25 - 04 - 2024

أشرف مروان.. "رجل المستحيل"

أشرف مروان..

مع الاعتذار للمؤلف والكاتب نبيل فاروق الذى برع فى استخدام هذا التعبير "رجل المستحيل", ورغم أننا يفصلنا عن شهر أكتوبر 7 أشهر، والذى يحل فيه ذكرى انتصار حرب العاشر من رمضان عام 1973, تلك الذكرى المحببة إلى قلبى دائماً, تظل "مسألة" مقتل الدكتور أشرف مروان مخيفة بالنسبة لى, فمنذ خبر وفاة مروان فى 27 يونيو 2007 والعاصفة الكبيرة من الجدل التى شيعته إلى قبره, بقيت الأسئلة كثيرة تلح علىَّ ودفعتنى مهنة الصحافة إلى التحلى بالصبر حتى أصل إلى رواية متماسكة فى الدفاع عن هذا الرجل من التهمة التى حاول البعض إلصاقها به من أنه عمل لصالح الصهاينة فى الإعداد لحرب أكتوبر.

ومن خلال خبرتى الصحفية المتواضعة فإننى تعلمت أنه لا توجد أسرار وإنما الأمر بحاجة إلى باحث ومحقق مجتهد حتى يصل إلى الحقيقة كاملة, ورغم متابعتى – قدر استطاعتى – لما قيل عن مروان, فإن التحقيق الاستقصائى الذى أجرته قناة الجزيرة بعنوان " نهايات غامضة- كيف انتهت حياة أشرف مروان في لندن"؟ والموجود على يوتيوب بتاريخ 19‏نوفمبر2017(تجدونه في هذا الرابط)كان جيداً للغاية, ولعل أهم ما جاء فيه على لسان أحد شهود قضية مقتل مروان بأنه شاهد شخصين بملامح شرق أوسطية فى الشرفة والدكتور أشرف يطير فى الهواء, لعل هذا يفند ما حاول تسويقه الصهيونى يورى بار – جوزيف فى كتابه "الملاك.. الجاسوس الذى أنقذ إسرائيل" حين قال فى مقدمته (توفى مروان قبل أربعة أيام, حين سقط بشكل غامض من شرفة الطابق الخامس لشقته الفارهة...), ناهيك عن كم الترهات التى سعى جاهداً فى كتابه لبيعها إلى القارىء.

اجتمع الأصدقاء والخصوم على وصف مروان بالغرور، حيث وصفه الصحفى البريطانى كريس هرست فى الاستقصائى بذلك, كما وصفه خصومه الكثيرون أيضاً بنفس الصفة والشهادات موجودة على موقع يوتيوب لمن يريد, لكن وبعيداً عن أضواء الكاميرات وورق الصحف وعندما تُحاول التفتيش فى وثائق الماضى تجد أن مصر أحكمت خطتها – بصفة عامة - فى خداع العدو الصهيونى وبالتالى فإن الحديث عن "تفصيلة" صغيرة هنا أو هناك يظل غير ذات معنى, فالعبرة دائماً بالنتائج, وقد نجحت المحروسة فى مباغتة العدو الصهيونى وأفقدته القدرة على اتخاذ قرار اتخاذ ضربة استباقية لاجهاض حرب السادس من أكتوبر 1973. ولمحاولة القرب أكثر من التفاصيل ففى كتاب "انتصار أكتوبر فى الوثائق الإسرائيلية.. وثائق رئيسى الأركان والمخابرات العسكرية" إشراف ومراجعة ودراسة إبراهيم البحراوى وترجمة مجموعة من الباحثين, والصادر مترجماً عن المركز القومى للترجمة، حيث جاء فيه ما يلى "خطأ الإنذار الذي أرسله مصدر مصرى" تقول الصحف الصهيونية إنه أشرف مروان "فى أبريل ١٩٧٣ بأن مصر ستهاجم فى مايو، حيث أعلنت القيادة السياسية الصهيونية التعبئة العامة على عكس تقدير المخابرات العسكرية التى استبعدت جدية الإنذار. لقد أدت هذه التجربة إلى زيادة الثقة فى تقدير المخابرات العسكرية عندما أفتت خلال شهرى سبتمبر والايام الخمسة الأولى من أكتوبر ١٩٧٣أنها تستبعد حصول هجوم رغم توالى الإنذارات والشواهد الميدانية", كما ينقل الكتاب عن رئيس أركان الجيش الصهيوني دافيد اليعازر فى شهادته أمام لجنة إجرانات – التى شُكلت بعد الانتصار للوقوف من الجانب الصهيونى على أسباب الهزيمة – ما يلى "لأنه لولا الإنجاز الذي تحقق بفعل المباغتة.. فأعتقد أنها كانت ستصبح حرباً خاسرة".

