19 - 04 - 2024

دون كيشوت .. الفارس النبيل يعود من جديد فى فيلم The Platform

دون كيشوت .. الفارس النبيل يعود من جديد فى فيلم The Platform

- الفيلم فانتازيا فلسفية "هل الانسان ذئب أخيه ؟ ".. وتنظيرا سياسيا لمجتمعات ما بعد الكورونا

فى القرن السادس عشر كتب الروائى الأسبانى " ميجيل دى ثربانتس" رائعته الأدبية "دون كيشوت" والتى كانت بمثابة مرآه لذلك العصر بكل سوءاته الاجتماعية والسياسية والادارية، وما كان يعج به ذلك العصر من دعاوى زائفة فى الآداب والأخلاق والعدالة.

وعلى الرغم من مرور نحو نحو ستة قرون على تلك التحفة الأدبية الا أنها لازالت تعد إلهاما كبيرا للكتاب والأدباء والفنانين ومخرجى السينما لتثبت أن داخل كل منا "دون كيشوت" مقاوما للظلم والشر داخل مجتمعه. 

فى شهر مارس الماضى عاد لنا "دون كيشوت" بثوب جديد فى فيلم the platform الذى يعتبر فانتازيا فلسفية تناول فيها الصراع الطبقى، وفقا لكارل ماركس، الذى ذكر أن تاريخ كل المجتمعات ما هو إلا تاريخ لهذا الصراع الطبقى ، وهي نفس الفكرة التى سبق أن تناولها أيضا"بونج كونج هو" مخرج فيلم parasite والذى عبر بطريقة بارعة عن أى مدى بلغ جنون هذا الصراع من وحشية. 

ينتمى فيلم the platform الى أفلام الرعب والتشويق حتى استطاع الحصول على جائزة "جورسليتش" لاختيار الجمهور من مهرجان تورنتو السينمائى الدولى، وجائزة "جنون منتصف الليل" من حيث نسبة المشاهدة فى المنازل وقت التزام الجميع فى منازلهم، إثر الحجر الصحى بعد اجتياح فيروس كورونا للعالم أجمع، ويعبر الفيلم عن الحالة التى يعيشها العالم حاليا مع جائحة فيروس كورونا. 

فان كان الناس خلال الحجر الصحى قد حبسوا فى منازلهم وتدافعوا على المحال لشراء وتخزين السلع الغذائية، فالفيلم يصور أيضا كيف يتحول الانسان إلى وحش كاسر بسبب الجوع لدرجة أن يصبح "الانسان ذئبا لأخيه " على حد تعبير الفيلسوف الانجليزى “توماس هوبز”.

وكما ذكر أحد أبطال الفيلم "اذا لم تأكل تؤكل" فيحاول الفيلم البحث عن مخرج من هذا الجنون وايصال رسالة لمن يهمه الأمر، وايجاد تصور لشكل المجتمعات بعد سقوط ذلك النظام الطبقى، والذى اعتبره بات وشيكا من وجهة نظرى بعد جائحة فيروس كورونا الذى ضرب العالم . 

الفيلم مأخوذ عن نص مسرحى كتبه الأديبان "ديفيد ديسولا" و " بيدرو ريفيرو" في إطار النقد الاجتماعى واللذان شاركا فى نفس الفيلم حيث ظهرا كضحيتين فى أطار هذا النظام المجنون، فهما ليسا بمعزل عن بقية السجناء، فالجميع أسرى تلك الحفرة الجهنمية. 

تدور أحداث الفيلم حول سجن رأسى مكون من 333 مستوى، و يقبع سجينان فى كل مستوى لمدة شهر، وفى نهاية هذا الشهر يستنشقان رائحة غاز ينامان على إثره، ليكتشفا انتقالهما الى مستوى آخر، إما أن يكون فى مستوى أعلى أومستوى ادنى. 

وتتدلى من القمة عند "المستوى صفر" مائدة طعام تم اعدادها من قبل ادارة هذا السجن لتتحرك رأسيا بحيث تطعم كل تلك المستويات، على أن تمكث المائدة لمدة دقيقتين فى كل مستوى.فاذا توقفت المائدة عند المستوى ستة ستكون مليئة بالطعام، بينما لايصل الطعام الى المستويات الدنيا والتى يحدث فيها الصراع الدامى على الطعام لدرجة تصل إلى أن يفترس أحدهما رفيقه فى هذا المستوى المنخفض. 

وتدخل رواية "دون كيشوت" فى النسيج الدرامى حيث اختارها بطل الفيلم لترافقه داخل محبسه فهو رجل مثقف حالم طموح يريد الاقلاع عن التدخين والحصول على شهادة، هذا فى الوقت الذى اختارفيه بقية السجناء أشياء أخرى مثل سكاكين أوأسلحة أو نقود أو قيثارة أو حيوان أليف. 

