20 - 04 - 2024

نقد أدبي| "رأس مستعمل للبيع" .. وهج، وإعادة لتشكيل عالم بلغة خاصة وصادقة

نقد أدبي|

دفعتني المجموعة القصصية "رأس مستعمل للبيع" للكاتبة "شيرين فتحي" للتساؤل عن الوهج الذي يشع من الفن الحقيقي. نشعر به دون أن نحدد لماذا، أو من أين يأتي؟ فقد ينجح كاتب في تنفيذ كل القواعد التي نكتب بها القصة، أو الرواية، أو المسرحية أو نرسم بها لوحة، لكنها لا تكون فنًا.

هل يمكن تفسير هذا الوهج، هذه الطاقة التي تخرج من الكلمات؟ هي المرة الأولى التي أقرأ فيها للكاتبة "شيرين فتحي". تشير المعلومات المكتوبة على ظهر كتابها إلى أنها صيدلانية وقد أصدرت رواية بعنوان "خفة روح"، ومجموعة قصصية بعنوان "البطلة لا يجب أن تكون بدينة" سبق وأن فازت بجائزة ساويرس للشباب. 

بداية مبشرة لكاتبة تعيد تشكيل العالم بلغتها الخاصة جدًا المغموسة بتجربة انسانية حقيقية، وصادقة وقد أعلنت في بداية كتابها أنها وغيرها يكتبون ليرتقوا ثقوب الروح. معها حق وأضم صوتي لها فكيف فعلت ذلك؟ رأيت في كتابتها قدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة التي تشكل صورة للعلاقات الاجتماعية تتسلل إليك بسهولة تجرح من دون دم. 

في قصتها "قابلة للقضم" تفتح لنا الباب لنرى رغبة الزوج التي لا يستطيع كبحها لقضم أجزاء من كتف زوجته، على الرغم من أنه يريد أن يتكئ مرتاحًا على هذا الكتف الذي لم يعد طريًا بسبب قضماته المتتالية، ولأنها قابلة للقضم فقد أهدته نفسها بلا اسئلة. ولأنه يحبها ولا يريد لها أن تتألم ذهب إلى الطبيب ومع العلاج عاد إليه الاكتئاب بسبب عدم قدرته على تحقيق التوافق بين ما يريده وبين هذا الذي يحركه في الداخل. همست له أمه التي تحولت إلى هيكل عظمي شيه مفتت بسبب ما قضمه زوجها أن يعاود القضم ليستريح. تريد المؤلفة أن تقول لنا إن الاستلاب الذي تمارسه المرأة نحو نفسها ونحو غيرها من بني جنسها قد وصل إلى الذروة. وإنه ممتد من الأم إلى الابنة إلى زوجة الابن دونما فرق، وإن الأم التي تربي طفلها على مساعدتها في لملمة وجعها هي نفسها التي تدفعه دفعًا لكي يستمر في قضم أجزاء من زوجته حتى يحولها إلى هيكل تتناثر أجزاؤه كما فعل أبوه بها، ويستمر المشهد. يلملم الحفيد قطع العظام الصغيرة المتناثرة من أمه ليعطيها لها كي تلضمها بخيط كما كان يفعل زوجها مع أمه. 

عمليات خسائر ورتق مستمرة تنقلها الأمهات إلى بناتها وابنائها ليرسخن أوجاع الماضي ويخلقن أوجاعا جديدة، فهل كانت النتائج ستختلف إذا ما كانت هذه المرأة غير قابلة للقضم؟ سؤال اطرحه أنا بصفتي قارئة حتى تكتمل دائرة الإبداع بمرجعياتي وثقافتي وتجربتي، وهذا ما يحققه الفن الأصيل، ومن هنا يأتي الوهج. 

تقدم لنا المجموعة القصصية صورًا عديدة تجسد عدم ادراك المرأة للدفاع عن انسانيتها منها: صورة الفتاة التي لن تختتن بسبب ارتفاع مستوى وعي أهلها، وكيف اعتدت عليها الفتيات الأخريات المختتنات، بوصمها بأنها غير مؤدبة، وصورة الحماه التي أثارت الابن ضد زوجته بادعائها أنها تغوي أخيه حتى تستعيد حنانه وانشغاله بها، بعد أن باعد زواجه بينهما ولم تدر أنها دفعت الابن لقتل اخيه. 