ليس هذا فحسب، فقد ذهب كاتب هذه السطور إلى منزل الدكتور الراحل إبراهيم البحراوى فى الثامن من أكتوبر الماضى لاستيضاحه بعض الأمور, فقال البحراوى إنه استشعر أو ربما استنتج – لست أذكر المصطلح تحديداً الآن – من خلال دراسته للشأن الصهيونى بوجود لجنة لديهم لتشويه الانتصار المصرى فى الحرب, لعل هذا يتفق مع ما ذهب إليه السيد نبيل العربى فى مذكراته التى حملت عنوان "طابا.. كامب ديفيد.. والجدار العازل"، حيث يقول نصاً "وقتذاك أصرت إسرائيل على أن حدود طابا تبدأ عند أشجار النخيل. واستمر هذا الموقف الإسرائيلى منذ 1981/82 وحتى صيف 2006", فهذا التشويه المتعمد من قبل الصهاينة للحقائق يؤشر بما لا يدع مجالاً للشك بأن هذا الأمر منظم.

خطة الخداع المصرى لم تصب فقط الكيان الصهيونى, وإنما الدولة العظمى التى تدعم بشكل مطلق وسافر الكيان الصهيونى وهى الولايات المتحدة الأمريكية, وإلا لما كانت للخطة المصرية أن تنجح إذ لم تستطع أن تصيب الرأس – أمريكا – قبل بقية أطراف الجسد, ففى الوثيقة التى تحمل رقم (1) من أرشيف الأمن القومى الأمريكى – متاح على شبكة الإنترنتhttps://nsarchive2.gwu.edu/NSAEBB/NSAEBB98/index.htm#doc63، جاء فيها بأن الرئيس السادات أخبر مجلة "نيوزيوك" الأمريكية فى حواره معها ربيع عام 1973 بأن الوقت قد حان لـ"الصدمة", لكن الوثيقة تعقب بقولها إنه لا يوجد أحد يعتقد بوجود خطة للحرب لدى الرئيس المصرى.

 ورغم أن البعض حاول نفى مصداقية إبلاغ مروان للجانب الصهيونى بموعد حرب أكتوبر – فى محاولة منهم لتبرئته – فإن الدكتور مينا ملاك عازر فى رسالته البحثية الحاصلة على درجة الماجستير من قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة عين شمس والتى جاءت بعنوان "علاقة مصر مع القوتين الأعظم في الفترة من ١٩٦٧ إلى ١٩٧٧ " – أُجيزت فى يناير 2009 – قال ما يلى "ولكن فور تأكد الاتحاد السوفيتي من التجاء المصريين إلى حسم الموقف عسكرياً أطلق قمراً صناعياً - كوزموس ٦٠٣ - فى ٣ أكتوبر " ١٩٧٣ " لمتابعة الأحداث بمنطقة الشرق الأوسط. كما استدعى السادات في نفس اليوم فيلاديمير فينوجرادوف السفير السوفيتي وأبلغه أنه قرر بالمشاركة مع سوريا دخول الحرب مع إسرائيل. وعليه طلب منه السفير قبول إرسال الاتحاد السوفيتي طائرات عملاقة لنقل الرعايا السوفيت من مصر، وقد قبل السادات ذلك وبالفعل بدأ الترحيل في ٤ أكتوبر، كما قام الاتحاد السوفيتي بتحريك قطع أسطوله الموجودة بميناءى الإسكندرية وبورسعيد إلى عرض البحر المتوسط. وهذه التحركات من قبل الاتحاد السوفيتي تنم عن تخليه عن مصر، حيث كادت تحركاته المشار إليها تكشف خطوات مصر نحو الحرب، غير أن سوء تقدير الإدارة الأمريكية للموقف لعب دوراً في عدم كشف المخطط المصري، حيث قدرت الولايات المتحدة هذه التحركات.. على أنها تصفية ثانية للوجود السوفيتي في مصر", يتفق مع الباحث ما أكدته الوثيقة رقم (7) من الأرشيف الأمريكى بأن الاتحاد السوفيتى بدأ فى إجلاء عائلات المستشارين العسكريين يوم 4 أكتوبر, كما حذر مصدراً سرياً جهاز الموساد – فى نفس يوم 4 أيضاً - من وقوع هجوم منسق بين مصر وسوريا, وتضيف الوثيقة بأنه فى اليوم التالى 5 أكتوبر أبقت الاستخبارات العسكرية الصهيونية احتمالية الحرب منخفضة.

