19 - 04 - 2024

النيل ومصر

النيل ومصر

وأجدني مجبرًا على أنْ أقول: النيل ومصر- لا مصر والنيل- لأنَّ النيل كان، ثمَّ كانت مصر.

ميلاد وطن

إنَّ هذه المنطقة من العالم التي يقع البحر المتوسِّط في قلبها كانت كلُّها تحت الماء، ثمَّ انحسر الماء أوَّلًا عن الإقليم الذي به مصر وبقيتْ أوروبا مغمورة. وتنعكس ذكرى هذا التاريخ في أساطير الخلق المصريَّة التي تتحدَّث عن محيط أزليٍّ أوَّليٍّ تدعوه نون صعد منه التلُّ الأزليُّ الذي أصبح الأرض، وكان أوَّل ما ظهر من تحت الماء زهرة اللوتس الخالدة. فلنا إذنْ أنْ نستنج أنَّ هذه الأرض التي نحيا عليها لمْ تكنْ إلَّا قاع بحر، وقاع البحر حين ينحسر عنه الماء يصبح صحراء. كان هذا إذنْ هو الحال القديم في مصر وما حولها من البلاد: قفر لا يستقرُّ فيه الإنسان وإنَّما يهيم هنا وهناك في بداوة بحثًا عن الكلأ وعن الماء العذب، وهكذا ظلَّ الحال حتَّى الآن فيما حول مصر، أمَّا مصر فأنقذتها معجزة جيولوجيَّة اسمها النيل.

إنَّ النيل نهرٌ عتيق مغرق في القدم يعتقد علماء الجيولوجيا أنَّه لمْ يأتِ في بدايته من منابعه الحبشيَّة بلْ كانت تغذِّيه منابع مصريَّة في جبال البحر الأحمر يوم كانت الأمطار الغزيرة تتساقط هناك، ثمَّ كان يصبُّ بفروع في مياه بحر قديم يُعرف ببحر تثيز كان يغمر الدلتا. وأخذ النهر في تعميق مجراه حين ازداد اندفاعه بفعل عمليَّة رفع أدَّتْ إلى ميل الهضبة المصريَّة نحو الشمال، ثمَّ حين اجتاح بحر تثيز الأرض المصريَّة الوطيئة عكس النهر اتِّجاه حفره ونحت باتِّجاه الجنوب حتَّى اتَّصل بمنابعه الحبشيَّة على الصورة التي نراها اليوم، وظلَّ يحفر عميقًا في الصحراء وكلَّما أصبح المجرى أعمق ضاق في العرض. ثمَّ راح النيل يرسِّب ألسنة من الطمي والجرف في الخليج الشماليِّ لبحر تثيز، وما لبثتْ تلك الألسنة المتجاورة أنْ اندمجتْ فأوجدتْ الدلتا. ولمْ يكنْ للنيل قديمًا فرعان فقط  مثل حاله الآن بلْ كانت له خمسة أفرع على أقلِّ تقدير وعلى أقصى التقديرات تسعة، أمَّا هيرودوت فيذكر سبعة فروع. ثمَّ اختفتْ أكثر الفروع القديمة أوْ اختنقتْ وأصبحتْ تخرج من فرعيْ دمياط ورشيد ثمَّ تعود لتصبَّ فيهما مشكِّلةً مجموعة من الجزر على طول الفرعيْن.  

أصل المصريِّين

يختلف العلماء والمؤرِّخون حول أصل المصريِّين، لكنَّهم مجمعون على أنَّهم أتوا من حيث أتوا إلى مصر بعد أنْ ناداهم النيل، ففي زعمٍ أنَّهم تبعوه من أفريقيا إلى الشمال فهم أفارقة، وفي زعمٍ أنَّهم توافدوا عليه من الشرق عبر سيناء فهم عرب، وفي زعمٍ أنَّهم هاجروا إليه من الغرب من ليبيا فهم شمال أفريقيِّين. والأرجح أنَّ المصريين كلُّ ذلك، وفوقه شعوب البحر المتوسِّط التي كانت تعيش قي فاقة وهمجيَّة فحاولتْ باستماتة غزو مصر أوْ تسللتْ إليها فرادى وجماعات.  ولمْ تكنْ سياسة مصر ضدَّ أعدائها الإبادة بلْ كانت التأديب ثمَّ الاحتواء، أمَّا غزاتها فإنَّهم الذين احتووا أنفسهم داخل مصر فتمصَّروا وتبنَّوا التقاليد المصريَّة واعتنقوا الدين المصريَّ وبعد جيل أوْ جيليْن أصبحوا مصريِّين، فالقول بأنَّ من شرب من ماء النيل لا بدَّ من أنْ يعود إلى مصر ليس دقيقًا تمامًا، والأكثر تاريخيَّة أنْ نقول إنَّ من شرب من ماء النيل بقي في مصر وتمصَّر. ورأي نجيب سرور في أنَّ كلَّ الأجناس البشريَّة تزاوجتْ في مصر صادقٌ على نحو إيجابيِّ لا على النحو التهكُّميِّ الذي رما إليه، فحقًّا تزاوجتْ كلُّ الأجناس في مصر بعد أنْ أصبحوا مصريِّين ممَّا جعل مصر بوتقة العالم وكلَّ الأجناس البشريَّة روافد للهويَّة المصريَّة مثل روافد النيل، وبالرغم من ذلك لا تتميَّع الهويَّة المصريَّة لأنَّ شيئًا في مصر يصبغ كلَّ منْ تحت سمائها بصبغة واحدة، شيئًا قاهرًا غلَّابًا يطغى على كلِّ ما عداه هو الطابع المصريُّ.

