24 - 04 - 2024

الكروان الممنوع.. قصة القارئ الشيخ عنتر مسلّم

الكروان الممنوع.. قصة القارئ الشيخ عنتر مسلّم

في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، وبينما كانت إذاعات دول العالم الإسلامي من إسلام أباد إلى طهران وحتى تونس، تذيع تسجيلات القارئ الشيخ عنتر مسلَّم يومياً، كمادة إذاعية ثابتة، كانت أشرطة الشيخ ممنوعة من التداول في مصر، بناء على قرار صدر من الأزهر وقتها، وقضى بأن الرجل يقرأ بقراءات غير مُعترف بها من مجمع البحوث الإسلامية، وما أنزلت مشيخة "عموم المقارئ المصرية" بها من سلطان!

وفي تلك الفترة، نشر الكاتب الراحل محمود السعدني مقالا قال فيه إن مسلّم "صاحب طريقة فذة" في قراءة القرآن الكريم، ودعاه علناً على صفحات جريدة "أخبار اليوم" للحضور إلى القاهرة، متعهدا بتسخير كل إمكانياته حتى يُجاز الشيخ من الأزهر، ويصبح أحد قرّاء الإذاعة المعتمدين، غير أنه لم يستجب لهذه الدعوة أبدا.

كان مسلّم "شيخ طريقة" جديدة من نوعها في دولة التلاوة، فقد كان يتلو القرآن الكريم بأكثر من أربع قراءات مختلفة في الرُبع الواحد، فاعتبر قرّاء الإذاعة طريقته هذه نوعا من الهرطقة، وخرقا للقواعد الصارمة التي لا مجال فيها للاجتهاد أو الإبداع، وشنوا عليه حربا امتدت ساحتها من الإسكندرية إلى أسوان، فحظر الأزهر الشريف طبع وتوزيع أشرطته، أيام كانت شرائط الكاسيت هي نافذة الإعلام الأولى خارج إطار الإعلام الرسمي، والإذاعة الشعبية الأوسع انتشارا في مصر والعالم العربي آنذاك.

وبضغط من الأزهر "تاب" الشيخ عن تلك الطريقة، فيما يشبه انتكاسة مؤقتة لمدرسته في القراءة، ونشر "إعلان توبة" مدفوعاً تبرّأ فيه من الطريقة التي قرأ بها، في الجرائد القومية الثلاث مجتمعة "الأهرام والأخبار والجمهورية". والغريب أن أحدا من محرري هذه الصحف مجتمعة، لم يحاول البحث وراء ذلك الإعلان الغريب، ولو من باب الفضول الصحفي على الأقل.

ورغم ذلك التجاهل المريب، أو الكسل المعرفي الفاضح، تواصل مع المؤلف أثناء إعداد هذا الكتاب عشرات الأشخاص، مصريين وعرب وأجانب، منهم الدكتور أندرو سايمون، الباحث في "برنامج دراسات الشرق الأوسط" بكلية دارتموث الأمريكية، الذي قال إنه يعمل على كتاب يسجّل تاريخ مصر الثقافي خلال الخمسين سنة الأخيرة، وإن في الكتاب فصلاً عن مسلّم، باعتباره قارئا مثيرا للجدل، مختلفا عن عصره، ومختلفا معه.

وقال "سايمون" إن يسعى إلى توثيق شخصية الشيخ كـ "ظاهرة فنية غريبة" في تاريخ القرّاء المصريين، لكنه لم يجد عنه شيئا جادا في أي موقع مصري أو عربي، باستثناء صفحة فقيرة في الموسوعة الحرة "ويكيبيديا"، ومقال أشد فقراً (450 كلمة) لكاتب هذه السطور!

كما تواصل مع المؤلف أيضا، الأكاديمي الباكستاني الدكتور علي أكبر خان، أستاذ اللغة الإنجليزية بـ "الكلية الحكومية للدراسات العليا" في إقليم خيبر، الذي أصرّ على أن يسجّل خصيصاً للكتاب "شهادة" ضافية لا تخلو من طرافة عن الشيخ عنتر. ومن ذلك الاعتقاد الشائع في باكستان على نطاق واسع، بأن شرائط الشيخ كانت محظورة لأنه - وهو الكفيف- "طعن" شخصاً ماً، ومُنع بعدها من التلاوة!