وبالطبع فإن التواريخ والتوقيتات فى تلك اللحظات الحاسمة من حرب أكتوبر الرائعة مهمة للغاية فى الوصول للهدف من تقصى حقيقة خطة الخداع والتى كان مروان جزءًا منها, ففى الوثيقة رقم  (9) من الأرشيف بأن وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر تسلم رسالة من سفير بلاده فى تل أبيب وصلته متأخرة فى صباح يوم 6 أكتوبر 1973 قبل الساعة السادسة صباحاً بتوقيت واشنطن – ما يعنى الساعة 12 ظهراً بتوقيت القاهرة أى قبل ساعتين من موعد الحرب – من مصدر صهيونى عالى المصداقية (مصرى الجنسية) – وصفته الوثيقة بالعميل المزدوج - يفيد بوقوع الحرب فى نفس اليوم. وتضيف الوثيقة أن الصدمة والمفاجأة شلت حركة رئيسة وزراء الكيان جولدا مائير عن الاستماع لنصائح مستشاريها بالقيام بضربة استباقية ضد مصر وسوريا, وأوردت الوثيقة قول اللواء المصرى طلعت مسلم "إن خطة الخداع العربى كانت محكمة ", وكما يتضح من هذه الوثيقة فإن الصهاينة على ما يبدو انتظروا التوجيهات الأمريكية, هذه الأوامر أوردتها الدكتورة إنجى جنيدى فى كتابها الصادر عن سلسلة تاريخ المصريين بعنوان "الولايات المتحدة الأمريكية والصراع المصرى الإسرائيلى (1967 – 1979)" فى صفحة 161 بأن كيسنجر اتصل بالصهاينة لتحذيرهم من القيام بضربة استباقية, والسبب فى ذلك كما أوردت الباحثة نقلاً عن وثائق الخارجية الأمريكية بأنه حتى تلك اللحظات لم يكن كيسنجر يعتقد بأن الحرب قادمة.

لكن وبعيداً عن المحبين لمروان والذين انبروا فى الدفاع عنه – وكما جاء فى الأثر فإنما يبكى على الحب النساء – وعن أولئك الذين أكدوا ذهاب مروان بنفسه لإخبار العدو بموعد الحرب (وهذه بالنسبة لى لا تمثل مشكلة طالما جاءت فى إطار خطة الخداع، كما ذكرت) فإن محور الحديث يجب أن ينصب على تلك العقلية التى أدارت معركة تحرير الأرض العربية فى أكتوبر 1973، وأعنى هنا الرئيس الراحل أنور السادات, هذا الرجل لم تكن لديه أية مخاوف من إبلاغ السوفيت - ربما – بقرب موعد الحرب, هذه العقلية أيضاً جعلته – أى الرئيس السادات – كما أورد الدكتور مينا ملاك عازر فى كتابه "الولايات المتحدة الأمريكية وعملية السلام المصرية – الإسرائيلية (1973 – 1981)" -سلسلة تاريخ المصريين – بأن السادات سلم لكارتر ثلاث صفحات مطبوعة تتضمن التنازلات التى يمكن استخدامها فى اللحظات الحرجة, أثناء المباحثات التى جمعت مصر والكيان الصهيونى برعاية أمريكية بمنتجع كامب ديفيد فى سبتمبر 1978, بالتالى فإنه من الضرورى لمقاربة "مسألة" مروان عدم اجتزائها من سياقها وإنما التعامل مع الأمر كما كان, فالتاريخ ليس ما نتمناه, وإنما ما كان بالفعل, ولأن الرئيس السادات ليس بين أيدينا لنناقشه فى أسبابه التى دفعته لاتخاذ تلك القرارات فى تلك التوقيتات, لأن ما يعنينا هنا هى النتيجة الملموسة التى نشهدها أمامنا الآن, وإذا كان هذا حالنا وقد انتصرنا بشكل جزئى فى الحرب وأعدنا الأرض المصرية المحتلة – وليس كل الأرض العربية كما كان يريد الرئيس السادات –, فإن السؤال يبقى مشروعاً عما كنا سنفعله بأنفسنا لو أخفق الرئيس المصرى الراحل فى خطواته السابقة؟!

وختاماً فإن نهاية أشرف مروان أبقت الأبواب مشرعة لكل الاسئلة المشروعة: فمن الجهة المسئولة عن قتله؟ وهل دخل مروان صراعاً مع شخص أو ربما مجموعة متنفذة أدت به إلى تلك النهاية؟ وهل كان مروان على علم عندما قبل تأدية دور محورى ورئيسى فى عملية خداع العدو الصهيونى أنها ستؤدى به إلى تلك النهاية؟

وأسئلة أخرى كثيرة تبدو مشروعة, لكن الفيصل والمحك الرئيسى فى الأمر هى الوثيقة التى من المفترض أن تُفرج عنها الحكومة المصرية المتعلقة بهذا الرجل لتوضح لنا بشكل جلى تفاصيل دور مروان فى تلك العملية, ففى التفاصيل دائماً تكمن الشياطين.. فإلى ذلك الحين.
--------------------
بقلم: أحمد بهجت صابر*
*صحفى بجريدة الأخبار المسائى - مؤسسة أخبار اليوم
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب






اعلان