حعبي

الاسم المصريُّ للنيل هو حعبي، وكان قدماء المصريِّين أوَّل من لقَّب النيل بالنهر العظيم أوْ يار عو بالمصريَّة القديمة. ويُصوَّر حعبي في هيئة رجل ممتلئ له ثديان متدلِّيان وبطن مكتنز يشدُّه حزام وفي قدميَّه  نعلان، وتلك كانت من علامات الثراء في ذلك الزمان، أوْ كأنَّ الفنَّان المصريَّ شاء أنْ يجمع له الرجولة والأنوثة وأنْ يقول إنَّ النيل أب الشعب وأمِّه فالأب يحمي ويغذِّي والأم تفيض عليه بحنانها وعطائها. ويتوِّج رأس حعبي إكليلٌ من النباتات المائيَّة ويحمل بين يديْه مائدة مثقلة بالهدايا تكاد تختفي تحت أكوام من السمك والبطِّ وسنابل القمح وباقات الزهور وكلِّ الخيرات الزراعيَّة التي يجلبها الفيضان.

ويربط كثيرٌ من الدارسين بين أوزيريس والنيل ويعتقدون بأنَّ أوزيريس هو القوَّة الكامنة في الفيضان، وهو الثور الأسود لون طمي الفيضان، وهو الذي تنشقُّ عنه الأرض وتعود روحه مثلما تعود الروح إلى البذرة الميِّتة، وهو ربُّ الحصاد بتحوِّله إلى نبري إله الغلال، كذلك يعتقدون بأنَّ أسطورة أوزيريس الذي قُطِّع جسده وفُرِّق في أرجاء مصر ترمز إلى النيل وكيف يتفرَّع إلى فروع وترع وقنوات تحمل الماء والحياة إلى كافة الأنحاء.

الخرافة والجغرافيا

توهَّم قدماء المصريين أنَّ النيل يتفجَّر من الظلام بين صخور الشلَّال الأوَّل عند أسوان، وأنَّ عليه حارسًا يحبسه أوْ يطلقه اسمه خنوم، وخنوم أيضًا هو من خلق البشر من طمي النيل وخلق من كلِّ إنسان نسختيْن، النسخة الثانية منهما تُدعى الكا، وهو ذلك الذي ما زلنا ندعوه حتَّى اليوم بالقرين أوْ بالأخ الذي تحت الأرض. وكون المصريِّ جعل الكيان الذي يتحكَّم في النيل هو نفسه الذي خلق الإنسان دليلٌ على وعي المصريِّ منذ القدم بأنَّ النيل في هذا الوطن هو سبب الحياة.

يقول هيرودوت:

"أخبرني أمين معبد الإلهة نيت في سايس أنَّ بين مدينة سين بطيبة ومدينة جزيرة أسوان جبليْن، أوَّلهما يدعى كروفي أيْ هُوَّته، والثاني موفي أيْ مياهه، وبين هذيْن الجبليْن تنفجَّر منابع النيل من هوَّة عظيمة ينصبُّ منها الماء وينقسم- طبقًا لطبيعة الحواجز الصخريَّة هناك- إلى شطريْن: يتوجَّه أحدهما شمالًا إلى كيميت، والثاني جنوبًا إلى كوش."

وهذه الجغرافيَّة التي وصفها الكاهن لهيرودت مغلوطة تمامًا- بلْ مناقضة للحقيقة- فالنيل لا ينبع في أسوان ولا يجري فرعٌ منه نحو الجنوب إلى كوش (شمال السودان) بلْ ينبع أحد رافديْه وهو النيل الأزرق في الحبشة ويجري من الجنوب إلى الشمال. وتلك المنابع الأسطوريَّة للنيل هي ما أقعد قدماء المصريِّين عن اكتشاف منابعه الحقيقيَّة والسيطرة عليها، ولولا ذلك لكانت منابع النيل اليوم جزءًا من مصر وما كان أيسر ذلك على قدماء المصريِّين في عصر الإمبراطوريَّة، وهنا نرى دور الخرافة الكارثيِّ في حياة الشعوب.

احتفالات الفيضان

يتوافق بزوغ نجم سوبدت قبيل شروق الشمس مع بدء وصول مياه الفيضان، ومن أجل ذلك جعل المصريُّ رؤيته بداية العام، وحين يبلغ منسوب النهر ستَّة عشر ذراعًا يبدأ الاحتفال ويكون ذلك في الرابع عشر من شهر مسري- الذي يوافق العشرين من شهر أغسطس- فتُلقى القرابين في النيل عند الشلَّال الأوَّل، ويلقى الملك بهداياه من الذهب والحلي، كما يُلقَى ميثاقٌ مكتوب من ديوان الملك ليقبله النهر ولا يتخلَّف عن موعده أوْ يحجب عطاياه، ويتغنَّى الشعب بأناشيد النيل:

"الحمد لك يا حابي الذي ينبع من الأرض، والذي يأتي ليطعم مصر

يا ذا الطبيعة الخفيَّة: ظلامٌ في رائعة النهار!

الذي يروي المراعي، والذي خلقه رع ليغذِّي كلَّ الماشية

والذي يعطي الشراب البقاع المقفرة النائية عن الماء،

ونداه هو الذي ينزل من السماء

محبوب إله الأرض جب

ومدير إله الغلال

والذي يُنجِح كلَّ مصانع بتاح

ربَّ الأسماك

والذي يجعل الطيور تذهب إلى أعالي النهر

دون أنْ يسقط طائرٌ

صانع الشعير وخالق القمح

كيْ تقيم المعابد الأعياد

فإذا تباطأ كُتمتْ الأنفاس

وصار الناس في فاقة

وقلَّتْ مؤن كلِّ الآلهة

ومات ملايين الناس

وإذا شحَّ ذُعرتْ البلاد كلُّها

والصغار والكبار أصبحوا صفر الأيدي

وحين يرتفع تبتهج كلُّ البلاد

ويغدو كلُّ فرد في حبور

وكلُّ الفكوك تأخذ في مضغ الطعام

وكلُّ سنٍّ تنكشف عن ابتسام."

الملك والفيضان

آمن قدماء المصريِّين بأنَّ الملك هو من يتحكَّم في النيل ويُتوقَّع منه أنْ يجلب الفيضان كلَّ عام، وحين يعجز الملك عن جلب الفيضان يتزلزل عرشه أوْ يُطاح به فعرش الملك رهنُ الفيضان لأنَّ الملك في مصر القديمة كان مرادفًا لصانع المطر في البيئات التي تعتمد على الأمطار، وصانع المطر حين يفشل في إسقاط المطر يُقتَل ويُأتى بصانع مطر جديد. ومن المعروف أنَّ هناك ثلاث حقب فوضى بين الدولة القديمة والدولة الوسطى والدولة الحديثة وما بعد الدولة الحديثة- تُعرَف بالعصور الانتقاليَّة- وقدْ أصبح المؤرِّخون على يقين بأنَّ سقوط الدول في مصر القديمة والدخول في عصور الفوضى كان من أهمِّ عوامله شحُّ فيضان النيل.

ومن أبشع ذكريات البؤس المأساويِّ الذي حلَّ بالمصريين حين شحَّ الفيضان ما نقله لنا المقريزيُّ بوصف كابوسيٍّ وعبارات فاجعة:  

