ربما لا ننتبه كثيرا إلى هؤلاء الشعراء الذين يموتون قهرا بسبب معاداة واقعهم لهم، إلى الحد الذي يجعلهم دائما في موقف من يزرع الورد ويتعهده ويرعاه، ويبقى ما يزرع سنين طوالا، ولا يجنون في حياتهم شيئا، وبعد رحيلهم قد لا يبدو الأمر مختلفا، وقد يشارك ذووهم في قتلهم مرارا، كما قتلهم واقعهم المحبط، وهل أتاكم نبأ القاص والروائي الذي أحرق ابنٌ له ما ترك، باعتباره كلاما فارغا لا يساوي شيئا، وكثير منها كانت أعمالا لم تنشر بعد؟ إنها ليست حالة، ولكنها أمر مكرور ومعاد، يختصر أزمة المثقف في واقع يصر على عناده وقهره واغتياله، بشكل حقيقي أحيانا، ومعنوي كثيرا، ولا يختلف الأمران.
في ثقافتنا العربية هناك من صُلِبَ وقُطِّعَتْ أوصاله كالحلاج، ومن قُتل كالسهروردي، ومن أُحرقت كتبه كابن رشد، ومن أحرقَ كتبه بنفسه لأن المجتمع لا يستحقها كالتوحيدي، ويبدو هذا التصرف الأخير هو الأكثر معقولية، وإلا فما معنى أن تكتب لتنير الطريق لمجتمع يصر ناسه أن يعيشوا عميانا؟ لا أظن أن الأزمة عربية فحسب، ففي الإمكان أن نجد أمثلة لهذا في مختلف الثقافات، ولعل مرجعها اتساع الهوة بين ما يسعى إليه الشاعر، وما هو واقع بالفعل، وأيا كان الأمر فإن بيت حافظ إبراهيم الشهير:
وما أنت يا مصر دار الأديب
وما أنت بالبلد الطيب.
يبدو اختصارا مخلا لأزمة حقيقية وممتدة، ولعل سابقه الذي قال:
يعاند الدهرُ كلَّ ذي أدبٍ
كأنما ... أمَّه الأدب.
كان يُعبر عن تجلٍّ ما لهذه الأزمة.
هل يبدو استدعاء نموذج المتنبي الذي قُتِلَ ببيتٍ قاله، أمرا مناسبا في هذا السياق؟ ربما، وهذا شاعر آخر لا يكاد يذكره كثير من الشعراء أنفسهم، تواطأت لاغتياله ظروفٌ كثيرة، فعاش مأزوما، ومات مقهورا، ليعطينا دليلا واضحا على صدقية بيت أبي العلاء المعري في أولى لزومياته:
أولو الفضل في أوطانهم غرباءُ
تشد وتنأى عنهم القرباءُ.
إنه الشاعر أحمد مخيمر، الذي جمعته بأبي العلاء محاولة تمثل لزومياته وموقفه من الحياة في لزوميات جديدة كتبها، ولم يُنتبه إليها، كما لم يُنتبه إلى شعره، على النحو الذي يستحق.
ولد أحمد مخيمر في قرية المعالي، مركز منيا القمح بمحافظة الشرقية 1914م، تخرج في كلية دار العلوم، وكان شاعرا له سمته المتميز بين كوكبة الشعراء التي ظهرت في أوائل أربعينيات القرن الماضي، وعضوا بارزا في جماعة أبولو الشعرية، مع محمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وغيرهم، وعرف بميله للتأمل والنزعة الفلسفية.