ويتقمص بطل فيلم the platform شخصية" دون كيشوت "المحارب النبيل شيئا فشيئا ليحاول ايجاد حل أوحت إليه به رفيقته فى أحد المستويات الدنيا فيدخل فى صراع من أجل توصيل الطعام لكل الطوابق، وهو نظام التضامن بين الجميع بحيث يترك من هم فى الطوابق الأعلى جزءا من الطعام لقاطنى الطوابق الأدنى منها، الا أن البطل يكتشف عجزه عن تطبيق هذا النظام على جميع الطوابق بسبب رغبة من يقطنون الطبقات العليا في الحصول على كافة مزايا ذلك المستوى، حتى وان تبولوا وتغوطوا بالمعنى الحرفى للكلمة على من يسكنون الطوابق الدنيا وهو ما أظهره المخرج بصورة مقززة ليشير الى مدى قتامة هذا السجن الرأسمالى وانحطاطه. وهو ما تقوم به الطبقات الأكثر ثراء فى تلك المجتمعات الرأسمالية الى الهيمنة وابقاء الأوضاع كما هى مهما استدعى ذلك من عنف وتكسير القواعد والقوانين. 

يكتشف بطل الفيلم أنه مع التنقل من مستوى الى آخر يفقد إنسانيته شيئا فشيئا مع شعوره بالجوع القارس، وذلك حين قام بالتهام أوراق روايتة المحببة إلى قلبه "دون كيشوت" ليسد بها جوعه، ثم التهامه جسد رفيقته فى نفس المستوى التى رفضت الحياة فى ذلك الجنون، وفضلت أن تهب جسدها له ليقاوم بلحمها وحش الجوع. 

وعلى الرغم من انتقال البطل الى مستوى 6 الممتازالا أنه فضل عدم البقاء فيه، واختارالبحث عن وسيلة لضمان وصول الطعام لكل المستويات بتطبيق نظام التضامن، وهو ماذكره الاديب الأسبانى "ميجيل دى سربانتس" فى رواية " دون كيشوت" بقوله: "عندما تبدو الحياة نفسها مجنونة، من يعرف أين يكمن الجنون؟ ربما الجنون هو أن تكون عمليا جدا، ربما الجنون هو أن تتخلى عن أحلامك، الكثير من العقل ربما هو الجنون، وربما الأكثر جنونا هو أن ترى الحياة كما هى.. لا كما يجب أن تكون"، وذلك ما فعله بطل الفيلم حين فضل التخلى عن المكوث فى مستوى 6 الممتاز من أجل تحقيق فكرة التضامن النبيلة التى سبق أن أوحتها له رفيقته السابقة قبيل انتحارها، فيساعده "بهارات المسلم" رفيقه فى نفس المستوى الممتاز فى مقاومة وضرب من يرفض تطبيق الفكرة الا أنه يكتشف أن الطعام لايمكنه الوصول لكل المستويات، بسبب رغبة من فى الطوابق العليا الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الطعام.. حتى ولو لم يتبق شيء لقاطنى الطبقات الدنيا. 

وخلال تطبيق نظرية التضامن يقابل كل من بطل الفيلم ورفيقه بهارات المسلم رجلا حكيما يوحى لهما بفكرة للخروج من هذا السجن وذلك بايصال رسالة لاداره السجن فى المستوى صفر، بالابقاء على طبق من الحلوى لم يعبث به أحد كرسالة اعتراض سلمية على ادارة السجن، إلا أنه يكتشف وجود فتاه صغيرة جائعة فى قاع السجن فيطعمها الحلوى، معتبرا أن الفتاة هى الرسالة التى يريد توصيلها لادارة السجن. 

أظهر الفيلم القدر الهائل من التفاوت الاجتماعى والاقتصادى بين البشر فى ظل النظام الرأسمالى العمودى، كما رمز بهذا السجن ذو المستويات 333 الى الشيطان بحيث اذا ضربنا رقم اثنين فى 333 سيصبح الناتج 666 وهو رمز الشيطان نسبة الى النظام الرأسمالى الشيطانى. 

تناول فيلم the platform سعار الاعلانات والبروباجاندا فى السيطرة على عقول الناس لدرجة تغييبها مما جعل "تريماجاسى" رفيق بطل الفيلم "إيفان مساجوى" فى المستوى 48 ضحية هذا السعار، حين ذكر سبب مجيئه لهذا السجن بسبب شرائه سكينا من النوع بلاس، ثم سكينا آخرمن نوع "برو بلاس"، ثم سكينا من نوع "برو بلاس ألترا" وهكذا الى ما لانهاية، فجن جنونه.. وقام بإلقاء التليفزيون ليقتل شخصا بالخطأ، وقد خيروه اما أن يصبح نزيلا فى مستشفى الأمراض العقلية أو نزيلا فى هذا السجن العمودى. 

