19 - 04 - 2024

(توشكري يا أستاذة يا بنت مصر يا مجدع)

(توشكري يا أستاذة يا بنت مصر يا مجدع)

 أعوام ممتعة قضيتها في العمل الصحفي، حمل لي بريده العطر آلاف الرسائل والتحايا لطالما أثلجت صدري وألهثتني شكرًا لله على المودة والقربى مع القراء، لكن لا أخفي عليكم أروع تحية تلك التي جاءتني من "وليد أبو حامد"؛ وآهٍ حين تعرفون مَن هو وليد أبو حامد.. هو لحْنٌ مصري بديع وأصيل، عزفته يد أب مصري فلاح أجير بسيط تستحق التقبيل، يد لم تمتد لقلم لكنها احتضنتْ فأسًا تزرع وتحصد وتمسح حبّات عرق لؤلؤية. 

كتب لي في رسالته -التي حاولتُ أن أنشرها كما كتبها دون تعديل كثير على أسلوبه- يقول: "قرأتُ مقالكِ الذي يحمل عنوان: إلى صديقي المتفائل وسط مواكب المحبطين، والحقيقة لن أضع على رأسكِ تاجًا مُرصعًا بالاطراءات وكلمات الثناء، فأسلوبي منتقص للبناء اللغوي والفكري (!!) أنا يا سيدتي عاشق للوطن وللحياة، والدي فلاح أجير رُزق بأبنائه الثلاثة، وأنا أكبرهم، فأضاف الأب لجسمه النحيل ساعات عمل شاقة في مصنع نسيج. 

كنا متفوقين دراسيًّا، ولأنّي أكبر الأبناء فقد ووجِهْتُ بأول اختبار علّمني أن سعادتي تكمن في أن أفعل مايجب علىّ فعله. 

فأنهيتُ المرحلة الإعدادية وأنا أرمق أخي الذي يصغرني، فإذ به يتوق مثلي للجامعة، فقررتُ أن أقتل حلمي، والتحقتُ فعلا بالتعليم الصناعي المتوسط، وخرجتُ مع إخواني نعمل في الحقل تارة، ومع طائفة المعمار تارة أخرى، وتحمّلتُ أنا العبء الأكبر، حتى تخرج الاثنان في الجامعة، وأصبح أحدهما طبيبًا فرِح به والدنا كثيرًا، ثم عملتُ فلاحًا وبناءً وعامل تراحيل أحمل الطوب والرمل، وطفتُ البلاد شرقها وغربها أبني صحراءها؛ فتتحول إلى مدن أنيقة لا أستطيع أن أسكن بها. 

كنتُ أردّد أنه بقدر القسوة والمعاناة بقدر رضانا وحبنا للحياة ولقصتنا التي لابد أن نسطرها بأيدينا، وأن القدَر لايظلمنا إن اجتهدنا وسعينا، ولذلك تحاكوا في قريتنا عن الصبية الثلاث الذين قهروا ظروفهم وانتصروا عليها.

تنبّهتُ لحالي؛ فإذا بي في الثانية والثلاثين من العمر ولم أتزوج بعد، فقررتُ -وعلى قدر ظروفي- أن أتمّم بيتي الريفي المتواضع، وتزوجت بمن تشبهني في ظروفها، واكرمني الله بزوجة مُحبة طيبة وطفلة جميلة، زِدتُ بعدها عدد ساعات عملي، فلا وقت للأحلام التي ليس لها أساس واقعي، فسوق العمل لا يرحب بالنفوس المتألمة أو المثالية، ولابد من العمل والكف عن الشكوى؛ موقنين أن الشقاء هو القفز فوق مستوى قدراتنا، متجاهلين أن التدرج سنة كونية وقانون إلهي، وأن الموت ليس مدعاة لليأس بل دعوة لحب الحياة. 

ورغم الوهن الذي أصاب كتفي وجسدي النحيل إلا أن حبي للحياة وتفاؤلي يزيدني إصرارًا، والحقيقة أنّي أعلم أنّا كلنا نتألم، ولكن مهما قستْ ظروفنا ومهما أهملنا الوطن أو قسا علينا فأقسم بالله أنّي أعشقه، ويكفي أنه المسرح الذي يسمح لي أن أحيا عليه مسطرًا حكايتي دون مقابل(!!)

أعود لمقالك يا سيدتي؛ وأرى أن المثقفين في سبات عميق، يخافون الاصطدام بالسلطة، وبعضهم قلمه شكسبيري والآخر مأجور، وأما السلوكيات السلبية الموجودة في مجتمعنا فناتجة عن فقْد الثقة في النخبة والقادة وتهاوي صورهم المثالية، فأغلبهم محتالون أو منافقون أو لصوص، ولو أردنا بالوطن خيرًا لكنّا قد وضعنا الناس في شيء حقيقي صادق يلتفون حوله، وقتها سنجد شعبًا لم تر الأرض مثله، سنجد فراعين جددًا يكملون مسيرة الأمجاد، وإلا سيخرج شعب يأجوج ومأجوج يقتلع الأخضر واليابس. 

اتقوا غضب الجياع، فالجائع لا يحترم قيمة، وأخيرًا أعشق حياتي ومحمولي القديم المكسور وبيتي الريفي المرشوش ترابه بالماء وشاي "الراكية"، وأقول لكل شاب لاتستسلم، وابدأ ولا تخش السقوط، فسقوط المطر يعني البداية، ولتكتب قصتك التي خُلقت من أجلها متسلحًا بإيمانك بالله..

 والآن يا سيدتي بعد أن أنهي رسالتي؛ سأذهب ككل يوم مبكرًا إلى سوق العمل، أجلس على رصيف الحياة منتظرًا الرزق، منتظرًا مَن يناديني لأحمل له أكياس الرمل أو مستلزمات المعمار، وأقسم بالله أنّي سعيد لأن كل يوم يحمل لي بداية جديدة.

وأخيرًا يا سيدتي "الصنايعية" هم الذين يقرؤون ولكنكم لا تشعرون، ويكفيهم أنهم لايحملون شهادة "أمية جامعية"(!) وبلسان حالهم أقول لك: تحية لمقالاتك و"توشكري يا أستاذة يا بنت مصر يا مجدع".

بعد أن فرغتُ من قراءة رسالة صديقي العامل الشاب المثقف الواعي والطموح أدركتُ غفلتي حين أوجه كلامي لمن اعتقدتُ أنهم بيدهم الأمر، وأدركتُ فعلا أنهم لا يقرؤون، بل ويشرفني أن أوجه لأمثال هذا الشاب العاشق للوطن وللحياة التي يقرأها كرواية جميلة حتى نهايتها ولا يتوقف عند سطرها الحزين مؤمنًا أن القادم دائمًا هو الأفضل..

ولصديقي القارئ الشاب أقول: ليتك تَعلم كم أحترمك، وكم أعتز بتحية الصنايعية التي جعلتها عنوانًا لمقالي هذا، ويا أيها العامل المرتحل وراء الأمل قلبي يرحل معك ومع أمثالك داعيًا لكم ياخير بذرة زُرعتْ في أرض الوطن بيد أبيك الشريفة.. والله الله يامصر على شبابك وعلى فلاحيك وبنائيك.
---------------------------
بقلم: حورية عبيدة
إعادة نشر


مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | صفحة من تاريخ الأفاعي الأسود





اعلان