10 - 11 - 2024

محمد عيد إبراهيم إلى لقاء.. ومرة أخرى :هل بلغنا الستين ؟(*)

محمد عيد إبراهيم إلى لقاء.. ومرة أخرى :هل بلغنا الستين ؟(*)

هذه هي المرة الأولى التي اقف فيها لأتحدث في مناسبة بلوغ زميل وصديق من جيلي سن الستين. و ستتحول هذه الليلة ـ وقد استدعيت للحديث عن ذكريات سنوات الجامعة نهاية عقد السبعينيات ـ هي الأخرى إلى ذكرى.  وأصارحكم بأنني أشعر بالمفاجأة والارتباك. لأنني ربما غير مقتنع بما يكفي بعد بأنناهكذا بلغنا الستين. فهل حقا بلغناها ؟. أو لعلني ضبطت نفسي أقاوم وجوب الاعتراف مما ليس منه بد. ولأنني أيضا غير مقتنع بأن سنوات السبعينيات هذه بعيدة على هذا النحو الذي يجعلها ماض "فات عليه" مايقارب الأربعين عاما. 

 صحيح ان قاهرة السبعينيات لم يكن يجوب شوارعها "التوك توك"، أو ينشغل أهلها بالحديث في الهاتف المحمول وسط زحام الشوارع الأبدي، أو يبدأ شبابها وشيبها يومهم بتصفح الفيس بوك .. وغير هذا مما لم نكن نسمع عنه أو نتصوره. لكن يظل السؤال الألم و الأهم : هل استطاع جيلي أو تمكن من أن يغير بلاده ويدفعها الى الأمام بقدرعدد هذه السنوات وبحجم أحلامه ؟. والى أي حد نتحمل نحن المسئولية عن هذا ؟. أم أنه علينا ان نترقب المزيد من السنوات حتى يزول تكلس "دولة العواجيز" وتسيد من هم أسوأ وأقل إبداعا وكفاءة وانسانية وقدرة على النقد والتجديد ؟ .وكم ثورة نحتاج؟ 

  ولعل داعي الارتباك على نحو خاص هو أنني عندما تلقيت الدعوة الكريمة للحضور والمشاركة هنا خلت انه من الصعب تذكر ما كان مع "محمد" في سنوات الجامعة. فللأسف تفرقت بنا سبل الحياة بعدها مباشرة. ولم تجمعنا صداقة ممتدة، أو لقاءات متفرقة بعدها تنشط الذكريات، وتنفخ فيها روح الحياة النابضة.  إلا ما كان قريبا قبل نحو عام واحد. ومما زاد وطأة الارتباك موقف صادفني منذ نحو شهر يدفعني الى اليأس من الرهان على ذاكرتي  المتواضعة. فقد دخلت الى أحد المكاتب الفخمة الوسيعة التابعة لوزارة الثقافة، وجلست لنحو ربع الساعة إلى ثلاثة أشخاص ،وغادرت بعدما فرغت من غايتي الى مكتب آخر. وإذا بأحد الثلاثة يطلبني على هاتف المكتب الأخير ليذكرني عبثا بأننا كنا معا في الثانوية العامة في المدرسة ذاتها و الفصل نفسه، ويحدثني عن بيت أسرتي الذي كان وقتها، مشيرا الى انه زاره غير مرة . ولما خلونا إلى بعضنا في مكتبه الخاص، ظللت أنظر اليه مندهشا. ولم يتوقف الأمر على بؤس أنني لا أتذكر. بل وأيضا في صدمتي كلما اختلست النظر الى الشعر الأبيض وتجاعيد السنين في أن هذا الرجل العجوز هو في نفس عمري. وفور أن رجعت الى منزلي سارعت بالنظر الى المرآة محاولا ان أطفئ وهج السؤال : هل أصبحت كهلا الى هذا الحد؟

لكن شيئا آخر حدث مع "محمد عيد ابراهيم". فقد التقينا في جناح الثقافة الجماهيرية بمعرض الكتاب في مطلع فبراير 2014 بعد سنوات طوال من الغياب، فتجدد الود و ارتوت الصداقة على الفور. وكأننا كنا نشرب الشاى بالأمس فقط على مقهى بشارع "بين السرايات" أمام مدخل الجامعة المفضي الى كليتنا (إعلام القاهرة) في يوم ماطر من فبراير نهاية السبعينيات. وبمناسبة هكذا أجواء، فإنني لا أعرف لماذا تعلق بذهني صورة "محمد" في ملابس الشتاء ؟.. ملابس الشتاء وحده. 