لقد اختفى مسلّم، ومُنعت أشرطته في مصر، لكنها عرفت طريقها إلى كل قارات العالم، وباتت تُباع على أسوار "المسجد الأزرق" في مزار شريف، وتنطلق من محلات بيع الكاسيت في لاهور، وتُسمع في حضرات الطريقة الصوفية النقشبندّية بإسطنبول، حتى أصبحت تلك هي السابقة الأولى من نوعها: أن يشتهر قارئ مصري في بلاد لا تعرف اللغة العربية مثل أفغانستان وباكستان وتركيا، بينما هو شبه مجهول في مصر!

حُورب الشيخ في عصره بلا هوادة، إلى حد أن مشايخ السلفية و"الجماعات الإسلامية" ومنهم الشيخ الشهير عبد الحميد كشك، طالبوا في خُطبهم على منابر المساجد، بإعدامه شنقاً. وبعد أن خفتت الضجة التي أثارها بمرور السنين، تم تجاهله تماماً عند أي تأريخ لمسيرة التلاوة. ومع ذلك، بات للرجل صاحب الأسلوب "الوحدَجيّ" المتفرّد في القراءة، عشرات التلامذة والمقلّدين في عدة دول، منها مصر والعراق وإيران وإندونيسيا وماليزيا والمغرب. وبات هؤلاء يقرأون علناً بطريقته "الممنوعة" سابقاً!

واختلف الناس على الشيخ عنتر، في زمانه، فمنهم من اعتبره نبتة إلهية في حدائق القرآن، وصاحب مدرسة فريدة من مدارس القراءة المصرية، ومنهم من رأى أنه مبتدع، ولا يصلح حتى "قارئ مقابر". غير أن الشيخ الذي انطلق ذات يوم كالسهم، ومر في سماء دولة التلاوة كالشهاب، لم ينطفئ حتى الآن.

وبعد نحو سنة من البحث والاستقصاء وراء ما تبقى من تراث الرجل، تبيّن أن الشيخ عنتر وقع بين "شقيّ رحى" لا يجتمعان على شيء، هما الأزهر والمتشددون، وأن الأمر - فوق ذلك- هو أكبر من مجرد سيرة قارئ، بل إن له أبعادا وجذورا سياسية وتاريخية، ضمن قضية كبرى "مسكوت عنها" منذ أيام الحكم العثماني، تلك الحقبة السوداء في تاريخ هذا البلد.

كما تبيّن أيضا أن منع أشرطة مسلّم كان جزءا من وقائع مؤسفة ومعارك غير شريفة، دارت بين مشاهير قرّاء ذلك الزمان سعيا وراء المال والشهرة، منها ما حكاه لي القارئ الراحل محمد محمود الطبلاوي بنفسه، من أنه كاد يموت بفنجان قهوة "مسموم" في أحد سرادقات العزاء، لولا أن اصطدم صبي البوفيه بالفنجان، فأسقطه! 

والكتاب، الذي يصدر قريبا، محاولة لبحث الشيخ عنتر مسلّم، وموقعه الحقيقي بين معاصريه من القرّاء، وكيف خاض بمفرده معركة وصلت أصداؤها إلى أروقة الأزهر وأوراق الصحف، وتصدى لخصومه من كبار المقرئين المسنودين بمؤسسات الدولة، بينما ظهره هو إلى الحائط؟

ولماذا حوصر رجل رفض "الجنسية الليبية" التي عرضها عليه مبعوث شخصي من العقيد معمر القذافي، وكيف اختفى في النهاية شيخ اعتبره بعض الناس "قارئ العصر"، ثم عاد مرة أخرى إلى الوجود بعد نحو 35 سنة من المنع، عاد بملايين المشاهدات والتعليقات على مواقع "يوتيوب" و"ساوند كلاود" و"فيسبوك"، مصحوبا بنفس الجدال الكبير الذي أثاره ذات يوم! 

هذه الأسئلة المشروعة هي بعض علامات الاستفهام الكثيرة، والكبيرة، في سيرة هذا الشيخ، وهي - بالتأكيد- جزء صغير، ذو شجون وشؤون، من "قصة مصر" عبر العصور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: طايع الديب
*مقدمة كتاب "الكروان الممنوع: قصة القارئ الشيخ عنتر مسلّم" للكاتب، يصدر قريبا.


مقالات اخرى للكاتب

تحطيم الآلهة | محمود السعدني..





اعلان