25 - 04 - 2024

وزارة الإعلام.. والحقيقة الغائبة في زمن الكذب

وزارة الإعلام.. والحقيقة الغائبة في زمن الكذب

تحت عنوان «حقيقة في زمن الكذب.. 150 يوما في تاريخ مصر»، سجل وزير الدولة للإعلام الحالي أسامة هيكل شهادته على الفترة التي قضاها في حكومة عصام شرف كوزير للإعلام منذ منتصف عام 2011 حتى نهايته. كَتَبَ هيكل ما يعتقد أنه بعض الحقيقة، «هناك بعض آخر من هذه الحقيقة لم أكن قادرًا على رؤيته، ولم أكن مشاركًا فيه، وفضّلت في هذا الكتاب أن أتناول ما عرفته وما دار أمامي فقط أو شاركت فيه».

هيكل وصف كتابه الذي صدر عام 2013 بأنه «شهادة حق للتاريخ في زمن ضاعت فيه الحقوق… زمن يفيض فيه الكذب على الحقيقة». تناول فيه العديد من المواقف والأحداث التي مرّت على مصر وكان هو قريب منها بحكم موقعه كوزير في الحكومة، وما يعنينا في تلك الشهادة هو ما سجله الوزير السابق عن الوزارة التي عادت إليه بعد إلغائها بنحو 5 سنوات.

كانت قناعة هيكل قبل ثورة 25 يناير، وفق ما سجل في شهادته ألا تكون هناك وزارة للإعلام، انطلاقًا من رؤيته في أهمية تحرير الإعلام من كل قيوده الإدارية، و«قياسًا على أن غالبية النُظم الديمقراطية لم يكن لديها وزارة إعلام، ففي تلك النظم يكون وزير الثقافة غالبًا هو الوزير المسئول عن تمثيل الدولة في المحافل الدولية التي تقتضي وجود ممثل رفيع المستوى يعبّر عن الدولة فيها».

بعد ثورة 25 يناير كان هيكل من الرافضين بشدة لإلغاء وزارة الإعلام بشكل مفاجئ وغير مدروس مثلما حدث في فبراير 2011 بعد رحيل مبارك، «لأن إلغاءها بشكل مفاجئ كان قرار خاطئًا وكنت أرى أن الآثار التي ترتبت على هذا الإلغاء غير المدروس أدت إلى مشاكل أكبر بكثير من المشاكل التي كانت موجودة في قطاع الإعلام الرسمي».

لا يعني هذا أن هيكل غيّر قناعاته، فالرجل كان يريد فقط أن توضع خطة زمنية لإلغاء الوزارة التي تفرض قيودًا على الإعلام بما لا يتفق مع القواعد الديمقراطية، «إذا كان الهدف هو إلغاء وزارة الإعلام، فلابد أن توضع لذلك خطة زمنية، وحسب رؤيتي فإن ذلك يحتاج إلى فترة تتراوح بين عام وعامين».

قَبل هيكل حينها الوزارة، وأدرك أنه في «اختبار صعب»، وكان هدفه هو «استعادة الثقة في الإعلام الرسمي» الذي كان يرى أنه منفصل عن الواقع ولا يحقق الهدف منه. اللافت أن أجندة الإصلاح التي وضعها حينها لاستعادة ثقة الجمهور في الإعلام الرسمي تضمنت تعميم السياسية التحريرية لمؤسسة «بي بي سي» البريطانية ليطلع عليها كل الإعلاميين في اتحاد الإذاعة والتلفزيون باعتبارها «نموذجا يحتذى به في الإعلام».

خرج هيكل من الوزارة في نهاية عام 2011، وانتهى من تسجيل شهادته في كتاب «حقيقة في زمن الكذب.. 150 يوما في تاريخ مصر» في ديسمبر 2012، ونشره في عام 2013، وجرى بعدها ما جرى، حكم «الإخوان» مصر نحو عام وسقطوا، ثم تشكّل نظام جديد، كان هيكل جزءًا منه حيث تولى رئاسة مجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامي ورئاسة لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان. وخلال تلك الفترة شهد الإعلام المصري ما لم يشهده منذ ظهور الصحافة قبل قرن ونصف، من حصار وتضييق وتوجيه ومنع وحجب وحبس للصحفيين والإعلاميين وأصحاب الرأي.

حدث ذلك كله ولم يكن للجنة الإعلام بالبرلمان التي يترأّسها هيكل أي دور يذكر في مقاومة تلك الهجمة، بل بالعكس ساهمت اللجنة في تمرير مجموعة من التشريعات تقنن الحجب والمنع وحصار حرية الرأي والتعبير.

منحت القوانين التي صدرت عام 2018 هيئات، أضفى الدستور عليها صفة الاستقلال، صلاحيات مطلقة، لكنها عمليًا لم تمارس تلك الصلاحيات. فالأجهزة الأمنية أحكمت سيطرتها على وسائل الإعلام، وما أصبح المجلس الأعلى للإعلام والهيئتين (الوطنية للصحافة والوطنية للإعلام) إلا واجهات تقنن وتشرعن عمليات المنع والحجب والرقابة.

