24 - 04 - 2024

الحقائق الكبرى والكبائر

الحقائق الكبرى والكبائر

ليس من بعد معاناة المحلل السياسي معاناة لأنه ببساطة عليه أن يتعامل مع ركام من المعلومات المتناثرة على رقعة جغرافية باتساع البسيطة كلها تقريبا وتضرب بجذورها في أعماق أبعد غورا من الوقت الراهن وهو يستخدمها لتشخيص وقائع تجري من أجل التخطيط لأفعال مستقبلية أو بحد أدنى للتنبيه بمآلات قادمة.

والكتابة بهدف خدمة صناعة "القرار" هي أيسر  أنواع التحليل السياسي لأنها تحتمل دراسات مطولة وأيضا لأنها تعني بقطاع "تشريحي" بينما يتولى آخرون قطاعات أخرى ما بين سياسية وتاريخية وقانونية وعسكرية واقتصادية... الخ

أما أصعب أنواع الكتابة فهي تلك التي تستهدف القارئ "العارض".

وتلك شريحة شديدة التعقيد لاختلاف المشارب السياسية وتباين مستويات التعليم والثقافة وتعدد جوانب الاهتمام بينما المطلوب توفير انتظام معلوماتي يعينها على تفهم ما يجري حولها. هنا يبحث الكاتب عن مزيج اختزالي من معلومات قاعدية ووقائع وأحداث من مستويات مختلفة يكفي لشرح مبسط للأحداث الأكثر تعقيدا.

ومع تدفق المعلومات الهائل يجد المحلل السياسي نفسه ينتقل من واقعة لأخرى وتتغير استنتاجاته على مدار الساعة وقد يغفل عن حقيقة أن تلك المعلومات ليست سوى صورة قمة جبل الجليد الذي رآه أو تمت تهيئتها أمامه بينما الجانب الأكبر وربما الأهم من المعلومات لم وربما لن يصل إليه وعليه أن يجتهد ليصل لاستنتاجات منطقية لكنهه.

دائما وأبدا تراوح الأنشطة العلمية ومن بينها التحليل السياسي بالطبع بين مستويين:

١- الماكرو أو الإطار العام (الصورة الكبيرة)

٢- الميكرو أو الأحداث المتتابعة (الصورة المقربة)

وبينما يتعلق الماكرو أكثر بالجوانب الاستراتيجية الكلية فإن الميكرو يتصل بالخطوات التكتيكية الآنية

المعضلة دوما ستبقى في إمكانية انزلاق رؤية الميكرو لارتكاب "كبائر" تجاهل الرؤية الكلية الاستراتيجية والنظر للأحداث بمعزل عنها ومن ثم الوصول لاستنتاجات خاطئة والترويج لأوهام وأخطاء قاتلة.

نحتاج أن نذكر أنفسنا دوما بالحقائق "الكبرى" حتى لا نقع في الوهم ونقفز لاستنتاجات خزعبلية.

و الحقائق الكبرى التي نريد أن نذكر أنفسنا بها عديدة ولا نهائية ولكن الاختزال أمر واجب هنا وأردت بهذه "المقدمة" أن أركز على بعضها قبل أن أكتب لاحقا عما يجري في شمال أفريقيا وبالتحديد في المساحة الممتدة من ليبيا إلى الجزائر فذلك تمهيد ضروري

أول الحقائق التي لا ينبغي أن نغفل عنها أننا أمة "قيد التقسيم".

من يرى أننا لسنا أمة عربية أو حتى أن ذلك من تهيؤات "نظرية المؤامرة" فذلك في رأيي وبدون غضب محض "غر صغير" وعديم الإطلاع.. ولن أزيد.

بالطبع هذا التقسيم ليس شيئا جديدا من حيث المبدأ ولكنه كهدف استراتيجي احتمل تغيرات وتبدلات تكتيكية شديدة التعقيد والتنوع

ورغم أنه لا مجال هنا لتعدادها لكن يمكن الجزم بأنها اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وطائفية واستخباراتية.. والحبل على الجرار.

وتقسيم الأمة ليس مجرد "وسيلة" لاستنزاف ثروات ومقدرات العرب والاستحواز على أسواقهم وإنما هو بحد ذاته "غاية" تتصل بالوضع الاستراتيجي العالمي.

أما "الفاعل" الذي يسعى لذلك فهو "المركز الاستعماري الإمبريالي" سواء أكان على الجانب الشرقي أو الغربي للأطلسي وتلتحق به "أطراف" يتم توظيفها أو حثها بحكم أهدافها الخاصة.

وتستحق هذه "الأطراف" وقفة تأمل نظرا للالتباس الذي يحيط بها قياسا بوضوح "الفاعل" وابن الفاعل (الكيان الصهيوني)

هذه الأطراف" أستدعيت" على وقع حث سؤال" الهوية" وذاك مبحث أكاديمي يستحق اهتماما مستقلا

ففي مواجهة ما بدا أنه "مسلمة" بعيد الحرب العالمية الثانية أي "الهوية العربية " المفترضة للدول الوطنية المستقلة حديثا بين الخليج والمحيط تم بانتظام التشكيك فيها تارة بإثارة "النزعات الوطنية" وتارة أخرى بحث "الهويات دون الوطنية" ورويدا رويدا تم نصب "الهوية الإسلامية" كصنو أو بالأدق كإجابة على تساؤلات الهوية بدعم مالي واستخباراتي لا سبيل لإنكاره.

كانت حرب أفغانستان علامة فارقة في مسار "إلتباس الإجابة على سؤال الهوية" وهو ما يعبر عنه حينا بصعود الإسلام السياسي.

وبعد أقل من عقد كانت الهوية الإسلامية المفترضة تشهد انقسامات برعمية بعضها داخل "الفسطاط السني" وبعضها الآخر في "الفسطاط الشيعي"

ووجدت طهران مع حكم ولاية الفقيه نفسها على خط الانقسام العربي في الاجابة على سؤال الهوية وألتحقت بها بعيد سنوات "أنقرة" مع تقاربها المتزايد مع تيار الاخوان المسلمين حول فكرة بعث الخلافة الإسلامية (العثمانية الجديدة)

وطالما أن هناك رجل مريض يجري اقتسام ثرواته وتقسيم أقاليمه فقد أرادت الآطراف أن تلتحق بمخطط "التقسيم" وعلى الرغم من أن إيران وتركيا مثلا يعمل كل منهما في جانب على الساحة السورية فإنهما لم "يتصادما" أبدا بل ولم يجر بينهما تبادل اتهامات أو تراشق لفظي وتلك من عجائب الوضع الإقليمي

طهران تريد أن تخرج من التقسيم بهلال يبدأ من سوريا (بعضها بالطبع) ولبنان والعراق نزولا للبحرين والأحساء والقطيف ووصولا لليمن

وأنقرة تريد الشمال السوري برمته وهيمنة تحت شعار الخلافة على هلال آخر قوسه في اتجاه المتوسط يستوعب كل مناطق نشاط الاخوان المسلمين بالتحديد في البر الأفريقي العربي

وثمة صدى للصراع بين الهلالين في أفريقيا جنوب الصحراء (الشرق والوسط) قد نأتي إليه في مناسبة أخرى.

مرة أخرى

حقيقة الحقائق أننا أمة قيد التقسيم

هل مصر بمآمن من ذلك؟

خب غافل من يظن ذلك

المسألة ليست أكثر من وقت وتحين الفرصة.

إنطلاقا من تلك الحقيقة الكبرى وما يلحق بها من لوازم وزوائد سآتي لاحقا لتناول ما يجري في غرب مصر

---------------------

بقلم: د. أحمد السيد الصاوي

مقالات اخرى للكاتب

عصافير بايدن





اعلان