها بعد موت أنطونيو وتمثال لنفرتيتي بعد أن داخت سبع دوخات في دهاليز التأمينات لتقبض معاش جوزها على رأي عمنا محمود السعدني رحمة الله عليه وهو يحكي عن دوخة الأرملة في بر المحروسة، وآخر لبطة سمينة تهم بالطيران، بعد أن التهمت خروفًا محشيًا، وأغمى عليها في ميدان إندونيسيا بالإسماعيلية وسط تصفيق المسئولين، وتمثال فقير لعرابي بالشرقية، وآخر للعقاد مأخوذ من صورة كاريكاتيرية للمخبر الشهير، وآخر لأسد مهزوم ذليل أقرب لقط يعيش في الصحراء مشوه النسب والصناعة ومدهون بلون ذهبي يبدو مثل كتلة طلاء في يد نقاش غير محترف، وغيرهم عشرات المهازل.   

خوف المثقفين ليس من الفساد والقبح في هذه التماثيل التي يمكن أن تزال بتوقيع مسئول يرفضها، ثم يعود مسؤول آخر ليوافق على مثلها بعد ذلك، خوفهم من تعود الإنسان المصري الذي صنع حضارة من أعظم حضارات العالم وعبر عنها بالفنون الراقية أن يعتاد مثل هذا وتصبح حالة مزمنة، فلا يلفت نظره ما يخربه الفن الهابط في نفسه من قيم الحضارة. 

تأملت حالة الفرح التي ينقلها الفن المصري القديم بكل صوره؛ تماثيل، لوحات جدارية منحوته أو مرسومة، وتمثال نهضة مصر الذي كان أول وصلة بالفن المصري العريق بعد انقطاع دام قرونًا، ليتنا نترك مصر في حالها طالما لا نستطيع أن نعلوا تحت جناح قامتها، ولا ننسب لها ما يعكر سموها.    

سألت نفسي: المسئولية على من؟ على التعليم الذي لم يوصل للطالب منذ صغره معنى وقيمة الفن؟ على المؤسسات الدينية السرية التي رسخت مفاهيم تكفير الفن من نحت إلى موسيقى إلى رقص وصنعت إنسانًا جافًا يمسك بالمتفجرات ليدمر هذا العالم الفاسد من وجهة نظرهم ولم تجد من المؤسسات الدينية الرسمية ما يكفي من مقاومة لأنها تخاف أن تعترف بمسؤولية أفكار وأراء بعض فقهاء السلف فيما وصل لشبابنا من أفكار ضد الحياة والقيم الإنسانية الرفيعة، وترفض مراجعة مناهجها الدراسية وتنقيتها مما علق بها.  

مسئولية وزارة الثقافة التي لا تستطيع الحصول على الموارد الكافية لنشر الثقافة في القرى والنجوع الصغيرة بسبب تخفيض ميزانيتها بعد ثورة يناير ولأن بعض من موظفيها في الأقاليم ليسوا بالكفاءة اللازمة للتعامل مع نشر الفنون؟ مسئولية الإعلام الذي لا يقدم المثقف المصري ولا العربي ولا الأجنبي كنموذج ورمز يحتذى به الشباب ولا يتعاون مع وزارة الثقافة لنقل كنوزها إلى الناس بصورة أوسع، لقد تابعت المجهود الجبار للثقافة في عمل ندوات ولقاءات أثناء جائحة كورونا ونشرها على يوتيوب ألم يكن من الأجدى نشرها من خلال شاشة التليفزيون المصري لتصل للناس بسهولة أكبر؟ 

مسئولية وزارة الشباب والرياضة لأن الرياضة تعلم التعامل مع الفريق والروح الرياضية السمحة في الصراع وحق الآخر في المكسب والخسارة، وأتذكر بالطبع تمثال تحوت الفظيع الذي كان رمزًا لكأس الأمم الإفريقية للشباب، وربما جهلي يمنعني من معرفة علاقة رب الفلسفة والقضاء، وأبو الخيمياء والعلم بالرياضة فلم أقرأ هذه المعلومة أبدًا. 

وهكذا نساهم بإصرار في انتاج إرهابي كامل المواصفات منذ ولادته وتربيته على هذا النحو من التعود على القبح.
---------------------------
 بقلم: هالة البدري

مقالات اخرى للكاتب

في محبة الكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات





اعلان