وفقًا لمواد الدستور والقانون أصبحت إدارة المنظومة الإعلامية مناطة بالمجلس والهيئتين، أما الحقيقة التي يعلمها كل مَن له صلة بالعمل الإعلامي فيه سيطرة الأجهزة الأمنية بالكامل على منصات الإعلام الحكومية والخاصة، وبنسبة كبيرة تحوّلت الأخيرة منذ نحو سنوات إلى وسائل إعلام حكومية تمّ تأميمها عبر عمليات استحواذ لأسهمها، ما ساعد الأجهزة على التدخل في كل صغيرة وكبيرة، وصار الرقيب يفرض سلطته السابقة واللاحقة على المحتوى الإعلامي فيفرض ما ينشر وما لا ينشر، ومَن يظهر على الشاشات ومَن لا يظهر، ويوجه رؤساء التحرير في معظم الملفات والقضايا المُثارة عبر قناة اتصال عرفت بـ«جروب الوتساب».

في تلك الحالة ظل الحديث عن عودة وزارة الإعلام يتجدد من حين إلى آخر، فمع كل حديث عن حكومة جديدة أو تعديل وزاري تُثار قضية إعادة الوزارة الملغاة حتى «تتمكن من ضبط المشهد وتعالج الخلل وتضع استراتيجية إعلامية للدولة والحكومة»، ثم تعود الفكرة لتدخل أدراج السلطة بعد الانتهاء من تشكيل أو تعديل الوزارة.

قبل التعديل الوزاري الذي جرى على حكومة شريف إسماعيل في 2016 سُئل أسامة هيكل عن نية الحكومة في إعادة وزارة الإعلام وعن ترشيحه لتولي حقيبتها فأجاب «معلوماتي المؤكدة أنه لا نية لإعادة وزارة الإعلام، وبالنسبة إليّ لن أوافق حتى لو حدث ذلك»، وهي إجابة تتناسب مع قناعات سابقة للوزير الأسبق.

إذًا ماذا تغيّر وجعل المحرر العسكري السابق ورئيس تحرير جريدة «الوفد» المعارضة إبان حكم مبارك والوزير الأسبق، يغيّر من قناعاته ويقبَل بتولي حقيبة وزارية كان يرى أنها دليل على غياب الديمقراطية في دول تصر على توجيه الإعلام وتطويعه حتى يتحوّل إلي صوت لأنظمتها؟

وفق عدد من المصادر الإعلامية القريبة من دوائر اتخاذ القرار، سببت مقاطع الفيديو التي بثها المقاول الممثل محمد علي في سبتمبر الماضي صدمة كبيرة للسلطة وأجهزتها، وطرح تساؤل «كيف تمكن هذا المغمور من التأثير في الرأي العام وتوجيهه عبر فيديوهات سجلها بهاتف محمول، في الوقت الذي فشلت فيه الأجهزة بكل إمكانياتها ومنصاتها وسطوتها على كوادر المنظومة الإعلامية في إقناع الناس؟ وما جدوى المليارات التي تمّ ضخها لشراء وإدارة فضائيات وصحف ومواقع؟».

«سقط المسؤولون عن ملف الإعلام في اختبار فيديوهات محمد علي، وفتح الباب لمراجعة كل ما جرى، فصدرت قرارات بتغيير مسئولين تسببوا بشكل مباشر في هذا الانكشاف»، يضيف المصدر، مشيرًا إلى أن التفكير في عودة وزير للإعلام طرح خلال مناقشات توابع فيديوهات المقاول، وترسخ لدى الرئاسة قناعة أن الأدوات والطريقة التي اعتمدتها الأجهزة لإدراة الإعلام فاشلة، ومن ثم «علينا البحث عن أسلوب آخر ورجال آخرين قادرين على إصلاح ما أفسده رجال الأجهزة».

أصبح من الضروري التفكير في شخص يجمع بين المهنية والثقة، ليصبح حلقة وصل أو «قناة اتصال» على حد تعبير المصدر بين الرئاسة والمسئولين عن المنصات الإعلامية، شخص يترجم سياسة السلطة وتوجهاتها وينقلها إلى رؤساء التحرير ورؤساء القنوات، ويتابع المحتوى الإعلامي ويقيمه ويختبر درجة تأثيره في الجمهور.

أدركت السلطة بعد سنوات من إحكام قبضتها على وسائل الإعلام أنها فشلت في الوصول للجمهور والتأثير في الرأي العام وإقناعه بما تعتقد أنه «إنجازات لم تحدث في مصر على مدار عقود مضت»، لكنها عندما شرعت في معالجة هذا الفشل قررت استبدال الأجهزة الأمنية بصحفي على درجة وزير سياسي ينقل التعليمات والتوجيهات، اعتقادًا منها أنها قد تصل إلى نتيجة مختلفة.

لم يؤمن النظام أن أزمته الحقيقية هي عدم إيمانه بحرية الصحافة ولا بغيرها من الحريات العامة، ولم يدرك أن إصلاح المنظومة الإعلامية لن يكون إلا بضمان حريتها والحفاظ على استقلالها وحيادها وتعدديتها وتنوعها.

حل معضلة الوصول إلى الجمهور والتأثير في الرأي العام وإقناعه بالحقائق، هو إتاحة الفرصة لأن ينقل الإعلام الحقائق كما هي دون تشويه أو تجميل. امنح الإعلام استقلاليته وتنوعه، هَيّئْ مناخًا مفتوحًا يسمح بالمشاركة والمنافسة الحرة وتداول السلطة، حينها لن تحتاج إلى وزارة إعلام أو وزير دولة للإعلام… وتلك هي الحقيقة بل الفريضة الغائبة في زمن الكذب.
----------------------------
بقلم: محمد سعد عبد الحفيظ 
(نقلا عن موقع مدى)

مقالات اخرى للكاتب

تمرد الإمام على ثنائية «الكاهن والفرعون»





اعلان