"تعذَّرتْ الأقوات بديار مصر وتزايدتْ الأسعار وعظم الغلاء حَتَّى أكل الناس الميِّتات وأكل بعضهم بعضًا وتبع ذلك فناءٌ عظيم. وابتدأ الغلاء من أوَّل العام وتمادى الحال ثلاث سنين متوَالية لا يمدُّ النيل فيها إلَّا مدًّا يسيرًا حتَّى عدمتْ الأقوات وخرج من مصر عالمٌ كبير بأهليهم وأولادهم إِلَى الشام فماتوا في الطرقات جوعًا. وشاع الموت في الأغنياء والفقراء فَبلغ من كفَّنه السلطان العادل الأيوبيُّ من الْأموات  في مدَّة يسيرة نحوًا من مائتيْ ألف إِنسان وعشرين ألف إنسان، وأُكلتْ الكلاب بأسرها، وأُكل من الأطفال خلقٌ كثير فكان الصغير يشويه أبواه ويأكلانه بعد موته، وصار هذا الفعل لكثرته بحيث لا يُنكَر، ثمَّ صار النّاس يحتال بعضهم على بعض ويُؤخَذ من قُدِر عليه فيُؤكَل، وإِذا غلب القويُّ ضعيفًا ذبحه وأكله، وفُقد كثيرٌ من الأطبَّاء لكثرة من كان يستدعيهم إِلى المرضى فإِذا صار الطبيب إلى داره ذبحه وأكله. واتَّفق أنَّ شخصًا استدعى طبيبًا فخافه الطبيب وسار معه على تخوُّف فصار ذلك الشَّخص يكثر فى طريقه من ذكر الله تعالى ولا يكاد يمرُّ بفقير إلَّا ويتصدَّق عليه حتَّى وصلا إلى الدار فإذا هي خربة. فارتاب الطبيب ممَّا رأى وبينا هوَ يُريد الدُّخُول إليها إِذْ خرج رجلٌ من الخربة وقال للشَّخص الذي قدْ أحضر الطبيب: "مع هذا البطء جئتَ لنا بصيد واحد!" فارتاع الطَّبِيب وفرَّ على وجهه هاربًا. فلولا عناية الله به وسرعة عدوه لقُبض عليه.

خلتْ مدينة القاهرة ومصر من أكثر أهلها، وصار من يموت لا يجد من يواريه فيصير عدَّة أشهر حتَّى يُؤْكَل أَوْ يبلى، وقدم إلى القاهرة ومصر من أهل القرى خلقٌ كثير، وكثر الجوع، وعَدِم القوت حتَّى أُكلتْ صغار بنى آدم، فكان الأَب يأكل ابنه مشويًّا ومطبوخًا، وكذلك الأمُّ. وظفر الحاكم منهم بجماعة فعاقبهم حتَّى أعياه ذلك، وفشا الأمر فكانت المرأة توجد وقدْ خبَّأتْ في عبِّها كتف الصغير أوْ فخذه، وكذلك الرجل. وكان بعضهم يدخل بيت جاره فيجد القِدر على النَّار فينتظرها حتَّى تنزل ليأكل منها فإذا فيها لحم الأطفال، وأكثر ما كان يوجد ذلك فى أكابر البيوت، ويوجد النساء والرجال فِي الأسواق والطرقات ومعهم لحوم الأطفال، وأُحرقتْ في أقلَّ من شهريْن ثلاثون امرأة وُجد معهن لحوم الأطفال لمَّا فشا ذلك حتَّى اتَّخذه النّاس غذاءً وعشاءً وألفوه وقلَّ منعهم منه، فإنِّهم لمْ يجدوا شيئًا من القوت لا الحبوب ولا الخضروات. وكان الناس قدْ فنوا بحيث بقي من أهل القرية- الذين كانوا خمسمائة نفر- إمَّا نفران أوْ ثلاثَة فلمْ تجدْ الجسور منْ يقوم بها ولا القرى من يعمل مصالحها، وعدمتْ وجافتْ الطرقات بمصر والقاهرة وقراهما، ثمَّ أكلتْ الدودة ما زُرِع، فلمْ يوجدْ من التقاوى. ودخلتْ سنة سبع وتسعين وخمسمائة والنَّاس تأكُل الأطفال وقدْ صار أكلهم طبعًا وعادةً وضجر الحكَّام من تأديبهم. وبيع القمح - إِنْ وجد - بثمانية دنانير ذهبيَّة للأردب، والشعِير والفول بستَّة دنانير ذهبيَّة، وعَدِم الدجاج من أرض مصر فجلبه رجلٌ من الشام وباع كلَّ فرُّوج بمائة درهم وكلَّ بيضتيْن بدرهم. هذا وجميع الأفران تُوقد بأخشاب المساكن حتَّى دخلتْ سنة ثمان وتسعين. وكان كثيرٌ من المساتير يخرجون ليلًا ويأخذون أخشاب الدور الخالية ويبيعونها نهارًا، وكانت أزقَّة القاهرة ومصر لا يوجد بها إلَّا مساكن قليلة ولمْ يبقَ بمصر عامرٌ إلَّا شطُّ النيل، وكانت أهل القرى تخرج للحرث فيموت الرجل وهو ماسكٌ المحراث."

