24 - 04 - 2024

انصبوا محاكم للمستبدين وليس الشعراء

انصبوا محاكم للمستبدين وليس الشعراء

سؤال الشعر قديم قِدم قدرة الإنسان على التجاوز وسعيه لإنجاز الاختلاف، شكلا ومضموناً، انشغلت به الثقافات الغربية والشرقية وانهمكت في تقديم تعريفات للشعر ومِن قبله مصطلح الثقافة، ولم تتوصل الاجتهادات إلى تعريف واحد، وتركت الباب مفتوحاً للنقاد والمبدعين لمزيد من النحت في مفهوم المفردة. لكن ذلك لم يمنع من استمرار شرائح محافظة في العالم كله، في التمسك بالقوانين المنجزة، وهي قوانين وضعية بعيدة عن القداسة، ورغم ذلك، يحطّون من قّدْر التحديث، متمسكين بالشكل تمسكاً تطرفياً، متساهلين ومتسامحين في المعنى، رافضين الاعتراف بأن الشكل مرتبط بالجوهر، وأن أغراض الشعر اختلف عالميا، وليس عربيا فقط، وأن إيقاع الحياة اختلفت أيضا، ومعها سياقات اللغة والمعارف، إلى جانب تحرر الإنسان من المفاهيم الثابتة الجامدة، ما تطلّب بالضرورة إحداث تغيير في الشكل والمضمون، فكُتبت دراسات وكتب بالآلاف تناولت التطور والتغيير، بل إن المفكرين أصّلوا معنى الحداثة ووسعوه حتى شمل حركة الكون، ولم يعد يقتصر على الحداثة الأدبية، وعلى الرغم من ذلك، ظلّ الأصوليون ينظرون إلى المفردة باشمئزاز، بل إن البعض بات ينعت الحداثيين بالمحرضين على استدراج المستعمر من جديد، أو أنهم كفرة، وهذا شمل العَلمانيين أيضا، بصفتهم حداثيين يفصلون الدين عن الدولة، وكأنهم يقولون إن الحداثة ستقود إلى العَلمانية وبالتالي إلى الكفر، غير مدركين للمعني الحقيقي لكل مصطلح، وهذا الإدراك يشكل أزمة منذ القِدم حتى اليوم في العالم، لكنه متجذّر أكثر في المنطقة العربية بسبب الأصولية والسلفية، ويمكن ضم هذين المصطلحين إلى مصطلحي الحداثة والعلمانية لجهة قصور فهمها أو رفضهما. 

انشغل المثقف في العالم في التنظير الفكري والنقدي حتى انحصر في النخبة، لكن هذه النخبة ظلت على تماس مع الشأن العام، وسهّل تطور المجتمعات والقوانين والفلسفات هذا التماس والإنشغال به حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من هواجسهم، والشأن العام يعني حقوق الإنسان بكل ما تحمل من معان. أما المثقف العربي أو المشتغلون في النقد فقد انشغلوا أيضا فكريا في الكتابات الفكرية والنقدية الخالصة، وتعاملوا مع النقد كعلم، لكنهم ظلوا بعيدين عن الشأن العام، ولم يصطدموا مع السلطات إلا في ما ندر، بل تصالحوا معها ومارسوا الانتهازية في أبشع صورها وأقبحها، وتحولوا إلى جزء من السلطة، ومن لم يتماه مع السلطة التزم الصمت وانشغل فكريا وإبداعيا في قضاياه، ولجأ إلى الرمز الذي لا يستطيع فك شيفرته الإنسان العادي، ونتيجة لذلك، غاب الدور الطليعي التوعوي عن شريحة المثقفين العرب. 

وظل المثقف العربي حذرا حتى عندما تجاوزه الإنسان العادي وخرج إلى الساحات والميادين يطالب بالتغيير والحقوق، تردد وتلكأ في إعلان موقفه، ولم يشارك في الاحتجاجات إلا نفر قليل، تاركين للأحزاب السياسية وزعمائها الطامحين للسلطة المجال ليبرزوا ويظهروا كمتصدين للفساد والظلم والاستبداد وينادوا بحقوق الإنسان. 

إنه وعلى الرغم من كل ما حدث في الساحات العربية من إعلاء الصوت، وما حدث في العالم من حداثة، ولا يزال يحدث، لا يزال المثقف العربي في برجه العاجي، رغم فقره المادي، مدافعاً عن الأصولية الشعرية والأدبية، ولا يزال يستنكر الحداثة الشعرية في الشكل والمضمون، ويرهق نفسه في وضع قوانين لكل جديد وحديث، حتى يجد أرضية يحاسب من خلالها الآخرين، فيمسح شاعريتهم، ويلغي عنهم لقب شاعر أو قاص أو روائي، ويكاد أن ينصب محاكم لهم، ويطردهم من العوالم الإبداعية، في الوقت الذي يجب عليه المناداة بمحاكمة الفاسدين والمستبدين وسارقي الأوطان والمتاجرين بها. إنه يمارس الاختباء خلف التنظير النقدي والمفاهيمي والفلسفي، وفي واقع الحال، إنه يمارس الجبن والتسلط على المبدعين الآخرين. 

لا يريد هذا الناقد أو ذاك الاعتراف بأن الأشكال الأدبية لم تنزل في الكتب المقدسة، بل إن هذه الكتب ذاتها تمردت على الأشكال التعبيرية التي كانت سائدة في أوقات نزولها، فلماذا الإصرار على تثبيت الشكل الوضعي وتقديسه وإخراج كل من يخالفه من الملة. 

الحداثة لا تنفصل، لا يمكنك قيادة سيارة أو ركوب طائرة أو ترتدي البدلة وربطة العنق وتصر على الوقوف على الأطلال، ولا يمكنك أن تكون حرا بينما تنصب نفسك شاعر بلاط ومدافعاً عن السلطة ومتماهيا معها، هذا انفصال عن العصر وزمنه. ورغم ذلك، فمن أراد الاستمرار في الوقوف على الأطلال ويصادق طرفة ابن العبد، فهذا شأنه، لكن لا يتهم من يصادق أدونيس ومحمود درويش بالعبثية. 

هناك استثناءات في كل تعميم أوردناه، لكننا تجنّبنا ذكره لأنه أمر طبيعي ولا يحتاج إلى الإشارة.
----------------------
بقلم: أنور الخطيب

مقالات اخرى للكاتب

عالم ما بعد كورونا





اعلان