24 - 04 - 2024

الكل يلعب " كرة شراب"

الكل يلعب

كل الرجال الذين على قيد الحياة لعبوا الكرة الشراب، من أول الخطيب وانتهاء بكاتب السطور مرورا بحسن شحاته وطاهر أبو زيد وحسام وجمال عبد الحميد ومحمد صلاح ..الخ ، أطال الله في أعمارهم.

بيبو لعب الكرة الشراب في شوارع وحواري حلمية الزيتون، وفاروق جعفر لعب مباريات بفلوس في شوارع وحواري المنيرة، وحسن شحاته منذ أن كان تلميذا في سن العاشرة بمدرسة كفر الدوار الابتدائية ، وطاهر أبوزيد الذي أحرز 240 هدفا خلال خمسة مواسم وهو ناشىء وصاحب الحذاء الفضي وهداف كأس العالم للشباب 1981 بأستراليا، لعب أيضا الكرة الشراب بالشوارع المجاورة لمنزله ومدرستة عثمان بن عفان الابتدائية بأسيوط. أما محمد صلاح، أهم وأغلى لاعب كرة قدم في تاريخ مصر حتى الآن، لعب الكرة الشراب في الشوارع الترابية لقريته نجريج بمركز بسيون بالغربية، ونتذكر جميعا لاعب الأهلى الأسمر محمد عباس الذي كان يلعب "الشراب" حافيا في شوارع المنيل .. باختصار بدأ مجدنا الكروي بالكرة الشراب.

أحببنا الكرة الشراب وهي بادلتنا الحب، ولم نخجل منها أبدا بل اعتبرناها واحدة من أيقونات الحكايات الحلوة والمضحكة في الذاكرة الجمعية لنا كرجال وشباب وصبية وأطفال في مصر، ولأن الذكريات تمدنا بطاقة ذهنية ونفسية فمن حقها علينا أن نصونها ونحميها ونفتح لها الصالون الثقافي الكروي داخل البيت الرياضي الكبير باعتبار أن لها كلمة ـ علينا احترامها ـ في بقاء أمل صعود السلم الاجتماعي وتحقيق الأحلام المؤجلة واللاحقة لكثير من أسر وعائلات الشعب المصري.

ولأن من الحب ما قتل، ارتكبت " الكرة الشراب" جناية في حق كرة القدم دون أن تدري.. فقد خرجت من الصالون وفتحت باب البيت واستقلت تاكسي إلى الجبلاية وصعدت السلم المؤدي إلى قاعة اجتماعات مجلس إدارة اتحاد كرة القدم واقتحمت الغرفة وجلست على رأس طاولة الاجتماع، وتفرض حضورها لتدير وتقرر وتنفذ.. هكذا تدار كرة القدم في بلادنا، على طريقة الكرة الشراب التي تعلمنا منها القواعد الأولية لممارسة اللعبة، ما زلنا في المدرسة منذ عقود رغم أننا كبرنا وقوي عودنا وأصبح لدينا دعما شعبيا هائلا لكل عمل جاد ومحترم.

في الشارع يتم حل الخلافات بالتراضي لمواصلة اللعب.. و اتحاد الكرة يواجه المشاكل والأزمات بالتراضي ليواصل البقاء، أما القواعد واللوائح والقوانين التي تنظم وتدير عمل المنظومة الكروية فقد تم حبسها داخل غرفة طعام تأكل وتشرب ما لذ وطاب إلى أن أصابتها السمنة المفرطة فأصبحت قعيدة لا تقوى على الوقوف والمشي .

أنظرو إلى يمينكم ويساركم ستجدون ثقافة "الكرة الشراب" تسود في كافة قطاعات المجتمع بمشتملاته الحكومية والأهلية، لا محل للقانون إلا داخل دور القضاء، أما ما يجري في الشارع فهو كرة شراب بامتياز.. في مشكلة سد النهضة اتخذنا استراتيجية التراضي مع دول حوض نهر النيل وعلى رأسها أثيوبيا وتباطأنا في تدويل الخلاف إلى أن أعلن مؤخرا سامح شكري وزير الخارجية إلى أن مصر ستأخذ حقها المائي وفقا لقواعد القانون الدولي وهو ما يعني اللجوء إلى المحاكم الدولية أخيرا.

انظروا يمينا إلى أكثر من 900 مستشفى خاص: التكاليف على الكيف، ومستلزمات طبية غالية الثمن ويمكن الاستغناء عنها، والدفع يا الحبس، الأطباء والممرضون يعالجون مرضاهم تحت ضغط إرضاء الإدارة التي يمكن أن يكون غضبها ضارا ومعديا.

 إلى اليسار وداخل أكثر من 600 مستشفى حكومي فقير وبلا إمكانات، الكل يلعب كرة شراب: دواء فيما ندر ـ السرير في احتياج للوساطة في الغالب الأعم ـ طبيب مرة في الاسبوع (وكتر خيره) باعة جائلون، قطط ضالة (رأيتها بعيني في رواق 3 غرف عمليات بمستشفى جامعي كبير).. لا مجال لعلاج المرضى وحل مشاكل الأطباء إلا بالتراضي لأن صحة المواطنين يتم رعايتها على طريقة الكرة الشراب.

في التعليم تجد "الكرة الشراب" في "الراس والكراس": مدرسون مقهورون ـ فصول دراسية مكتظة بتلاميذ يفترش بعضهم الأرض ـ مناهج تعتمد على الحفظ والتلقين ـ لا نشاط رياضي أو ثقافي أو فني، وبالتراضي يمضي اليوم الدراسي سواء حضر المدرسون أو غابوا.. ننفق 132 مليار جنيه على التعليم ولا نتقدم لأننا نديره على طريقة "الكرة الشراب".

التراضي مع الحكومة وإرضائها عقيدة راسخة تحت قبة البرلمان، ربما منذ الحرب العالمية الثانية.. التراضي مع المغتصبين لأملاك الدولة استراتيجية الحكومات المتعاقبة، والتراضي مع الذين شوهوا العمارة في مصر وفسدوا وأفسدوا مع المحليات لمخالفة القواعد والقوانين التي تنظم المعمار سياسة ثابتة لا نحيد عنها.

في الشارع يتوقف لعب الكرة عندما تقطع سيارة الشارع، ويفسح لاعبو "الشراب" الطريق لمرور السيارة.. وفي المرور تنتقل ثقافة الكرة الشراب، فالأولوية لعبور السيارات بينما ينتطر المشاة عجائز وشبابا وصغارا وسيدات حتى تفسح لهم السيارات (بالتراضي) مجالا لعبور الطريق ويكفي مشاهدة ما يحدث مع حركة تطوير مصر الجديدة حيث اهتمت الحكومة بالكباري وتعبيد الطرق للسيارات بينما لم تشرع إلى الآن في توفير أماكن لعبور المشاة.. باختصارالمرور في مصر "يتمرمر" في الكرة الشراب.

التراضي وليس القانون أصبح إيقاع الحياة.. الكل يلعب كرة شراب ، وانظر حولك لتتأكد!
--------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم

مقالات اخرى للكاتب

إيديولوجيا العنف .. لم تعد فاتنة !





اعلان