كان في سنوات الجامعة يسبقني بعامين دراسيين. وهذا يعني أنه كان هناك اعتبارا من عام 1974 . وهذه فجوة زمنية ضئيلة تفصلنا. لكنني اعتبرها كافية لأن اغبطه، نظرا للتدهور السريع و الخفوت الهائل خلال تلك السنوات الذي أصاب الحركة الطلابية، وتحديدا اليسارية التي انتسبنا اليها. و الحاصل أنني اشبه الأمر على هذا النحو: دخلت الجامعةخريف عام 1976 والحركة الطلابية اليسارية تغلق أبوابها. وفيما أظن أن "محمد: دلف من باب كان مايزال مواربا. وفي كل الأحول ـ ورغم أننا عاصرنا معا الانتفاضة الشعبية باتساع المدن والشوارع والحارات  17 و 18 يناير 1977 ـ فإن طلاب اليسار ـ وأقصد تحديدا اليسار الماركسي ـ كانوا في كليتنا قلة معدودة على أصابع اليدين. كانت على ما أذكر قلة مبعثرة تتنازعها الاختلافات الفكرية والسياسية والتنظيمية، وحتي بين المنظمين وأولئك المستقلين.وهذا رغم حضورها الطاغي المؤثر الجميل في مجتمع الكلية و السياسة والثقافة والفن، و بأكبر مما هو عليه العدد. وفوق هذا ورغم أننا كنا قلة مبعثرة فقد ظللنا نتجمع حول راية وانشطة أسرة 21 فبراير الطلابية، وراعيتها أستاذتنا الصديقة أستاذة الصحافة الدكتورة "عواطف عبد الرحمن". أم

وأظن ان زميلي "محمد عيد ابراهيم" في سمته الصارم كان يتأبط مشروعه الشعري الثقافي ، ويخفيه في حركته المسرعة وهو يروح ويجئ جادا ـ  بل ومتجهما أحيانا ـ عبر الممر الضيق الصاخب الذي يصل بين كليتنا و بين فضاء الجامعة، وحيث معلمي تمثال نصب الشهداء  بفتاته الناهضة المتطلعة الى الأمام وبساعة برج جامعة القاهرة الشهيرة كثيرة الأعطال. ولعلني الآن وفي هذا السياق اسمح لنفسي بأن اقارن ما كان عليه طالبنا الشاعر العابر مسرعا إلى كافيتريا عامرة تشغل هذا الممر وزميل آخر شاعر أيضا من ذات الكلية ونفس الجيل طالما تحلقت حوله الزميلات لساعات تلو ساعات على موائد هذه الكافيتريا مع أنه كان أقل عمقا. ولا يمتلك عينين ملونتين. ولقد أصبح الأخير رئيسا لتحرير إحدي المجلات الشهيرة. واستهلكته شاشات التلفزيون ومناسبات رسمية عدة.وهذا مع حبي وتقديري له زميلا وصديقا.

بالطبع ليس واردا في كلمتي هذه أن أتحدث عن دور واسهام "محمد عيد إبراهيم" في تأسيس وتطور مجموعة " أصوات" الشعرية، وعن موهبته كشاعر و مترجم ومنشط ثقافي. وعما ننتظره منه في قابل الأيام والسنوات. فهناك من هم أعرف وأقدر مني. وإن أنبأت انطباعات سنوات الجامعة تلك عن جمعه بين فضيلتي التمرد والدأب. وقد أتي هو بنفسه بشأن الثانية في حوار صحفي على ذكر "النملة". وليسمح لي ان أضيف بشأن الفضيلة الأولى وصف "تمرد الفراشة " . 

 وإن كان من جدوى لتأنيب الذات على ما فات في سنوات الجامعة تلك. فإنني بهذه المناسبة ألوم النفس لأنني لم اقترب من "محمد عيد إبراهيم" أكثر كشاعر مبدع.  وكما قال هو أخيرا عن المرء والشاعر الذي يريد :" يحك جلده كل حين ليوافق تغيرات الزمان، ولا يمشي في الركاب بل ضده ". لكن عزائي اننا كنا يوما معا هناك في هذا المكان وتلك السنوات. وقد خلف حضوره الإنساني الطاغي عندي في هذا السياق حنينا.

 التفت عندما التقينا في فبراير 2014 فوجدته تماما وكما هو في موضعه ، فلم أشعر بغربة. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: كارم يحيى

 

(*) كلمة بعنوان "هل بلغنا الستين؟: نص مهدى إلى زميل الدراسة محمد عيد إبراهيم" الذي رحل هذا الأسبوع، ألقيتها عند تكريمه وفي حضوره بهيئة قصور الثقافة (المنيرة/ القاهرة) مساء 13 مايو 2015. وجرت طباعتها في عدد تذكاري بهذه المناسبة من مجلة "الثقافة الجديدة" تقديرا للشاعر والمترجم المثقف.  

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال