25 - 04 - 2024

ترنيمة عشق| الكورونا في حَلبة الملاكمة

ترنيمة عشق| الكورونا في حَلبة الملاكمة

ارتدتْ الكورونا زيّها الأخضر، ودلفتْ لحلبة الملاكمة تتبختر، لتواجه خصمها الأخرق؛ ذا الرداء الأزرق، كانت الفيروس المسكينة ضئيلة ونحيلة، فلم يرها خصمها المزهو بالغرور والكبرياء، فاقتربت منه كي يراها بوضوح وجلاء.

قبل بدء المباراة؛ أبدتْ الكورونا استياءها وامتعاضها من تسمية منافسها بـ "الخصم"؛ وقالت دون خجل أو وجَلٍ: كيف يكون خصمي وأنا أذوب فيه عشقًا؟! ألا ترونني حين أدخله لا أتركه إلا موتًا؟! أما إذا قاومني؛ وغلّق الأبواب هروبًا منّي؛ يصيبني الملل فأغادره؛ ولكن بعد ما الدرس أُلقّنه؛ ساعة أكون قد قددتُ قميصه من دُبر ومن قُبلٍ؛ وعن يمينه وعن شماله، ليعلم أني فيه راغبة؛ وإليه تائقة؛ لكن كرامتي وعزة نفسي تمنعني حين له أقول: قد هئتُ لك أيها الملول الجهول، وأنا أعلمُ أنه يفرُّ ممن يعشقه ويهواه؛ ويفكر فيمن يتجاهله وينساه، ومع ذلك فأنا عنيدة؛ فقد أعاوده متنكرةً في زيٍّ وصرعةٍ جديدة، لأني أدرك أنه أسير الجَمَال والبهاء؛ ضعيفٌ أمام عالَم الموضة والأزياء.

قبل أن يلتحم المتلاكمان -الفيروس والإنسان- تقترب الكورونا هامسةً غير متوجسة: أيها الأزرق الأحمق؛ دعكَ من أفكارك التقليدية يا مسكين، قد جئتك بالنبا اليقين، فالنفعية المكيافيلية لم تعد تليق؛ ولابد عنها تحيد، وحده "كونفشيوس" الفائز، وللتعاطف العالمي حائز، ذلك الداعي إلى أن "الكل في واحد"، فجميعنا داخل "الأنطولوجي" ليس بشارد.

ألا ترى الإنسانية في الصين قد تخطّت سورها العظيم، وذهبت للعديد من دول العالَم لتساعدهم في القضاء على كوفيد العنيد، لقد عالجتْ الصين شعبها؛ وعاونت جيرانها؛ ودول العالم كلها؛ رغم أنانيته التي تبدّتْ في عمق المَرسَى؛ وقت سرق "ترامب" السفينة المتجهة إلى فرنسا، ومنع عن إيطاليا المساعدات الإنسانية، واستولوا على الباخرة التونسية؛ المحملة بالمعدات والكمامات الطبية، وكذلك فعلوا مع الجمهورية الصربية، وغلّقوا حدودهم في وجه بعض دول الاتحاد الأوروبيّ؛ فبات قاب قوسين أو أدنى من انهيارٍ مُدويّ.

يبتسم "الأزرق" بسخرية بادية: تودين الفوز عليّ بضربة قاضية؟ تريدنني أن أغير قناعاتي؟! كلا يا فتاتي؛ فلن تستطيع الشيوعية سحب بساط الرأسمالية، ألا ترين أنّها ولّت وجهها شطر الأبحاث العلمية، وجندتْ ثرواتها لاختراع الأمصال واللقاحات المداوية، لتحتكرها وتبيعها، لتبقى الغلبة دائمًا لها، الغاية تبرر الوسيلة؛ تلك فلسفتنا النبيلة؛ ولا عزاء لإنسانيتكم الحمراء، وإن تنكرَتْ في فيروساتكم الخضراء؛ لتقضّ عالمنا الذي رتبناه على حالاته، وصرنا عاقدي صفقاته ورؤساء هيئاته.

ينبه الحَكم المتنافسين أن همسهما مسألة غير قانونية؛ ومن باب الهرطقة غير الضرورية، فيلوّح الأخضر مُنذرًا مُهددًا؛ ويسدّد لخصمه قفازية قوية؛ فيختل توازنه ويسقط سقطة مدوِية؛ ويواصل: أية أبحاث ستهزمني؟ ألا ترى أن مخازن اسلحتكم لم تُصبني، انتظرْني لحظة أحكُم قبضتي عليك أيها المغرور؛ حينها لن أتركك قبل أن تصدأ أسلحتكم يا مأفون، ليتك لا تستمع لـ "ترامبكم" المهبول؛ المتيم بالعظمةً والجنون، ماذا ستفعل أسلحتكم الحقيرة، بعد أن صارت أوطانكم تحت سيطرتي ذليلة؟!

أُنظر إلى ضآلة حجمي؛ وترقّب معي عالمًا جديدًا يتشكل في رحمي؛ ذلك الذي منه تشمئزون؛ ومن قذارته تستغيثون، وحدي سأغَير طباعكم واُبدّل أوضاعكم، أنا سبب كَربكم ومفتاح فرَجكم، ألا ترى الصين تنظر لكم  باستهزاء؛ وأنتم تمارسون الغباء؛ حين تحولون مناهجكم التعليمية إلى دروسٍ منزلية، باستخدام الحاسبات الآلية، فكِر قليلا أيها الحِمار؛ من سينتجها بأرخص الأسعار لتكون في متناول الكبار والصِّغار؟ مَن يملك العمالة البشرية الهائلة الرخيصة القادرة على تصنيع ما تمليه عليكم أبحاثكم العلمية النفيسة؟!

اسمعني أيها المغرور؛ سأقول لك بكل سرور: إنّ لدي أسلحة أخرى ماضية، ألا ترى في الثلاثين عامًا الماضية؛ كم فيروس خرج من بلادي لغزو دنياكم الفانية؟ ألم تدرك أن تعديكم على المناخ والغابات؛ تسبّب في هروب الحشرات والحيوانات؛ فتركتْ مساكنها الطبيعية لتعيش وسط الغابات الإسمنتية؟ أصبحنا نجاورها ليل نهار، فباتت حاضنة طبيعية لفيروساتنا وأوبئتنا، فصدّرناها لكم دون أن نشعر بأي خزيٍ أو عار.

يتحامل الأزرق ممتصًا الضربة؛ ويوجه لكمة خطافية للأخضر فتصيبه بصدمة، منبهًا إياه أن العالَم بعد انجلاء الغمة والوباء؛ سيعاني من انهياراتٍ وتباعد وجفاء؛ ولن يحتاج إلى عِمالة صينية رخيصة؛ تنال شرف تصنيع ماركاته النفيسة، فقد باتتِ الأمصار والديار في أمَس الحاجة لليورو والدينار، قد تغيرت القناعات؛ وفقدت الغالبية الأرزاق والعطاءات، وبات الوزير يتمنى وظيفة غفير؛ لأن أم الأولاد تنتظره على الباب بالقُبقاب؛ إن لم يأت لها بالكفتة والكباب.

وقبل الوقوع في الكبوة؛ يوجه الأخضر أقوى لكمة؛ فيتفاداها الأزرق مراوغًا برأسه وكتفيه، ويعاجله بضربة موجعة تحت الحزام أعلى ساقيه؛ قائلا بمِلء شدقيه: أيها الأزرق الأحمق؛ مَن قال أن قوانين العمل بعد زوالي ستسمح بعودتكم يا غفلان، ألا تراني قد محوت مقولة "مارشال ماكلوهان" الذي ادّعى أن العالَم بات قرية صغيرة، هأنذا اُثبت بكل ثقة أنه تحوّل إلى حارة حقيرة.

قد تكدّستم خلف الشاشات، بعد أن وحّدتكم الألام الموجِعات، وصرتم تحلمون مني تتخلصون، ورغم أنكم وصفتموني بالجائحة؛ فقد نسيتم أني منحتكم فرصة سانحة؛ فأصبحتم تتعلمون وتعملون من وراء الشاشات، وزرتم المتاحف والمعارض دون حاجة للمواصلات؛ وجعلت لكم القانون والطب مجرد استشارات؛ وحجز الطائرات على الموبايل مجرد تطبيقات، ولم يعد هناك حاجة لبناء مدارس أو جامعات؛ ولا مشافي أو حتى وزارات.

انظر وتمعّن أيها الأزرق المكابِر، فلم تعُد ذلك المتهور المغامِر، عوّدتكم على الطهارة والغسيل، ومنعتكم من المصافحة والتقبيل، ولن يعود الزحام في المولات ولا الكافيهات، ولا في صلوات الأعياد والآحاد، ستصبح الأفراح قاصرة على العروسين والمأذون؛ وستختفي موائد الرحمن وعربات الفول، الكل أصبح يخاف من الزيارات والزحام، وسيطر عليهم الوسواس بأنّ التنائي منجَى وسلامة وفي القرب عدوى ونّدامة.

يفيق الأزرق مِن أثر ضربة عدوّه القفازية، ليوجعه بيٌمنى ويُسرى خُطافية؛ فتندّ عن الأخضر صرخة مدوية؛ لتنتشي رُوح الأزرق مَرْضِية؛ وقال وهو في غاية الانسجام: البشر آفتهم النسيان، حين نجا نوح بالسفينة؛ توقّع عالمًا ملؤه الفضيلة، لكن فكِّر أيها الأخضر الأملح؛ في عالَمنا الذي لا يقيم وزنًا للأصلح، كيف يشجع الحقارة ويصفق للحثالة والئذالة، أليس هؤلاء أحفاد مَن آمن بالنبيّ؛ الذي أنقذهم من الطوفان على الجُوديّ؟!