صورة الوحدة التي جسدها الكف الذي لا يلامسه غير الطبيب، والمسامير التي تثبت روح امرأة على الحائط. ومحاولات البعض البحث عن طريق آخر للسعادة أو التحقق أحيانًا وفي أحيان كثيرة عن العدل، لكنه بحث ينتهي إلى لا شيء، لا يؤدي في النهاية إلى الخلاص مثل قصتها الطريق وهي فكرة تسيطر على المجموعة بصور متعددة ربما أهمها القصة التي اتخذت اسم المجموعة "رأس مستعمل للبيع"، ففي محاولات واحدة من أبطالها لمنع الموسيقى التي تدق في رأسها وتدفعها دفعًا للرقص من الخروج من رأسها إلى الآخرين. جربت كل شيء: احكمت ربط الايشارب حول رأسها، حشرت شربات الزوج القديمة في الفراغات أو الثقوب كما جاء في مقدمة كتابها، واذابت شمعا لملء هذه الثقوب التي لا تنفك في العودة كلما تصورت أنها قد تحكمت بها. لم تجد في النهاية مناصًا من بيع هذه الرأس جلابة المشاكل التي يرى الآخرون موسيقاها، والبحث عن غيرها دون جدوى، ثم الرضوخ في آخر الأمر لبقائها بدون رأس أفضل كما اقترح الزوج. 

ترسم لنا أيضًا الكاتبة صورة عن الانتقام باستخدام المواد المتاحة في متناول يد بطلتها، ثم نكتشف في النهاية أنها كانت تلف نفسها بأقصى سرعة أثناء لفه للمفتاح وتشغيله لمحرك السيارة وأنهما يمضيان في طريقهما ككل يوم. 

صورة الأم التي تتقلص مع الأيام وتنكمش حتى لم يعد أحد يراها، في قصة "لعنة الأكياس"، أو الزوجة التي يسلخ جلدها وقوع شوربة ساخنة على فخذها ثم تكمل نشاطها في خدمة الأسرة، أو الفتاة التي تذهب بملء ارادتها للمبرمج كي يبرمج لها رأسها. 

ليس الملل هو ما تصفه بطلات الكاتبة "شيرين فتحي"، لكنه البحث عن حياة أخرى غير متاحة؛ فتح أبواب مغلقة بدلا من الوقوف خلفها والنباح، ارتداء جونلة من الصاج وتثبيتها في عجلة الملاهي الدوارة كي تطير صاحبتها، وترتفع إلى السماء. بتر أصابع جثة حديثة الموت كانت تداهمها في الماضي، وأفسدت طفولتها. بترتها كي تتخلص من مشاعر الكراهية والغضب التي تراكمت داخلها، ثم القتها للكلاب التي كانت تنبح في طريق عودتها لبيتها. مساومة الزوج على الحصول على المتعة بعد أن يدفع الثمن. مد المريض بالتيبس فروعه حتى التي تيبست إلى خارج الغرفة المسجون بها بعدما كسرت زجاج النافذة المغلق منذ زمن، في قصة احتكاك، لكن هل يكفي هذا؟

 الصور المتتالية الفانتازية في هذه المجموعة تبعث على الأسى، لكن الغريب أنه أسى مقبول مثل التنازلات التي تقوم بها بطلات الحكايات دون أن يسترعي هذا انتباه أحد. كتبتها شيرين فتحي بدون خطابة على العكس لغة حساسة وصور متكاملة ومكثفة. بناء قصصي محكم، وقدرة عالية على رصد الإيماءات التي ترسم دلالات المعنى. من وسط عالم النساء الرحب الكثير التضحية، القليل السعادة، لكن الأمر ليس قطعي السواد، هناك ثقوب أيضًا في الظلام مثل صورة المرأة التي طلبت من العارف أن يكفنها بنفسه، وألا تنكشف على غيره. زوج من نوع آخر غير الأزواج الذين عبروا هذه المجموعة. لكن صورهم شحيحة للغاية، ولا تكفي لتبعث النور، أو تسد ثقوب الروح. 

انتظر من الكاتبة "شيرين فتحي" الكثير فهي قد بدأت، واستمرارها مرهون بقدرتها على سد الثقوب المعتمة في سمائنا، خاصة إذا ما مدت ملاحظات استشعارها إلى رؤية العالم الأبعد الأشمل بما فيه عالم المرأة ذاته، فقد لاحظت أن اهتماماتها مقصورة على عالم النساء المقهورات. لا توجد في قصصها نساء قويات قادرات على التجاوز والبناء والنجاح، وليس بالضرورة القهر، حتى عنوان مجموعتها "البطلة لا يجب أن تكون بدينة" يوحي بالغضب من مطالبة النساء بالتزام شكل معين للجسد. 

أقول لها: العالم الواسع أرحب، وقدرتك على اقتناص التفاصيل الموحية من أجل تغييره سيكون لها تأثير أكبر كثيرًا إذا ما وسع عالمك كل البشر بضعفهم قبل قوتهم.
---------------
بقلم: هالة البدري






اعلان