الشدَّة الحاليَّة

أُثيرتْ زوابعُ كثيرة حول السدِّ الإثيوبيِّ، وكيف أنَّه سوف يؤدِّي إلى خراب مصر وهلاك المصريِّين، من أجل ذلك لا بدَّ لنا من عرض قضيَّتنا العادلة على هذا النحو: إنَّ مصر بغير حصَّتها الطبيعيَّة من مياه النيل تتصحَّر وتجدب والدلتا يبتلعها البحر بلْ إنَّ النيل نفسه يجفَّ ويُردم مجراه الذي يشقُّه بقوَّة اندفاعه في رمال الصحراء، أيْ أنَّ مصر التاريخيَّة تختفي من الوجود، وهذا ما لنْ يقبل به أيُّ مصريٍّ مهما كانت العواقب ومهما كان التضحيات.

في المقابل ينبغي لنا أنْ نصارح أنفسنا بأنّ من حقِّ إثيوبيا- دولة المنبع- أنْ تقيم سدًّا على النيل مثلما شيَّدتْ مصر والسودان سدودًا على النيل طالما التزمتْ إثيوبيا بحصَّة دول الحوض والمصبِّ من الماء، بلْ ولنا- إذا جاز القول- أنْ نتفاءل بأنْ تغدو بحيرة هذا السدِّ الإثيوبيِّ مخزون مياه استرايجيِّ لجميع دول حوض النيل يؤمِّنها في الأعوام التي تقلُّ فيها الأمطار على الهضاب الحبشيَّة ويضع في أعوام الجفاف مسؤوليَّة في عنق إثيوبيا لمْ تخطرْ لها ببال. ولدول المنبع أنْ تطالب بنوع من الإشراف على السدِّ في صورة مراقبين من دول الحوض أوْ مراقبين دوليِّين وتصرَّ على هذا الطلب حتَّى لوْ تعلَّلتْ إثيوبيا بسيادتها على أرضها لأنَّ مفهوم السيادة لا يندرج تحته أنْ تقبض على رقاب الآخرين بلا رقيب. كذلك لا بدَّ من توحيد مواقف دول الحوض والمصبِّ- أوْ على أضعف الإيمان مصر والسودان- وألَّا تجري إحداهما مفاوضات فرديَّة أوْ تعقد صفقة أحاديَّة وتبيع شقيقتها. أمَّا جمهوريَّة جنوب السودان فإنَّها عائقٌ طبيعيُّ يحول بين مصر والسدِّ الإثيوبيِّ- ولعلَّ ذلك من أسباب وجودها- فلا بدَّ للدبلوماسيَّة المصريَّة من أنْ تخلق موطأ قدم في هذا البلد الوليد لتظلَّ عينا مصر على السدِّ ويظلَّ السدُّ في متناول يديْها.  

أمَّا إذا ثبت أنَّ السدَّ الإثيوبيَّ ليس سوى مؤامرة لإذلال مصر وابتزازها ففي قناعتي أنَّ الحلَّ الأخير المرَّ الذي لا أظنُّ أنَّ تداعي الأحداث سوف يفضي إليه هو احتلال السدِّ لا تفجيره، لأنَّ التفجير سوف يغرق الجميع. ولنْ يكون التدخُّل العسكريُّ بالعمل السهل أوْ الخالي من العواقب لأنَّ الأموال التي استُثمرتْ في هذا السدِّ ليستْ أموالًا إثيوبيَّة في المقام الأوَّل، بلْ هي أموال دوليَّة بعضها- للأسف- من بنوك المنطقة، ولا يخفى على أحد أنَّ أصحاب رؤوس الأموال لا يتسامحون مع الإضرار باستثماراتهم أوْ حتَّى تهديدها وأنَّهم أصبحوا في عصرنا أقوى سياسيًّا من الحكومات لأنَّهم عالميُّون والحكومات محليَّة، وبالرغم من ذلك ما زلت أؤمن بأنَّ التلويح بالقوَّة واستخدامها كحلٍّ أخير- حتَّى إذا فشلتْ في تحقيق هدفها كاملًا- سوف يشعر إثيوبيا وأفريقيا والعالم كلَّه بأنَّ التلاعب في حصَّة مصر من الماء لنْ يمرَّ في سلام  ولنْ تقف مصر إزاءه مكتوفة اليديْن.

--------------------------

بقلم: د. أحمد زكي



مقالات اخرى للكاتب

هلْ الشباب بلا مستقبل؟





اعلان