سيعود العالَم ليدشن نظامًّا طاهرًا في ظاهرِه، ظالمًا قبيحًا في باطنِه، لقد تعوّد كثيرهم على استعباد الشيوعية؛ واستغلال الديكتاتورية؛ وانتهازية الرأسمالية؛ وقليلهم يتظاهرون؛ بالكرامة وبالحرية يطالبون، ثم تراهم يُنصّبون مَن يقودهم بالنار والحديد لا بالرأي السديد، فالبشر ليسوا عقلاء ولا أسوياء، كم مرّت عليهم دروس من التاريخ؛ كلها عِبر وتباريح؛ لكنهم لا يذّكرون ولا يعتبرون، أُبشّرك بأنهم سيخلقون تكتلات جديدة، وصراعات عديدة، وتوترات مديدة، ولا تنسى أنك قد ساهمتَ في هذه الصراعات، بعد أن فضحت العالم الأول المليئ بالعوَرات، أَلا تتوقع أن الدول المصدومة؛ ذات السفن المنهوبة؛ ستسعى ثائرة لتأخذ ثأرها جاهرة؟ حتى أنت أيها الساذج المسكين؛ ماذا لو التزمتَ مكانك بجمهورية الصين؛ كنتَ ستجدهم بأُناسك شامتين مردّدين: دعهم وحدهم ينزعون أشواكهم، ويطبّبون أمراضهم.

حصدتِ الأنفلونزا والكوليرا والطاعون والحروب الملايين؛ ومع ذلك لم توحد بين البشر الأحياء الباقين، يبدو أنك لن تفيق مِن هَبَلكَ وعَبَطكَ؛ إلا بلطمة ساحقة ماحقة على وجهكَ وعينِك؛ تُلقيك على أرض الحَلبة، لأفوز عليك وتُصبح ليّ الغَلبة.

يترنح العنيد كيوفيد، ويسقط على الأرض دامِعًا؛ فيتقدم الحَكم مُسرعًا، يطمئن على نفَسِه، فيستمع لهمسِه: مهما كانت نهايتي؛ فسأترك أثرًا يليق بمكانتي، تذكّروا أحداث 11 سبتمبر أيلول؛ الذي أعاد تشكيل عالَمكم المَلول، كيف غيّر العلاقات بين التحالفات والحكومات، وكيف صار مبدأ الشفافية والإعلام مطلبًا أساسيًّا لدى الشعوب والبلدان.

تذكروا؛ أني أفلحتُ في أن أعيد للبحث العلمي الجلال والاعتبار؛ وقدّرتَ العلماء والأطباء؛ والخبازين والمدرسين؛ وأفراد الديلفري والكنّاسين، وهأنتم تعرفون قيمة هؤلاء الوطنيين، فقبعتم في منازلكم آمنين مِطمئنين، كما أسقطتُ هيبة عروشٍ وكُبراء، وكراسي وزعماء؛ كنتم تتمسحون بأرجلهم خوفًا وطمعًا، وقد فَهِم الزعماء بعد ان عانوا البلاء؛ أنّ التّدثر بكم هو الصلاح والفلاح، حيث لم تنفعهم الأموال ولا السلاح.

كما كشفتُ التافهين والتافهات في عالَم الفنانين والفنانات؛ المتسترين خلف الأقنعة وأباطيلُ العناوين، بعد أن حصدوا الشهرة وجمعوا الملايين، وقدموا كل ما هو غث غير سمين، يبغون خراب القيم والأخلاق والدين، لقد علّمتُكم أن الوطنية وأنواط الشجاعة ليست فقط للعسكريين، وأن الدول والوطنيين الحقيقيين هي من كانت شعوبهم في رعاية صحية واجتماعية وتعليمية آمنين.

وهنا يخفتُ صوت كورونا الجَد؛ والحَكَم ما يزال يواصل العَد، ولمّا أصبح مصير الفيروس غير خفيّ؛ قال: تذكّروا أنّي لم اُفرق بين أسيوي أو عربي؛ ولا أمريكي أو أوروبي، ولا بين أشقر أو أسمر؛ ولا أصفر أو أحمر، الكل عندي سواء؛ قد ركِبه البلاء، لا فرق إلا بالإنسانية والمهارة العلمية، والتعاطف والتكاتف، والإيثار وسخاء الأرواح في العطايا والإصلاح، سيقف البعض أمام نفْسه طويلا ليتساءل عن الشئ الحقيق؛ النافع والمفيد؛ الذي يمكن أن يقدمه لهذا الكَون، ليمده ربهُ بالسند والعَون؛ هذا أعظم إرث أتركه لكم؛ ليمحو ما وجدته عندكم؛ مِن انحطاط وإِسفاف؛ وهنيئًا لفوز الأزرق بلمس الأكتاف.

---------------------------

بقلم: حورية عبيدة


مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | صفحة من تاريخ الأفاعي الأسود





اعلان