ركز الفيلم على ظاهرة الانتحار والتى عبر عنها بطبقة الساقطين، حين ذكر أحد السجناء أن النظام داخل السجن يحوى ثلاث طبقات: طبقة عليا وطبقة سفلى وطبقة الساقطين وهم هؤلاء الذين اختاروا السقوط على أن يستمروا فى تلك المهزلة، حيث تزداد نسبة المنتحرين فى العالم صرعى هذا النظام الكاسر، وهو ما قامت به رفيقة "إيفان مساجوى" بطل الفيلم التى اختارت الانتحار على العيش حبيسة هذا الجنون. 

انتقد الفيلم القوى التى تحكم العالم وهى النموذج الغربى المسيحى، والذى يمثله بطل الفيلم الذى تلوث وفقد آدميته بالتدريج كما وقف فيلم the platform ضد العالم الاسلامى أيضا، والذى صوره "جالدير جازتيلو أورت" مخرج الفيلم مجتمعا انتهازيا ،وصوليا، متملقا يكره بعضه البعض ويريد الصعود الى أعلى بلا أى قواعد، حيث جعل شخصية بهارات المسلم يحمل حبلا ويريد التسلق للمستوى 5 حتى لو كان الثمن تملق قاطنى هذا المستوى وجعل ثمن مساعدتهم له دخول الجنة. 

وقد رمز الى هذا الموقف بالحبل الذى أراد بهارات تسلقه للوصول لمستوى خمسة، وبصرف النظر عن تحيزه ضد شخصية بهارات المسلم الا أنه أعطاه حقه بوصفه بالطيبة وامتلاكه لضمير يقظ وذلك بمساعدة رفيقه فى تحقيق التضامن بين كافة المستويات. 

أظهر الفيلم موت المشاعر والأحاسيس فى ظل هذا النظام فالبطل قام بالتهام صفحات روايتة المحببة إلى قلبه "دون كيشوت"، وهناك فتاه تخلت عن قيثارتها حيث استبدلتها بالكذب والخداع، بحثا عن طفل وهمى.. ففى ظل هذا النظام الوحشى لاوقت للحب والاخاء والصداقة والنبل، وهو ما عبر عنه مشهد فى الفيلم حين رفض الرجل العجوز رفيق البطل فى المستوى 48 مصافحته، لأنه قد يضطر لافتراسه فى المستويات الدنيا لسد جوعه، كما اشترط عليه أن يكون التعامل بينهما من منطلق نفعى، أى معلومة فيه تقابلها معلومة من الطرف الآخر. 

وتعتبر نهاية فيلم the platform محيرة، فالبعض رأى أن تلك الطفلة الرسالة هى الأجيال القادمة التى ضحى البطل بنفسه من أجلها ليسقط صريع الظلام والجوع فى القاع، الا أننى أرى أنها وصف وتنظير لمجتمعات ونظم جديدة وليدة، لازالت تتشكل وتلوح فى الأفق، وسيساعد اجتياح فيروس كورونا على التعجيل بظهورها ، وذلك اثرانهيار ذلك السجن الرأسمالى الذى ثبت فشله، اختار المخرج بأن تكون الفتاة أسيوية، ويقصد بذلك أن تلك النظم ستكون من أصحاب البشرة الصفراء فى قارة أسيا بعيدا عن العالم الغربى المسيحى وعن العالم الاسلامى. 

اعتمد الفيلم على نظرية االصراع الطبقى ونظرية الانسان ذئب أخيه، فتلك النظريات اعتبرت الصراع قاعدة للنظام الاجتماعى والتاريخ الذى حمل فى طياته بذور عقيدة التدمير الذاتى،على عكس النظرية الاسلامية التى تقوم على أساس مفهوم "التدافع " مقابلا لمفهوم الصراع فى تلك النظريات الغربية المعاصرة، فالتدافع مفهوم قرآنى وفقا لقول الله تعالى "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (الآية 251 من سورة البقرة). وبالتالى فان مفهوم التدافع فى النموذج الاسلامى يرتبط بدفع ومقاومة الفساد والشرور. وأخيرا وعلى الرغم من مدى قتامة الفيلم باحتوائه على كثير من المواقف المقززة والصادمة فاننا نجده عملا فنيا حقيقيا، فقد نجح الفيلم فى تقديم نقدا اجتماعيا للمجتمعات التى تحكمها النظم الرأسمالية ومن عاقبة الاستمرار على هذا الوضع البائس تحت وطأتها.
-------------------
رؤية بقلم: هدى مكاوي






اعلان