تمتد الجسور بينه وبين الواقع، فتعرفه أروقة الفن والغناء والإذاعة، فتلتقط الموسيقى والموسيقيون كلماته ليُجْرُوها على حناجر بعض الأصوات الغنائية، تفاصيل القصة يذكرها ابن الشاعر(محسن مخيمر)، وتنشرها الصحفية سالي عادل في صحيفة البوابة وموقعها البوابة نيوز، في فبراير 2016م، مفادها أنه ذات يوم يتصل به (طاهر أبو فاشا) ويستدعيه إلى بيته، ويخبره أن الملحن محمد الموجى يبحث عنه، ويخبره الموجى أن عبد الله الفيصل أعجبه مذهب موشّح (يا مالكًا قلبى) وأضاف إليه أبياتا رآها مخيمر ضعيفة، وطلب منه كتابة كوبليه آخر ليكمل الموشح على التعديل الجديد، ويكتب مخيمر بالفعل، ويبدو أن ثمة مخاطبات ومكاتبات تثبت هذا، على الوجه الذي سيلعب دورا أثناء نظر القضاء لقضية حول هذه القصيدة.
وهنا وقفة، لقد حدث هذا تقريبا في عام 1973م، وقبل هذا التاريخ بعشر سنوات كان أحمد مخيمر ومحمد الموجي قد قدما القصيدة وغنتها بالفعل (نجاح سلام)، فلماذا يطلب الأمير ومعه الموجي وعبد الحليم إجراء تعديلات في القصيدة؟ ليفاجأ أحمد مخيمر بإذاعة القصيدة في حفل شم النسيم في 30 أبريل 1973م منسوبة للأمير، ويعلن عبد الحليم حافظ هذا بنفسه!!!!
رغم أنه يعرف جيدا أن أبياتا كثيرة من القصيدة سبق أن غنتها (نجاح سلام)، ويوجد تسجيلها في الإذاعة المصرية منذ عام 1963م، وقد لحّنه الموجى نفسه، والطريف أنه لم يُحْدِثْ تغييرا في لحنه، ولن يشفع للشاعر تسجيل القصيدة بصوت (نجاح سلام) قبل واقعة السرقة بعشر سنوات، ولا تسجيلها تحت اسم (أهلي على الدرب) بجمعية المؤلفين ١٩٦٥م، ولا نشرها فى ديوان (الغابة المنسية) الصادر ١٩٦٥م، قبل واقعة السرقة بثمان سنوات، باختلاف يسير فى الألفاظ، تم في النص الذي غناه العندليب، للإيهام بأنها مختلفة وإبداع جديد.
ولكن هذا التسجيل (الوثيقة) للقصيدة بصوت نجاح سلام، وهو الأسبق بعشر سنوات يوضح الجريمة كاملة، وبعد إذاعة حفل شم النسيم يحاول الشاعر الاتصال ب(العندليب) مرات كثيرة، وفى كل مرة ينكر نفسه، فيتقدم بشكوى ضده إلى جمعية المؤلفين، كما يرسل للأمير رسالة، ولكنه لا يرد هو الآخر.
ولأمر ما، يتغير موقف عبد الحليم، من عدم الرد، إلى التردد بشكل دائم على منزل مخيمر، (لإيجاد تسوية مناسبة) والتنازل عن القضية للحفاظ على سمعة الأمير، نظير مبلغ محترم!!!
ويفكر الشاعر بالطريقة التي ربما يكون قد ندم عليها فيما بعد، لقد فكر في مكسبه الأدبي، فخسر الاثنين: الأدبي والمادي.
ولم تنجح وساطة العندليب، الذي لم يجد بدا من أن يرد على أسئلة الصحفيين حول مشكلة (يا مالكا قلبي)، بأنه ليس لهذه الأغنية مشكلة على الإطلاق، فالمقدمة عبارة عن موشّح قديم، موجود فى كتاب (الأغاني) لأبى الفرج الأصفهاني، وباقى الأغنية من تأليف عبد الله الفيصل، متناسيا تسجيل القصيدة بصوت نجاح سلام، ويجب أن نصدق أن عبد الحليم قرأ كتاب الأغاني لأبي الفرج، ولم يسمع القصيدة بصوت نجاح سلام، وفي الحقيقة لا يوجد أصلٌ لهذه الكلمات أو شبهٌ بها في كتاب الأغاني!!
وتحكم محكمة استئناف القاهرة دائرة التعويضات، بنسبة القصيدة إلى أحمد مخيمر، سواء مكتوبة أو مُغنّاة بصوت نجاح سلام أو عبد الحليم حافظ، وينشر الخبر فى أغسطس ٢٠٠١م، مع إلزام شركة صوت الفن بسحب شرائط الأغنية المنسوبة للأمير من السوق، وطرح شرائط جديدة منسوبة لمخيمر، وندب مكتب الخبراء لتقدير التعويض المستحق للورثة، وعقب نشر الخبر يتصل محامى الأمير بمحامى ورثة مخيمر (لقد مات الشاعر قهرا وكمدا في عام 1978م، ولحقت به زوجته بعده بأيام)، يعرض أن يتم حل الأمر بشكل ودى، سائلا عن التعويض المناسب لهم، فيخبره المحامي أنهم يقدّرون التعويض بـ ٤ ملايين جنيه مصري، فيعده بدراسة الموضوع، ثم لا يتصل ثانية.
وللعلم، لا يبدو هذا المبلغ مبالغا فيه على الإطلاق، بالنظر لعدد الشرائط التى بيعت للأغنية خلال هذه السنوات، وعدد الساعات التى أذيعت فيها، فضلا عن الضرر المعنوي لنسبة قصيدة إلى غير صاحبها، وهذا أمر ربما لا يقدره إلا الشاعر نفسه.
ويتوفى الله جميع الخصوم، ولا يتبقى إلا ورثتهم، بما لا يعوق قانونا تعويض ورثة الشاعر، الذين احتاجوا فقط إلى 28 عاما للحصول على حكم بنسبة القصيدة إلى صاحبها، وثبوت حقه فى التعويض، فكم سيحتاج تعويضهم بالفعل من سنوات؟؟؟
ووفقا لما قاله أحد ورثة مخيمر، فإن حصيلة ما يجمعونه من الأداء العلنى لـ (يا مالكًا قلبى) لا يتجاوز ٢٠٠ جنيه مصري كل ٣ أشهر!!!!!!!
وفي ظني أن هذا المبلغ (الطائل) هو نظير إذاعة القصيدة بصوت (نجاح سلام) وهذا أمر نادر جدا (لعلنا نعرف لماذا) وليس بصوت العندليب، فهذا ما يذاع كثيرا، وبالطبع نعرف لمن تذهب عائدات طباعته وتوزيعه وإذاعته، وللعلم: يوجد التسجيل بصوت (نجاح سلام) في الإذاعة المصرية منسوبا لأحمد مخيمر، وبصوت العندليب منسوبا للأمير.
إنها جريمة مكتملة في حق شاعر، حتى لو تنطع المتنطعون وزعموا أن القصيدة على حنجرة العندليب مختلفة عنها لدى (نجاح سلام)، أو أن العندليب أو الأمير أو هما معا أخذا جزءا يسيرا منها وبنيا عليه، فهذا في حد ذاته ليس من حق أحد، على النحو الذي حدث.
وتبقى تساؤلات يسيرة ومشروعة: ما هو دور العندليب في هذه الأزمة؟ وما هو دور الموجي؟ ولماذا أبقى على اللحن نفسه رغم أن المسافة بين العملين عشر سنوات؟ أظنه كان ذكيا بما يكفي ليفعل هذا، حتى يشير إلى الجريمة، على نحو ما استطاع كفنان، ربما لم يملك شيئا آخر ليفعله.
وختاما .. كم مرة سنقتل شاعرا ونمشي مطمئنين في جنازته؟ أو لا نمشي، فهذا أمر لا يهم كثيرا، ومتى نبرأ إلى الله وإلى أنفسنا من أن نتورط في قهر الشعراء؟
وللعلم، فتحت هذا الملف، طمعا في أن نعرف فقط، فليس أكثر من المعرفة، إذا لم يكن في وسعنا شيء آخر.
هذا رابط القصيدة بصوت نجاح سلام.
------------------
بقلم: هشام محمود